وبفضل جهود سزكين صار معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية من أنشط المراكز التي اهتمّت بالتراث الإسلامي والعربي، وذلك في نشر العديد من المخطوطات طبق الأصل، وبإعادة نشر الكثير من الكتب التي سبق نشرُها باللغة العربية واللغات الأعجمية، وبتجمِيع المقالات والبحوث التي خصّت موضوعاً ما من مواضيع العلوم والتراث العربي، وقد أنجز المعهد في هذا المجال نشْرَ مئات المجلدات التي شكَّلتْ سَلاسلَ غطّت مُعظم مجالات العلوم مثل سلسلة الطب، وسلسلة الرياضيات، والفلك، وسلسلة الجغرافيا والرحلات، وسلسلة الموسيقى، وسلسلة البيطرة والبيزرة، وسلسلة الفيزياء والكيمياء، وغير ذلك من السلاسل، بالإضافة إلى إصدار "مجلة تاريخ العلوم العربية - الإسلامية" وفهرسة المراجع والدراسات العربية والإسلامية المنشورة باللغة الألمانية؛ وامتاز المعهد عن غيره من المعاهد بإنشاء متحف الآلات العربية والإسلامية الذي يتضمّن مُجسّمات لأكثر من ألف آلة تجسّد ماوصلته الصناعات العربية والإسلامية القديمة من تطوُّر في مُعظَمِ المجالات، وشكّلت الأساسَ الحقيقي للنهضة الصناعية المعاصرة، وتلك الآلات معروضة في معرض دائم بالمعهد بالإضافة إلى عرضها في معارض موسمية متنقلة في المدن العالمية.
كتاب: العلوم والتقنية في العالم الإسلامي :
ومن الكتب الموسوعية المهتمة بإحياء التراث كتاب: العلوم والتقنية في العالم الإسلامي، تأليف فؤاد سزكين، وقد صدرت من هذه الموسوعة باللغة العربية الطبعة الأولى من المجلد الأول سنة 1428 هـ/ 2007م. وكان صدورها عن منشورات: معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، في إطار جامعة فرانكفورت – جمهورية ألمانيا الاتحادية، ويقع المجلد الأول في 394 صفحة، ومن المعلوم أن هذا الكتاب قد صدر باللغة الألمانية سنة 2003م، في خمسة مجلدات من الحجم الموسوعي مزدانة بصور المخطوطات والآلات وغيرها بالألوان، وتضمُّ كافة مجلدات الكتاب علبة فاخرة.
الطبعة الألمانية :
أما الطبعة الألمانية؛ فيقع المجلد الأول منها في 218 صفحة، وهو مدخل لهذه الموسوعة العلمية الإسلامية العربية. والمجلد الثاني يقع في 226 صفحة، ويبحث في علم الفلك عند المسلمين. والمجلد الثالث، ويقع في 212 صفحة، ويبحث في علوم الجغرافيا، والملاحة البحرية، والساعات الشمسية والرملية وغيرها، والهندسة، والبصريات. والمجلد الرابع ويقع في 228 صفحة، ويبحث في الطبّ، والكيمياء، والمعادن والأحجار الكريمة. والمجلد الخامس ويقع في 236 صفحة، ويبحث في الفيزياء والتقنية، والهندسة المعمارية، والتقنية الحربية، والمعروضات القديمة.
ترجمات الكتاب الموسوعي :
لقد صدر أصل الكتاب بمجلداته الخمسة باللغة الألمانية، ثم صدر كاملا باللغة الفرنسية، وهو تحت الطبع كاملا باللغة التركية، وقد تُرجِمت منه ثلاثة مجلدات إلى اللغة الإنكليزية، والعمل مستمّر لترجمة المجلدين الباقيين، ولعلّ العمل في ترجمة الكتاب إلى اللغة العربية هو الأبطأ حيث لم يصدرْ منه سوى المجلد الأول، ولا يعلم إلا الله متى تصدر بقيةُ مجلدات الكتاب رغم أن العلوم التراثية المكتوبة باللغة العربية هي الأكثر والأغنى من بين لغات العالم في هذا الكتاب، وربما؛ ما كان للمجلد الأول أن يصدر لولا دعم نشره من قِبل بعض المؤسسات العربية وفي طليعتها جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في الرياض حسب ما أشار إليه الدكتور فؤاد سزكين في مقدمة الترجمة العربية.
محتويات المجلد الأول :
يشكِّلُ هذا المجلد مدخلاً للبحث في العلوم والتقنية في العالم الإسلامي، وفي بدايته مُقدمة النسخة المعربة من الكتاب، وتقع في صفحة واحدة، يليها فهرس محتويات المجلد، وبعده لمحة عامة عن محتويات المجلدات الخمسة التي تُكَوِّنُ الكتابَ؛ تليها المقدمة التي تضمَّنتْ عرضاً لجهود رُواد الاستشراق الذين سجَّلوا في فِكرهم الإنساني تقديرَهم للعرب والمسلمين على دورهم في تطوير العلوم، وفضل العلوم العربية والإسلامية في سياق التطور العالمي للعلوم، أمثال: يوهان جُتفريد هيردر (1744- 1803م) ويوهان فولفجانج جوتته (1749- 1832م) وكورت شبرَنغل (1766- 1833م) وألكساندر فون هومبولت (1769- 1859م) ، وبرز تقديرُ التراث العربي في أعمال جان جاك سيديو وابنه لوي إملي اللذين نشرا سنة 1834م الترجمة الفرنسية لكتاب أبي الحسن المراكشي في علم الفلك التطبيقي والآلات الفلكية، وفي سنة 1844م قدم سيديو الإبن دراسة مثيرة للإعجاب حول كتاب المراكشي.
وأعاد نشر دراسة سيديو الابن فؤاد سزكين في المجلد 42 ضمن سلسلة الرياضيات الإسلامية والفلك الإسلامي، وتبعت تلك الدراسات بحوث وتحقيقات جوزف توسن رينو (1795- 1867م) في مجال الجغرافيا، وعلم الآثار، والتقنية الحربية الإسلامية، وأوضح في أعماله تصوُّرَ وحدة تاريخ العلوم، ثم جاء أرنست رينان (1823- 1892م) فأصدر سنة 1853م كتاب ابن رشد والرشدية، فأثار دهشة مؤرخي العلوم الأوروبيين، ثم نشر فرانتس فوبكه نحو أربعين دراسة في الرياضيات العربية ما بين سنتي 1851، و 1864م، ومن دراساته رسالته المنشورة سنة 1851م تحت عنوان: جبر عمر الخيام، وقد أوضح في تلك الدراسة معالجة الخيام لمنهجية معادلات من الدرجة الثالثة، مما أثار دهشة الرياضيين في ذلك الزمن. وقد سرق تلك الدراسة أحد الكتاب العرب المعاصرين ونشرها في أكثر من مؤسسة. وتبعت دراساتِ فرانتس فوبكه دراساتُ آيلهارد فيدمان (1852- 1928م) وغيره من المستشرقين الذين أبرزوا الدَّورَ البنّاء للعرب والمسلمين في تطوير العلوم وتقدّمها.
وبعد المقدمة رتّب فؤاد سزكين الكتاب على شكل طبقات تاريخية حسْبَ القرون الهجرية من القرن الأول حتى القرن العاشر للهجرة/ من القرن السابع حتى القرن السادس عشر للميلاد. وتناول كلَّ قرنٍ على حِدة، ص: 1-150. وهنا يقول سزكين: "إن أخذَ العلوم العربية والإسلامية في الغرب وتمثُّلَها واجَهَ مُنذ النصف الثاني من القرن الثالث عشر؛ أي: إبّان فترةِ نشاطه رُوحاً عدائية ورفضاً شديداً؛ إنّ هذا التيار العدائي الذي كان مدفوعا إلى حدٍّ بعيدٍ بحافز ديني؛ والذي استمرّ رغم بعض المقاومة حتى إلى أوائل القرن التاسع عشر طَبَعَ بطابعٍ قوّى ذهنية التدوين التاريخي؛ وأسلوبَ عرضه منذ القرن السادس عشر للميلاد، وفي خضم هذا التيار اندفع مؤرخوا العلوم لأوّل مرّة في القرن الثامن عشر - كما يبدو – إلى تصوّرٍ لتاريخ العالم كأنه تعبير النهضة فيه، يعني بحكم تعريفه مُباشرة إنكارَ أية مكانة إبداعية للعلوم العربية الإسلامية في تاريخ البشرية الفكري. هكذا تمَّ في تقسيم غليظٍ غير واقعي لتاريخ العلوم اعتبار الظاهرةِ التي سُمّيتْ بالنهضة مواصلةً مباشرةً للعهد الإغريقي، بهذه القفزة الزمنية لا يتبقى للثقافة العربية والإسلامية في أحسن الأحوال إلاّ دور الوسيط الذي ما قام إلا بحفظ وترجمة كُتبٍ إغريقية مًعيّنة".
ويوضِحُ سزكين أوضاع بعض الومضات الاستشراقية المنصفة التي لم تؤثِّرْ على التيار العام الذي تجاهل دورَ العرب والمسلمين الحضاري، واعتبرَهم واسطةَ نقْلٍ لا أكثر ولا أقلّ، واستمرّ ذلك الوضعُ الشاذُّ حتى عارض ذلك التيار جورج سارطون (1884- 1956م) الذي يُعتبر "مؤرخ العلوم الوحيد الذي سعى إلى أخذ نتائج الأبحاث الاستعرابية بعين الاعتبار بشكل مُسْتَوْفَى، قام بذلك بصورة مثالية في مُؤلَّفِه: مدخل إلى تاريخ العلوم". الذي صدر في خمسة مجلدات في بالتيمور (1927- 1948م) "لكن يبدو أن النتائج التي توصَّل إليها لم تَحْظَ مع الأسف إلاّ بعناية أقلّ مما ينبغي في المؤلفات التاريخية التي كُتبتْ فيما بعد حوْلَ تاريخ فروع العلوم الطبيعية المفردة، ومما يُؤسَفُ له كذلك أنّ الكتب المدرسية لا تكادُ تظهَرُ فيها تصحيحاتٌ للتصوّر الموروث من التدوين التاريخي المعتاد للعلوم".
ويقول فؤاد سزكين: "إنَّ الجيل الذي أنتمي إليه نشأ في زمنٍ ترسَّخَ فيه هذا التصوّرُ في الكتب المدرسية، ولا يُؤمل حُصول تصحيحٍ واضِحٍ إلاّ من خلال أبحاثٍ مستقبلية قائمةٍ على أساسٍ عريض، غير أنه سيكون ذا أهمية حاسمة أنْ تُتاح نتائجَه لدائرةٍ من المهتمين واسعة ما أمكن، ومن طُرُق التعريف الناجعة أنْ تجري إعادةُ صُنعِ الآلات والأجهزة التي استُعمِلت، وطُوّرَتْ واختُرِعتْ في إطار العلوم الطبيعية والتقنية العربية والإسلامية، وإنَّ هذا الكاتلوك والمتحف الموصوفة فيه معروضاته فيه يسعى إلى هذا النوع من التعريف". وبعد هذا الكلام يُقدِّمُ سزكين صورةً تجسّدُ مكانةَ الثقافة العربية والإسلامية في إطار التاريخ العالمي للعلوم بتسلسُل تاريخي حَسْبَ قرونِ التاريخ الهجري، وما يُقابلهُ من القرون الميلادية.
ثُمَّ بَحَثَ فؤاد سزكين في القسم الثاني طُرُقَ أخذِ وتمثُّل العلوم العربية والإسلامية في الغرب، فقال: "حوالي مُنتصف القرن التاسع عشر الميلادي أخذ اهتمام المؤرخين يتَّجِهُ أكثر فأكثر إلى تطوُّر العلوم الطبيعية، وتقييم مكانة العلوم العربية والإسلامية تقييماً مزدرياً أكثر منه مُقدّرا.." ص: 153. ثم أوضح سزكين طرُق انتقال العلوم العربية والإسلامية إلى أوروبا، ص: 245، وذلك عن طريق إسبانيا، وطريق صقلية وجنوب إيطاليا، ص: 264، وأخْذ العلوم عن طريق بيزنطة، ص: 282، وخَتَمَ هذا الباب بكلمةٍ ختامية عالج فيها أسبابَ ترتيبِ كتابه على هذا المنهج، وناقش تطوّرات الإجحاف والإنصاف للتراث العربي والإسلامي من قِبل مؤرخي العلوم الغربيين والمستغربين، ص: 295.
وبحث في القسم الثالث موضوعَ بداية الرُّكود، وأسباب نهاية الإبداع في البيئة الثقافية العربية الإسلامية، فقال: "إنّ الإبداع أخذ يضعفُ حوالي منتصف القرن السادس عشر الميلادي إلى أنْ رَكَدَ مُنذ مُنقلَبِ القرن السادس عشر الميلادي إلى القرن السابع عشر الميلادي، بغَضِّ النظر عن حالاتٍ استثنائية قليلة". ص: 308.
وأعقب فؤاد سزكين ما تضمَّنه كتابُهُ بذِكْرِ المصادر العربية، ص: 329، والمصادر غير العربية، ص: 331، ثم أورد الفهارس، فذَكَرَ المؤلفات العربية، ص: 351، والمؤلفات غير العربية، ص: 356، وأسماء الأعلام العرب والأسماء المعربة، ص: 360، وأسماء الأعلام غير العربية، ص: 369، والمصطلحات والأماكن، ص: 378 – 393.
وتضمَّن هذا المجلد الأول من الكتاب بعضَ الصور، ولكنَّ المجلدات الأربعة الباقية؛ التي تُترجَم بعد؛ تزدانُ بأعدادٍ وفيرة من الصُّور الملونة التي تنقل القارئ إلى مُعايشة تطورات العلوم من خلال ما يُشاهده من صُورٍ وما يقرؤه من معلومات وشروح مفيدة، ولذلك نأملُ صُدور ترجمة بقيّة المجلدات إلى اللغة العربية أسوةً باللغات الأعجمية لعلّ المبهورين بالدعايات المغرضة يقفون على الصورة المشرقة التي يجهلونها عن حقائق تطوّر العلوم عند العرب والمسلمين، والله من وراء القصد.
---------------------------
موقع الدكتور محمود السيد الدغيم :
http://www.dr-mahmoud.com/content/view/1050/58
