يتفق الباحثون والمهتمون بأسرار اللغة العربية بأن هذه اللغة مقدسة مؤكدين في ذلك الحقيقة الدينية والتاريخية فهي من عوامل الإعجاز القرآني وهي لغة أهل الجنة.. كما أن التاريخيين يذهبون إلى أن اللغة الساميةالأم هي في واقعها اللغة العربية ، مرّت بمراحل طويلة من التطور حتى استقرت على ما هي عليه وأصبحت لغة الشعر والأدب منذ مائتي سنة قبل مجيء الإسلام على رأي الجاحظ في كتاب الحيوان .
وتكشف الدراسات اللغوية التاريخية أن الأحرف اللاتينية هي من اختراع العرب الكنعانيين الذين رفضوا اللغة الهيروغليفية التصويرية فجعلوا من هذه الأحرف رموزاً لمسمياتهم استناداً إلى الخط المسماري فكان الألف رمزاً لرأس الثور A واضعين له عينين ومادين الخط إلى خارج الحرف من الجهتين فهو "ألفا" أي ثور بلغتهم..
كذلك رسموا حرف الباء على شكل بيت فينيقي ثم جعلوه عمودياً B وهكذا فالفاء رمز لفم الإنسان ثم جعلوه أو رسموه على شكل إنسان يفتح فمه F أما حرف Y فهو رمز لوتد الخيمة والميم رمز لأمواج البحر M فأخذها عنهم اليونانيون ثم شاعت في العالم اللاتيني.
وتبدو عظمة اللغة العربية باستخدام الحركات في تغيير المعاني فمثلاً كلمة جَزع إذا كانت الفتحة على عين الكلمة "الزاي" لها معنى غير لو كانت الكسرة.. كذلك كلمة "خلة" تعطي ثلاثة معانٍ إذا ما استخدمنا الحركات الثلاث على فاء الكلمة "الخاء" ومثل ذلك كلمة "سُوء" بالضم غير ما عليه بالفتح وهكذا .
أما ظاهرة الاشتقاق في العربية وأثر الحركات فيها فهي تعبير عن سعة هذه اللغة وقدرتها على تنويع الصيغ اللغوية لمعانٍ متعددة يدركها العارفون بها .
هذه الحقائق وغيرها كثير جداً سلمت بها الدراسات وأقرتها إلا أن ما يهمنا هو وجهة نظر الطب الحديث في اللغة بشكل عام وفي العربية بشكل خاص .
فقد قامت مجموعة من الأطباء بإجراء تجارب على الحيوانات بعد أن اكتشفت أن هناك جزءاً في الدماغ خاصاً باللغة فوجدت أن للقرود ثلاثة أصوات تعبر فيها عن الرغبة والرهبة في حين تملك الدلافين تسعة أصوات تعبر بها عن حاجات محدودة.. أما النحل فقد كشفت الدراسة أن يستطيع أن يخبر عن موقع الطعام على بعد ثمانية كيلو مترات بشكل أفقي وتحت ضوء الشمس فتأتي النحلة المخبرة لتقوم بما يعرف برقصة "8" فيتبعها النحل إلى مكان الطعام وقد حاول هؤلاء العلماء استخدام كاشفات ضوئية ليلاً تعادل قوة ضوء الشمس إلا أن النحلة اخفقت في إيصال النحل إلى موقع الغذاء.. ثم إنهم جعلوا الطعام بشكل عمودي فوق المنحلة فكانت النتيجة أن أطالت النحلة رقصتها ثم إن النحل انتشر في كل الجهات وأخفق في الوصول إلى الطعام .
أما عن الإنسان فقد لاحظ العلماء أن الناطقين بالعربية يكون هذا "الفص" في الدماغ في أنشط حالاته مما يمنح صاحبه قدرة فائقة على التفكير وليس شرطاً أن يكون المتكلم بالعربية من أصل عربي بل يكون ذلك عند الصيني أو الهندي أو الإنكليزي أو الأفريقي وتقول التجارب بأن هذا الإنسان الأجنبي ما إن يبدأ بتعلم اللغة العربية حتى يبدأ هذا الجهاز بالعمل بصورة أكثر نشاطاً وحيوية فكان هذا سراً آخر يضيفه الطب الحديث إلى أسرار العربية .
ويدرك الجميع أن اللغة القومية لأي شعب هي موضع احترام وتقدير هذا الشعب مهما كان فيها من تعقيدات صوتية أو رسمية فعلى سبيل المثال لا الحصر نجد أن اللغة اليابانية تعاني من مشكلة كثرة حروفها التي تصل إلى عشرة آلاف حرف.. وعليه فإن المواطن الياباني حتى يتمكن من قراءة الجريدة اليومية فإنه يحتاج إلى الإلمام بأكثر من ثلاثة آلاف حرف منها ورغم التقدم الصناعي الهائل لليابان فإن هذه الدولة لم تتمكن من اختراع آلة كاتبة لحروفها ومع ذلك رفض اليابانيون استبدال لغتهم بلغة أخرى وأقروا مشروع "اليبننة" فكان ذلك وراء تقدمهم المذهل .
أما الصينيون فقد كانوا يتكلمون اللغة الإنكليزية حتى عام 1946 وهو عام الاستقلال وكانت في الصين عشرات اللغات المحلية التي تفرقهم.. فعمل ماوتي تونغ وهو عالم لغوي أيضاً على اتخاذ "الخانية" وهي لغة منطقة بكين لغة رسمية للبلاد على الرغم من أن هذه المنطقة تعاني من مشكلات كان من أهمها كثرة حروفها حتى عرفت بلغة الخمس أربعات "44444" أربعة وأربعين ألفاً وأربع مئة وأربعة وأربعين حرفاً قام ماوتي تونغ باختصارها إلى عشرة آلاف حرف ولا أحد يستطيع أن ينكر نجاح "الصيننة" في القضاء على الثالوث العدو للأمة الصينية المتمثل في المرض والجوع والأنواء الطبيعية .
أما في كوريا فإن المشكلة أعظم ففي عام الاستقلال 1946 لم يكن في كوريا من يجيد التكلم باللغة الكورية فأصدر قادتها قراراً تاريخياً باعتماد "الكورنة" الفورية والشاملة وراحوا يبحثون عن الذين يعرفون اللغة الكورية فلم يجدوهم إلا بين شيوخ وعجزة الريف الكوري فأحضروهم إلى المدن وكلفوهم بتدريس مبادئ هذه اللغة للمثقفين من معلمين وأطباء وقضاة ومهندسين وإداريين وضباط وبعد أشهر من هذه الحملة فتحت المدارس ونجحت الكورنة وبعد عشرين عاماً تحولت اللغة الكورية من لغة شبه بدائية إلى لغة الصناعة والعلم .
أما الكيان الصهيوني المسخ فعلى الرغم من أن اللغة العبرية كانت لغة المقابر فقط فإن الصهاينة عمدوا إلى تأسيس الجامعة العبرية "بهداسا" وفيها وضعت مخططات اغتصاب فلسطين وإقامة هذا الكيان المسخ.
ولهذا كله فإننا نعجب اليوم من دعوات الداعين إلى هدم اللغة العربية وتعجب أكثر من اتهاماتهم لهذه اللغة بالقصور فنراهم يجهدون أنفسهم في ابتداع معاول لهدمها بين داع إلى استبدال حروفها وبين داع إلى اعتماد العاميات المحلية إلى ثالث يتهم تراثها ويشوه فيه كما أننا نأسف أشد الأسف لهذه الإساءة المنظمة للشعر العربي وتراثه .
فالشاعر مخلوق ولد شاعراً بأن كرمه الله بهذه الموهبة وحباه بأذن موسيقية تسعفه في نظمه وبخيال مركب قادر على التقاط الصور بذكاء وبسيطرة متميزة على مفردات اللغة يصواغ منها ما يراه مناسباً.. وعليه فليس لأحد أن يصبح شاعراً بالقوة حتى إن كان عالماً باللغة أكثر من الأصمعي والمفضل الضبي..
ويروى أنه قيل للمفضل لم لا تقول الشعر وأنت أعلم الناس به ؟ .. قال : علمي به هو الذي يمنعني من قوله وأنشد:
وقد يقرض الشعر البكيُّ لسانه وتُعي القوافي المرء وهو لبيبُ
والعرب تقول :
يموتُ رديءُ الشعر من قبل أهله**وجيده يبقى وإن مات قائلُه
ومن الضحك المؤلم أن نسمع مصطلحات تعبر عن فوضى لغوية مثل قصيدة النثر كمن يقول : سكر الملح.. وعسل الفئران.. أو حليب التيوس.. أو شاي الفجل.. أو قهوة البقدونس.. أو دبس ورُب الماء.. أو رجولة الأنثى.. وأنوثة الرجل.. ولا ندري كيف تجتمع هذه الأشياء في الوقت الذي تتميز فيه اللغة العربية بأنها لغة البيان والوضوح وبهذا وصفها الرسول r بقوله الكريم : "إن من الشعر لحكمة.. وإن من البيان لسحرا" وعليه فإن العرب تسمي هذه الأشياء بالوهم والوهم هو فساد العقل .
ثم من منا جميعاً مهما كان حظه من اللغة من لا يستطيع أن يسوّد الصفحات بمثل هذه الخزعبلات ، إذا كان غير مطالب بوزن ولا معنى ولا صورة يستطيع أن يفتح كتاباً في الجغرافيا أو التاريخ أو حتى في الرياضيات ويأخذ من صفحة ما كلمتين ومن السطر الذي بعدهما ثلاث كلمات.. ومن صفحة أخرى أربع كلمات ومن أخرى كلمة ومن رابعة خمس كلمات وهكذا ثم يضمها إلى بعضها بشكل تلفيقي لتصبح قصيدة نثر لا يفهمها حتى ناظمها؟!
إن هذه الحداثة ليست تطوراً بل هي تراجع وقصور وعجز وليس كل تطور يعد إيجابياً وإلا لكان تطور الخلايا سرطانياً إيجابياً ؟!! ولكن هل يعتقد هؤلاء الشباب أنهم أول من بدأ هذا النوع من الكتابة وأن هذا النوع خاص بالعصر الحديث بالطبع الجواب لا.. ولقد عرف تاريخنا العربي أمثال هذه الحداثة وما أشبه اليوم بالبارحة فالذين تبنوا هذا النمط هم من الشعوبيين الحاقدين على الأمة وتراثها المجيد.. واليوم فإن أعلام الحداثة هم من الشعوبيبين وأشباههم لكن شبابنا المخلص الذي لا يشك أبداً بوطنيته وإخلاصه وحبه للأمة ينقاد مدفوعاً بنيات سليمة من أجل تقدم مجتمعه وخدمته ولا يدري أنه مستهدف لأنه كذلك وأنه يؤخذ من حيث لا يدري وعلى رأي الشاعر :
إذا كنت لا تدري فتلك مصيبة **وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
وحتى يتأكد كل من يقرأ هذا المقال من صحة ما جاء فيه فإني سوف أنقل له هذه الحادثة التاريخية : جاء في العقد الفريد لابن عبد ربه الجزء الثاني.. الصفحة 248 ما نصه :
دخل رجل من الحسبانية على المأمون فقال لثمامة بن أشرس : كلمه.. فقال له : ما تقول ؟ وما مذهبك ؟ .. فقال أقول إن الأشياء كلها من التوهم والحسبان وإنما يدرك منها الناس على قدر عقولهم ولا حق في الحقيقة فقال إليه ثمامة فلطمه لطمة سوّدت وجهه.. فقال يا أمير المؤمنين : يفعل بي مثل هذا في مجلسك ؟.. فقال له ثمامة : وما فعلت بك ؟.. قال : لطمتني .. قال : ولعل إنما دهنتك بالبان ثم أنشأ يقول :
ولعل آدم أمنا **والأب حوا في الحسابْ
ولعل ما أبصرت من **بِـيض الطيور هو الغرابْ
وعساك حين قعدت قمت **وحين جئت هو الذهابْ
وعسى البنفسج زنبقاً **وعسى البهار هو السذابْ
وعساك تأكل من خراك **وأنت تحسبُهُ كبـابْ
وشر المصائب ما يضحك !!
=================
موقع الدكتور عبد الحق الهواس :
http://www.geocities.com/al_hawwas/arabiclanguage.htm