الصوت والدلالة دراسة في ضوء التراث وعلم اللغة الحديث) ـــ الدكتور محمد بو عمامة*

إن اللغة ظاهرة صوتية تختلف اختلافاً كلياً عن سائر الرموز الأخرى غير اللغوية، ومن ثم فإن دراستها دراسة علمية تستوجب البدء بالأصوات بوصفها وحدات مميزة تنتج عنها آلاف الكلمات ذات الدلالات المختلفة.‏

وتجدر الإشارة إلى أن ما نود الحديث عنه في هذا السياق هو القيمة الدلالية للصوت أي الفونيم)، على أساس أن الفونيمات تلعب دوراً فعالاً في تحديد دلالات الكلمات.(1)‏

والفونيم كما يعرفه بعض اللغويين هو صوت نموذجي يحاول المتكلم تقليده. كما يعرفه بعضهم بأنه أصغر وحدة صوتية عن طريقها يمكن التفريق بين المعاني. والفونيم نوعان: قطعي Segmental، وفوقطعي Suprasgmental. ويشمل النوع الأول الصوامت والصوائت، وأما النوع الثاني فيشمل النبرات والأنغام والفواصل…)).(2)‏

إذن، النوع الأول من الفونيمات يشمل الحروف والحركات، والنوع الثاني يشمل النبر والتنغيم،وهذا ما سنركز عليه في تحليلنا هنا، مع عرض قضايا صوتية أخرى ستأتي في حينها.‏

وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن مسألة القيمة الدلالية للصوت مسألة قديمة قدم التفكير اللغوي، غير أن خير من فصل القول فيها- في تقديرنا- هم علماء العربية الذين كانت لهم في ذلك لفتات طريفة، ونظرات بارعة تنم على حسهم المرهف، وذوقهم الموسيقي السليم. وتتمثل القيمة الدلالية للصوت في الجوانب الآتية:‏

أ- التبديل: Substitution‏

نود أن نشير-بادئ ذي بدء- إلى أن التبديل الذي نريد الحديث عنه هنا ليس هو الإبدال بمفهوم القدماء، والذي يعني إقامة حرف مكان حرف آخر في كلمة واحدة والمعنى واحد، والذي يكون في الغالب الأعم إما ضرورة وإما صنعة واستحسانا، ويقابله في اللسانيات الحديثة مصطلح‏

Mutation، بل نعني بالتبديل إحلال صوت مكان صوت آخر بحيث يؤدي ذلك إلى حدوث تغير في دلالة الكلمة، وهذا النوع نجده بكثرة في مؤلفات اللغويين القدماء على الرغم من أنهم لم يشيروا إلى ذلك بتصريح العبارة. ويعد ابن جني)) واحداً من العلماء الذين اشتهروا بالبحث في الأصوات ودورها في تحديد دلالات الكلمات، وذلك نتيجة تعامله المستمر مع هذه الأصوات التي طبعت في ذهنه دلالات مختلفة.‏

فلقد أدرك بعبقريته الفذة أن للفونيمات دوراً كبيرا في تحديد دلالة الكلمات، ناهيك عن أن إبدال الصوامت ينتج عنه تغير في الدلالات، وإن كان ابن جني لم يشر إلى ذلك بصريح العبارة، إلا أن في كلامه ما يوحي بذلك. يقول في كتابه الخصائص)):‏

فأما مقابلة الألفاظ بما يشاكل أصواتها من الأحداث فباب عظيم واسع، ونهج متلئب عند عارفيه مأموم، وذلك أنهم كثيراً ما يجعلون أصوات الحروف على سمت الأحداث المعبر بها عنها، فيعدلونها بها ويحتذون عليها. وذلك أكثر مما نقدره، وأضعاف ما نستشعره.‏

من ذلك قولهم: خضم، وقضم، فالخضم لأكل الرطب، كالبطيخ والقثاء وما كان نحوهما من المأكول الرطب، والقضم للصلب اليابس، نحو: قضمت الدابة شعيرها ونحو ذلك.. فاختاروا الخاء لرخاوتها للرطب، والقاف لصلابتها لليابس، حذواً لمسموع الأصوات على محسوس الأحداث.‏

ومن ذلك قولهم: النضح للماء ونحوه، والنضح أقوى من النضح، قال الله سبحانه: فيهما عينان نضاختان).(3) . فجعلوا الحاء-لرقتها- للماء الضعيف، والخاء-لغلظها- لما هو أقوى منه)).(4)‏

إذن، لقد أدرك ابن جني بحسه المرهف أن الفونيمات تلعب دوراً هاماً في الدلالة، وأن الإبدال الذي يحصل بينها يولد دلالة جديدة. ونلاحظ ذلك في: خضم وقضم، ونضح ونضخ. فالخاء في المثال الأول تدل على الرخاوة، وبالتالي جاء الفعل خضم)) للدلالة على أكل الرطب، والقاف تدل على الشدة ومن ثم جاء الفعل قضم)) للدلالة على أكل اليابس. والشيء نفسه ينسحب على المثال الثاني، فالحاء لرقتها جعلت من الفعل نضح)) يدل على تسرب السائل في تأن وبطء، والخاء لغلظها جعلت من الفعل نضخ)) يدل على فوران السائل في قوة وعنف.‏

ويعزز ابن جني رأيه هذا بقوله: ومن ذلك القد طولا، والقط عرضا. وذلك أن الطاء أحصر للصوت وأسرع قطعا له من الدال. فجعلوا الطاء المناجزة لقطع العرض لقربه وسرعته، والدال المماطلة لما طال من الأثر وهو قطعه طولا)).(5)‏

ومن ذلك أيضاً قوله في المحتسب)): القبض بالضاد معجمة باليد كلها، وبالصاد غير معجمة بأطراف الأصابع. وذلك أن الضاد لتفشيها واستطالة مخرجها جعلت عبارة عن الأكثر، والصاد لصفائها وانحصار مخرجها وضيق محلها جعلت عبارة عن الأقل)).(6)‏

ويورد ابن جني أمثلة كثيرة من هذا القبيل تدعم رأيه هذا، حرصاً منه على اكتشاف المجهول من أسرار اللغة، وإماطة الغطاء عن الحقائق المستورة والعلل الخفية من خصائصها، وهذا كله عن طريق التأمل، وترديد الفكر، وكد النظر.‏

كما نظر ابن جني في الصوائت الحركات) ووجد أنها تلعب هي الأخرى الدور نفسه الذي تلعبه الصوامت، وأن إبدال الصوائت Apophonie يلعب هو الآخر دوراً مهماً في أداء دلالات مختلفة. فمن ذلك قوله: الذّل في الدابة ضد الصعوبة، والذّل للإنسان وهو ضد العز، وكأنهم اختاروا للفصل بينهما الضمة للإنسان، والكسرة للدابة، لأن ما يلحق الإنسان أكبر قدراً مما يلحق الدَّابة)).(7)‏

وبنظرته الفاحصة هذه يكون ابن جني قد حاز شرف السبق إلى مثل هذا التحليل، متقدماً بذلك جميع علماء اللغة المحدثين. فهذا الفيلسوف الهولندي بوص)) Pos يذهب إلى ما ذهب إليه ابن جني بخصوص القيمة الدلالية للصوت الفونيم). فهو يرى أن الانتقال من الفونيم الذي يدل على نفسه بنفسه إلى الكلمة التي تدل على شيء آخر لا يعد انتقالاً كبيراً، وبخاصة إذا وضع الإنسان في اعتباره-ولأول مرة- أن الكلمات تتألف من فونيمات، وأن المعاني الناتجة عن وضع الكلمات في تراكيب معينة تختلف اختلافاً جذرياً عن معاني الكلمات وهي مفردة)).(8)‏

فالذي يعنيه بوص)) بكلامه هذا هو أن الفونيم هو الذي يوحي بدلالة الكلمة، كما أن هذه الأخيرة هي التي توحي بدلالة الجملة.‏

كما نجد أن نظرة ابن جني هذه قد سبقت نظرة اللغوي الإنجليزي الشهير فيرث)) Firth الذي تحدث عما أسماه الوظيفة الفوناستيتيكية))، Phonaesthetic Function، ويعني بذلك تلك العلاقة القائمة بين الكلمات التي تبدأ بحرفين، مثل: ST أو SN أو SL وذلك في مثل: (9)‏

Stack: كومة، ركام، مقدار معين.‏

Stick: عصا، عود، قضيب.‏

Stub: أصل الشجرة الباقي بعد قطع جذعها.‏

Stud: خشبة تسمر عليها الألواح المستخدمة في تشييد جدران المنازل.‏

Slim: ينحل، يهزل… الخ.‏

Slit : يلوز، يضيق… الخ.‏

قلت، يذهب فيرث)) إلى أن الكلمات التي تبدأ بحرفي ST أو SN أو SL تنتمي كل مجموعة منها إلى معنى عام. وهي نظرة نجدها كذلك عند ابن جني حين قال:‏

واستعملوا تركيب ج ب ل) وج ب ن) و ج ب ر) لتقاربها في موضع واحد، وهو الالتئام والتماسك. منه: الجبل لقوته وتماسكه، وجبن إذا استمسك وتوقف وتجمع، ومنه جبرت العظم ونحوه إذا قويته)).(10)‏

وإذا أمعنا النظر في هذه الكلمات فإننا سنجد ما يلي:‏

في أمثلة فيرث)) نلاحظ أنه حصل في الفئة أ)) إبدال بين الصائتين Voyelles "a" و"I" وفي الفئة ب)) حصل إبدال بين الصامتين Consonnes "b" و"d"، وفي الفئة ج)) حصل إبدال بين الصامتين "m" و"t".‏

الشيء نفسه يصدق على أمثلة ابن جني، فلقد حصل إبدال بين حروف اللام والنون والراء، مع الاحتفاظ بالجذر ج ب). وفي كل هذه الأحوال تنتج دلالات جديدة كلما أبدل صائت بصائت أو صامت بصامت.‏

ومن علماء العربية الذين أدركوا هذه الظاهرة الصوتية العالم اللغوي ابن فارس)) في معجمه مقاييس اللغة)). فهو يورد كمّا كبيراً من الكلمات التي حصل فيها مثل هذا الإبدال، فأدى كل صامت دلالة تختلف عن الدلالة التي أداها صامت آخر، ومن هذه الأمثلة ما يلي:(11) .‏

فر: الفاء والراء يدلان على معان ثلاثة. الأول: الانكشاف، في قولهم: فرّ عن أسنانه إذا تبسم أي كشف عنها). والثاني: جنس من الحيوان في مثل: الفرير وهو ولد البقرة. والثالث: الخفة والطيش. يقال: رجل فرفار بمعنى طائش.‏

فز: يدل على الخفة.‏

فش: يدل على الانتشار وقلة التماسك.‏

فض: يدل على التفريق والتجزئة.‏

فظ: يدل على الكراهة.‏

فغ: يدل على محاكاة الصوت. يقولون: الفغفغة.‏

كما أورد ابن فارس في مقاييسه جملة من الألفاظ الأخرى التي تتألف من مادة واحدة وهي الفاء والراء ف. ر) وفونيم ثالث يغير معنى هذه المادة كلما حصل إبدال، ومن هذه الألفاظ:(12)‏

فرز، فرس، فرش، فرص، فرض، فرط، فرع، فرغ، فرق، فرك، فرم، فره، فري، فرت، فرث، فرج، فرح، فرخ، فرد، الخ… وكذلك مادة ق. ط) مع فونيم ثالث، في مثل: قطع، قطف، قطل، قطم، قطن، قطو، قطب، الخ…(13) .‏

ومن العلماء الذين تحدثوا عن هذه الظاهرة كذلك: ابن دريد)) والثعالبي)) والفارابي)). وقد أورد السيوطي في المزهر)) كماً كبيراً من الألفاظ التي أتى بها هؤلاء، وكلها تدور في فلك الإبدال وما تلعبه الفونيمات المبدلة من أدوار في تغيير دلالات الكلمات، ومن هذه الألفاظ:(14)‏

الجَمْجَمة: أن يخفي الرجل في صدره شيئاً ولا يبديه.‏

الحَمْحَمة: أن يردد الفرس صوته ولا يصهل.‏

الدحداح: الرجل القصير.‏

الرحراح: الإناء القصير الواسع.‏

الجَفْجَفة: هزيز الموكب وحفيفه في السير.‏

الحَفْحفة: حفيف جناحي الطائر.‏

الجرجرة: صوت جرع الماء في جوف الشارب‏

الخرخرة: صوت تردد النفس في الصدر.‏

الكهكهة: صوت ترديد البعير هديره.‏

القهقهة: حكاية استغراب الضحك.‏

الوعوعة: صوت نباح الكلب إذا ردده.‏

الوقوقة: اختلاط أصوات الطير.‏

الوكوكة: هديل الحمام.‏

الجف: وعاء الطلعة إذا جف.‏

الخف: الملبوس.‏

الشازب: الضامر من الإبر وغيرها.‏

الشاصب: أشد ضمراً من الشازب.‏

ومن ذلك أيضاً:‏

النقش في الحائط.‏

الرقش في القرطاس.‏

الوشم في اليد.‏

الوسم في الجلد.‏

- الضرب على مقدم الرأس صقعٌ‏

- وعلى القفا صفعٌ‏

- وعلى الخد ببسط الكف لطمٌ‏

- وبقبض الكف لكمٌ‏

- وبكلتا اليدين لدمٌ‏

- وعلى الجنب بالإصبع وخزٌ‏

- وعلى الصدر والجنب وكز ولكزٌ‏

- وعلى الحنك والذقن وهز ولهزٌ‏

ويقال أيضاً:‏

- خذفه بالحصى‏

- حذفه بالعصا‏

- قذفه بالحجر‏

ومنه أيضاً:‏

- إذا أخرج المريض صوتاً رقيقاً فهو: الرنين‏

- فإذا أخفاه فهو: الهنين‏

- فإذا أظهره فخرج خافتاً فهو: الحنين‏

- فإذا زاد فيه فهو: الأنين‏

- فإذا زاد في دفعه فهو: الخنين‏

ولقد كان لعلماء اللغة العرب المحدثين آراء متباينة بخصوص هذه القضية. فلقد انطلقوا من فكرة المناسبة الطبيعية بين الألفاظ ومعانيها))، وحصروا أنفسهم داخل هذه القضية، لينتهوا في الأخير إما إلى إنكار هذه المناسبة الطبيعية، وأما إلى الإقرار بها عن اقتناع كامل.‏

ولعل السيوطي هو الذي صرح بفكرة المناسبة هذه، وذلك عندما علق على الألفاظ التي أوردها في مزهره في باب مناسبة الألفاظ للمعاني)) قائلاً: فانظر إلى بديع مناسبة الألفاظ لمعانيها، وكيف فاوتت العرب في هذه الألفاظ المقترنة المتقاربة في المعاني، فجعلت الحرف الأضعف فيها والألين والأخفى والأسهل والأهمس لما هو أدنى وأقل وأخف عملاً أو صوتاً، وجعلت الحرف الأقوى والأشد والأظهر والأجهر لما هو أقوى عملاً وأعظم حساً…)).(15)‏

أقول إن السيوطي هو الذي صرح بفكرة المناسبة هذه، وذلك بعدما جمع مادته من مؤلفات سابقيه كسيبويه، وابن جني، والثعالبي، وابن دريد، ثم تابعه علماء عرب محدثون في هذه القضية، إلى أن انتهى أحدهم-وهو الدكتور إبراهيم أنيس- إلى وصف ما قاله ابن جني والثعالبي بتخيلات وتأملات تشبه أحلام اليقظة، وذلك في قوله: وهكذا نرى أن ابن جني كان ممن يؤمنون إيماناً قوياً بوجود الرابطة العقلية المنطقية بين الأصوات والمدلولات أو ما يسميه بعض المحدثين بالرمزية الصوتية، بل لقد غالى ابن جني في هذا ومعه الثعالبي صاحب فقه اللغة إذ جعل مجرد الاشتراك في أصلين فقط من الأصول الثلاثية دليلاً على الاشتراك في معنى عام لبعض الكلمات، فيقرر أن المعنى العام للتفرقة يكون بين صوتي الفاء والراء، والمعنى العام للقطع يكون بالقاف والطاء، إلى غير ذلك من تخيلات وتأملات تشبه أحلام اليقظة عند رجل اشتد ولعه باللغة العربية فتصور فيها ما ليس فيها، وأضفى عليها من مظاهر السحر ما لا يصح في الأذهان ولا تتصف به لغة من لغات البشر)).(16)‏

ويستمر الدكتور إبراهيم أنيس في إصراره على أن هؤلاء العلماء قد اشتد ولعهم بالبحث في المناسبة الطبيعية بين الألفاظ ومعانيها، لينتهي في الأخير إلى إنكار هذه القضية.‏

الواقع أن ما ذهب إليه الدكتور أنيس لا يعد بدعاً في الدرس اللغوي الحديث، بل سبقه إلى ذلك علماء لهم قدرهم في مجال البحث اللغوي. فهذا سوسير)) رائد علم اللغة الحديث يتحدث عما يسمى باعتباطية العلامة اللغوية L,arbitraire du signe linguisique، ويذهب إلى أن العلاقة بين الدال والمدلول علاقة اعتباطية، ويضرب لذلك مثلاً بكلمة Soeur، ويرى أنه لا توجد أية رابطة بين الفونيمات S.O.R وبين مدلولها، بل أنه يمكننا أن نعبر عن هذا المدلول بأي تتابع صوتي آخر مشابه، هذا بالإضافة إلى أن جميع لغات العالم تستعمل في التعبير عن هذا المفهوم كلمات تختلف اختلافاً جذرياً.(17)‏

وإذا كان الدكتور إبراهيم أنيس قد ذهب مذهب كثير من علماء اللغة الغربيين في رفض مثل هذه المناسبة الطبيعية، فإن محمد المبارك من الذين ناصروا هذه القضية ودافعوا عنها دفاعاً شديداً. ولقد خصص في كتابه فقه اللغة وخصائص العربية)) مبحثين خص بهما: القيمة التعبيرية للحرف الواحد في اللغة العربية، والوظيفة البيانية والقيمة التعبيرية للحروف في اللغة العربية. فهو بعد أن يستعرض كثيراً من أقوال ابن جني وغيره، يخلص إلى القول بأن ثمة أمثلة كثيرة في العربية تدل على التناسب الصوتي والتقابل الموسيقي في تركيب الكلمات وحروفها، ولكن هذه الملاحظات والأمثلة التي أوردها بعض اللغويين قديماً وحديثاً لا تكفي لإقامة نظرة عامة واستنباط قانون عام قبل توسيع أفق الملاحظة والاستقراء، وهي على كل حال تدل على ما في اللغة العربية من الخصائص الموسيقية في تركيب كلماتها، وعلى ما بينها وبين الطبيعة من تقابل صوتي وتوافق في الجرس، وذلك أول دليل تقدمه لنا العربية من خاصتها الطبيعية وعلى أنها بنت الفطرة والطبيعة)).(18)‏

ونظرة الأستاذ محمد المبارك هذه قد سبقت هي الأخرى بنظرات علمية لغوية غربية، تؤيد هذه العلاقة وتناصرها. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر العالم اللغوي يسبرسن)) الذي يذهب إلى أن مثل هذه العلاقة ليست مطردة في جميع كلمات اللغة، وأن الكثير من هذه الكلمات التي تتمثل فيها هذه الظاهرة تزول منها مع مرور الزمن، وأن كلمات أخرى تكتسب هذه السمة ثم تزول منها، وهكذا…(19)‏

والحقيقة أن ما ذهب إليه علماء العربية-على نحو ما بيناه- لا يعني المناسبة الطبيعية فحسب- لأن هذه الظاهرة ليست مطردة بالشكل الذي يجعلنا نجزم بأنهم مولعون بها على حد تعبير الدكتور أنيس- إنما هم يتحدثون عن نظرية الفونيم بمفهومها الحديث، وهي أن الفونيم هو أصغر وحدة صوتية عن طريقها يمكن التفريق بين المعاني. فكثير من ألفاظ اللغة تتحد من حيث مكوناتها وتختلف في وحدة صوتية صغرى يتغير بموجبها معنى هذه الكلمات.‏

فابن جني-كما أوضحنا ذلك من قبل- يتحدث عن مراحل معينة في نظرية الفونيم، إنه يركز على الثنائيات الصوتية التي تختلف من ناحية المخرج أو الصفات، ويرى أن تقارب معنى الكلمتين يكون نتيجة تقارب الصوتين. ولكن هذا لا يعني أن الكلمتين تحملان معنى واحداً، بل إن لكل كلمة معنى مخالفاً، ونلاحظ ذلك في مثل: الخضم والقضم، والأز والهز، والعسف والأسف… إلى غير ذلك من الأمثلة.‏

أما مسألة محاكاة أصوات الطبيعة أو ما يعرف بالأنوماتوبيا Onomatopée وعلاقتها بمناسبة اللفظ للمعنى، فتلك قضية تتعلق بنشأة اللغة الإنسانية، وكان لعلماء العربية القدامى كما لعلماء اللغة المحدثين آراء ونظريات خاصة بهذا المجال.‏

ب-التنوين Nounation‏

من الظواهر التي تتميز بها اللغة العربية عن اللغات الأخرى ظاهرة التنوين، وهي ظاهرة ذات أثر كبير في علوم العربية كالنحو، والصرف، والعروض، والقراءات، ولذلك اهتم بها النحاة واللغويون في القديم والحديث، وأفردوا لها أقساماً خاصة.‏

والتنوين عبارة عن نون ساكنة تلحق آخر الاسم لفظاً لا كتابة. وهذا هو التعريف الذي اتفق عليه النحاة مع اختلافات لفظية بسيطة. أما علماء الأصوات فالتنوين عندهم عبارة عن حركة قصيرة بعدها نون (20) ، وهم يشيرون-بذلك- إلى أن مثل هذه الظاهرة أي الحركة والنون معاً) خاضعة لنظام المقاطع.‏

ولقد كان للمستشرق الألماني برجشتراسر)) Bergestrasser رأي آخر بخصوص ظاهرة التنوين هذه، فهو يرى أن التنوين أصله ميم كما كان في الأكدية والسبئية مثل بيت Baitun بيت Baitin، بيتا Baitan، أصلها بيتمُ Bitum، وبيتِم Bitam، وبيتَم Baitam وكلمة إن)) فإنها في العبرية im...)).(21)‏

وبعد أن يذكر كثيراً من الكلمات التي أصل التنوين فيها ميم، وبعد أن يستعرض كثيراً من آراء نحاة العربية ولغوييها، يخلص إلى القول بأن أكثر ضلالات النحويين واللغويين القدماء نشأ عن جهلهم باللغات السامية)).(22)‏

المهم هو أن التنوين الذي هو ظاهرة صوتية يلعب دوراً دلالياً فعالاً. فهو يقوم نحوياً بما نستطيع أن نسميه الاختزال التركيب)).(23) أي أنه يأتي بديلاً عن حرف، أو كلمة، أو جملة.‏

فمن الأول ما نلاحظه في الأسماء الممنوعة من الصرف المعتلة الآخر، وذلك في مثل: غواش، وجوار، ودواع، ونواه، وقد جاء التنوين هنا بديلاً عن حرف الياء.(24)‏

ومن الثاني ما نجده بعد لفظتي كل)) أو بعض))، إذ يؤتى بالتنوين ويحذف المضاف إليه، وذلك في مثل: كُلُّ هالكٌ))، فإن المراد من هذه الجملة يكون مساوياً للمراد من جملة كل إنسان هالك))(25) . وكذلك في مثل: ظهرت نتيجة امتحان الطلبة فبعضٌ ناجحٌ وبعضٌ راسب))، أي: فبعض الطلبة ناجح وبعضهم راسب. نلاحظ في هذين المثالين أن التنوين الذي لحق كلاً من كل)) وبعض)) قد جاء بديلاً عن كلمتي إنسان)) والطلبة)).(25)‏

ومن الثالث ما نجده بعد إذ)) التي تأتي مضافاً إليه، وذلك في مثل قوله تعالى: يومئذٍ تحدّث أخبارها)(26) . يقول ابن يعيش: فالأصل يومئذْ تزلزل الأرض زلزالها، وتخرج الأرض أثقالها، ويقول الإنسان ما لها، فحذفت هذه الجمل الثلاث وناب منابها التنوين)).(27)‏

كما يقوم التنوين كذلك بوظيفة العمل، أي أنه إذا لحق اسم الفاعل مثلاً فإنه يعمل في الاسم الذي يليه بالنصب. ونلاحظ ذلك في قول الكسائي: اجتمعت وأبو يوسف عند هارون الرشيد، فجعل أبو يوسف يذم النحو ويقول ما النحو؟ فقلت- وأردت أن أعلمه فضل النحو- ماذا تقول في رجل قال لرجل: أنا قاتل غلامك، وقال آخر: أنا قاتل غلامك، أيهما كنت تأخذ به. قال: آخذهما جميعاً. فقال له هارون: أخطأت- وكان له علم بالعربية-. فاستحى وقال: كيف ذلك. فقال: الذي يؤخذ بقتل الغلام هو الذي قال أنا قاتل غلامك بالإضافة لأنه فعل ماض. فأما الذي قال أنا قاتل غلامك بلا إضافة فإنه لا يؤخذ لأنه مستقبل لم يكن بعد…)). (28)‏

نلاحظ في هذا المثال أن التنوين قد أدى دوراً دلالياً هاماً. فالذي قال: أنا قاتل غلامك بالتنوين) قد ربط الحدث بالمستقبل ومن ثم فلا جناية عليه، على العكس من القاتل: أنا قاتل غلامك بالإضافة)، فإن فعله قد ارتبط بالماضي فصار الحدث واقعاً، وبالتالي يكون قد أقر بالجناية.(29)‏

ومن الدلالات التي يؤديها التنوين كذلك: التفريق في بنية الكلمة من حيث التعريف والتنكير. فهو عندما يلحق المبنيات تكون وظيفته التنكير للكلمة الملحق بها. ولقد قسم النحاة هذا النوع إلى قسمين: قياسي وسماعي. أما القياسي فيكون في الأسماء المختومة بـ ويه)) كخالويه، وعمرويه، وسيبويه. فإذا أردت أن تتحدث عن واحد من هؤلاء، وكان معهودا بينك وبين من تخاطبه، معروفاً بهذا الاسم، لا تختلط صورته في الذهن بصورة غيره، فإنك تنطق باسمه من غير تنوين، وأنت بهذا تتكلم عنه كما تتكلم عن الأعلام الأخرى، التي يدل الواحد منها على فرد خاص بعينه، مثل: محمد، أو صالح، أو علي.‏

أما إذا أتيت بالتنوين في آخر الكلمة، فإن المراد يتغير إذا تصير كمن يتحدث عن شخص غير معين، لا يتميز عن غيره من المشاركين له في الاسم، وكذلك حين تتحدث عن رجل أي رجل مسمى بهذا الاسم.‏

وأما السماعي فيكون في أسماء الأفعال، وأسماء الأصوات، وذلك مثل: صه، وايه، وغاق. فهذه الكلمات وأشباهها تكون منونة حيناً، وغير منونة حيناً آخر، كأن تسمع شخصاً يتحدث في أمر معين لا يهمك سماعه، فتخاطبه بقولك: صه بسكون الهاء)، تريد منه السكوت عن الكلام في هذا الأمر المخصوص الذي يتحدث فيه… أما إذا خاطبته بقولك: صه بالتنوين) فيكون مرادك حينئذ طلب السكوت عن الكلام في جميع الموضوعات لا في موضوع معين)).(30)‏

هذا وللتنوين وظائف أخرى كثيرة، اقتصرنا على ذكر أهمها، والتي نعتقد أنها واضحة المعالم من بنية الدلالة.‏

ج-النبر Accent‏

لعلماء اللغة المحدثين تعريفات عديدة للنبر، تتفق جميعها عل أنه الضغط على مقطع معين بحيث يكسبه ذلك سمة الوضوح السمعي عن المقاطع الأخرى، وهذه بعض التعريفات:‏

إعطاء مزيد من الضغط أو العلو لمقطع من بين مقاطع متتالية.(31)‏

إشباع مقطع من المقاطع، وذلك بتقوية ارتفاعه الموسيقي، أو شدته، أو مداه، أو عدة عناصر منها في آن واحد.(32)‏

وضوح نسبي للصوت أو المقطع، مقارنة ببقية الأصوات والمقاطع في الكلام.(33)‏

بذل طاقة معينة عند أداء الصوت أو المقطع من طرف أعضاء النطق.(34)‏

وقد اختلفت آراء هؤلاء العلماء أعني علماء اللغة المحدثين) بخصوص وجود ظاهرة النبر في اللغة العربية الفصحى. ففي حين يذهب كارل بروكلمان)) K. Brockelman- وهو من العارفين باللغات السامية- إلى أن النبر موجود في اللغة العربية ويتوقف على كمية المقطع فإنه يسير من مؤخرة الكلمة نحو مقدمتها، حتى يقابل مقطعاً طويلاً فيقف عنده، فإذا لم يكن في الكلمة مقطع طويل فإن النبر يقع على المقطع الأول منها))(35) ، يذهب برجشتراسر)) إلى أن ظاهرة النبر نادرة في اللغة العربية الفصحى، عكس اللهجات العربية التي تكثر فيها هذه الظاهرة.(36)‏

وأما الدكتور إبراهيم أنيس فيذهب إلى أنه لا يوجد لدينا دليل مادي يهدينا إلى مواضع النبر في اللغة العربية كما نطق بها الأقدمون في العصور الإسلامية الأولى، إضافة إلى أن المؤلفين القدماء لم يتناولوا في مؤلفاتهم هذه الظاهرة.(37)‏

الشيء نفسه يذهب إليه الدكتور أحمد مختار عمر، إذ يرى أن اللغة العربية لا تستخدم النبر كملمح تمييزي، وأننا لا نملك دليلاً مادياً يبين كيف كان الأقدمون ينبرون كلماتهم، على أساس أن قدماء اللغويين العرب لم يهتموا بتسجيل هذه الظاهرة.(38)‏

ويصرح الدكتور عبد الرحمن أيوب أن النبر لم يحظ باهتمام علماء اللغة العرب القدامى.(39)‏

وبعد: هل صحيح أن علماء العربية لم يتناولوا في مؤلفاتهم قضية النبر هذه؟ أو أنهم أشاروا إليها ولكن بأسماء ليست معروفة في علم اللغة الحديث؟‏

الحقيقة أن هناك من العرب من عرف النبر بمعنى الهمز. قال ابن منظور)): والنبر همز الحرف، ولم تكن قريش تهمز في كلامها. ولما حج المهدي قدم الكسائي يصلي في المدينة فهمز، فأنكر أهل المدينة عليه وقالوا: تنبر في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقرآن)).(40)‏

ومصطلح النبر هذا أشار إليه ابن جني بمعنى تطويل بعض حركات الكلمة وسماه مطل الحركة)). قال: وحكى الفراء عنهم: أكلت لحماً شاة، فمطل الفتحة فأنشأ عنها ألفا. ومن إشباع الكسرة ومطلها ما جاء عنهم من الصياريف، والمطافيل والجلاعيد)).(41)‏

ويقول في موضع آخر: وذلك قولهم عند التذكر مع الفتحة في قمت: قمتا، أي قمت يوم الجمعة، ونحو ذلك، ومع الكسرة: أنتي، أي أنت عاقلة، ونحو ذلك، ومع الضمة: قمتو، في قمت إلى زيد ونحو ذلك)).(42)‏

وما سماه ابن جني المطل)) سماه سيبويه الإشباع)). يقول: فأما الذين يشبعون فيمططون، وعلامتها واو وياء، وهذا تحكمه لك المشافهة، وذلك قولك: يضربها، ومن مأمنك. وأما الذين لا يشبعون فيختلسون اختلاسا. وذلك قولك: يضربها ومن مأمنك، يسرعون اللفظ. ومن ثم قال أبو عمرو إلى بارئكم)).(43) ويدلك على أنها متحركة قولهم: من مأمنك فيبينون النون، فلو كانت ساكنة لم تحقق النون)).(44)‏

من خلال ما تقدم نستنتج أن قدامى اللغويين العرب لم يعرفوا النبر بمعنى الضغط على مقطع من مقاطع الكلمة. وهذا هو وجه الاختلاف بينهم وبين علماء اللغة المحدثين. ولعل ذلك راجع إلى كونه أي النبر) لا يقوم بوظيفة دلالية في العربية الفصحى، سواء أكان ذلك عن طريق الضغط أم المطل أم الإشباع. وهذا يعد في نظر الدكتور إبراهيم أنيس ميزة في اللغة العربية. يقول: ولحسن الحظ لا تختلف معاني الكلمات العربية، ولا استعمالها باختلاف موضع النبر فيها)).(45)‏

وإذا كان النبر ليس ذا ملمح تمييزي في العربية الفصحى، فإن العامية العربية يلعب فيها النبر دوراً دلالياً هاماً. فقد يستخدم النبر في العامية ليكون مميزاً بين أكثر من معنى للكلمة الواحدة. فكلمة قلم) يكون النبر فيها على المقطع الأول عندما يراد بها الإخبار، أو الإثبات، أو الإجابة عن سؤال، مثل: ماذا بيدك؟ أو ماذا في حقيبتك؟ فتكون الإجابة قلم) بنبر قوي على المقطع الأول. أما إذا استخدمت كلمة القلم) ليراد بها الاستفهام في العامية أو التعجب فإن النبر القوي ينتقل إلى المقطع الثاني، كأن نقول قلم) ونحن نريد أن نقول: هل معك قلم…؟ أو في جيبك قلم…؟))(46)‏

وأما في اللغات الأخرى كالإنجليزية والفرنسية فإن النبر فيها ذو وظيفة دلالية. ففي الإنجليزية-مثلاً- نجد أن النبر إذ وقع على المقطع الأول كانت الكلمة اسماً، أما إذا وقع على المقطع الثاني فتكون الكلمة فعلاً. مثال ذلك:(47)‏

اسم فعل‏

Increase In,crease‏

Compact Com,pact‏

Subject Sub,ject‏

اسم فعل‏

Accent Ac,cent‏

Conduct Con,duct‏

ج-التنغيم Intonation‏

التنغيم عبارة عن تنويعات صوتية تكسب الكلمات نغمات موسيقية متعددة. ولقد كان لعلماء اللغة المحدثين تعريفات مختلفة، نذكر منها ما يلي:‏

- هو عبارة عن تتابع النغمات الموسيقية أو الإيقاعات في حدث كلامي معين.))(48)‏

- هو المصطلح الصوتي الدال على الارتفاع =الصعود) والانخفاض =الهبوط) في درجة الجهر في الكلام.))(49)‏

- هو رفع الصوت وخفضه في أثناء الكلام، للدلالة على المعاني المختلفة للجملة الواحدة.))‏(50)‏

- هو الإطار الصوتي الذي تقال به الجملة في السياق.))(51)‏

تتفق هذه التعريفات جميعها على أن التنغيم عنصر صوتي تتراوح شدته بين الارتفاع والانخفاض، وذلك على مستوى الحدث الكلامي.‏

ولقد فرق بعض اللغويين بين مصطلحين أساسيين هما: النغمة Ton والتنغيم Intonation. فأما النغمة فتكون على مستوى الكلمات المفردة، في مثل: نعم، لا، ولد، الخ… وأما التنغيم فيكون على مستوى الجملة. (52)‏

ويتفق جميع علماء اللغة المحدثين- على اختلاف مدارسهم- على أن التنغيم يقوم بدور دلالي في بعض اللغات كالصينية واليابانية، ولا يقوم بمثل هذه الوظيفة في بعض اللغات الأخرى كالعربية مثلاً. ويزعمون أن قدامى اللغويين العرب لم يسجلوا هذه الظاهرة في كتبهم لأنها ليست ذات قيمة صرفية أو نحوية. فهذا برجشتراسر)) يقول: … فتعجب كل العجب من أن النحويين والمقرئين القدماء لم يذكروا النغمة ولا الضغط أصلاً. غير أن أهل الأداء والتجويد خاصة رمزوا إلى ما يشبه النغمة، ولا يفيدنا ما قالوه في شيء، فلا نص نستند عليه في إجابة مسألة كيف كان حال العربية الفصيحة في هذا الشأن.))(53)‏

وهذا الدكتور رمضان عبد التواب يقول: ولم يعالج أحد من القدماء شيئاً من التنغيم ولم يعرفوا كنهه. غير أننا لا نعدم عند بعضهم الإشارة إلى بعض آثاره في الكلام، للدلالة على المعاني المختلفة.))(54)‏

نلاحظ من خلال هذين القولين مدى التناقض الصريح الذي وقعا فيه. فهما من جهة يتعجبان ويجزمان قطعا بأن القدماء لم يعالجوا هذه القضية في مؤلفاتهم، ولكنهما- من جهة أخرى- لا ينفيان وجودها عند بعضهم كابن جني وبعض من أهل الأداء والتجويد.‏

والحقيقة-في نظري- أن المسألة ليست مسألة نفي أو إثبات، بقدر ما هي مسألة استقراء، وإعادة قراءة للتراث. فمن المسلّم به أن لكل عصر منهجه، ومصطلحاته، ولكل باحث طريقته في تسجيل الظواهر اللغوية. فإذا كان علم اللغة الحديثة يميل إلى التخصص في كثير من الفروع اللغوية، حتى أصبح كل فرع منها علم قائم بذاته، فإن الدراسات اللغوية القديمة يغلب عليها طابع الإلمام بكل هذه الفروع، بل إن العرف الذي كان سائداً آنذاك هو أن العالِم لأيون عالِما بحق إلا إذا كان ضليعاً في جميع الفروع اللغوية. يقول ابن قتيبة: وليست كتبنا هذه لمن لم يتعلق من الإنسانية إلا بالاسم، ولم يتقدم من الأداة إلا بالقلم والدواة، ولكنها لمن شدا شيئاً من الإعراب، فعرف الصدر والمصدر، والحال والظرف، وشيئاً من التصاريف والأبنية، وانقلاب الياء عن الواو، والألف عن الياء، وأشباه ذلك.))(55)‏

وفي هذا القول-كما نرى- إشارة صريحة إلى أن اللغوي الحقيقي هو ذلك الذي يكون على دراية بالمسائل الصوتية، والصرفية، والنحوية، والدلالية، وهي كلها فروع علم اللغة الحديث.‏

وبعد: هل كان للغويين العرب القدماء حديث عن التنغيم؟ وإذا كان الجوابنعم)) فتحت أي مصطلح عالجوا هذه القضية؟‏

رأينا قبل قليل أن علماء العربية لا يفصلون في دراساتهم بين القضايا النحوية، والصرفية، والصوتية، وغير ذلك، ومن ثم فإن نظرة فاحصة في مختلف أبواب كتب التراث تكشف لنا عن كثير من القضايا الصوتية التي عالج بها القدماء مسائل نحوية، ومن بين هذه القضايا قضية التنغيم.‏

فهذا ابن جني مثلاً يتحدث في كتابه الخصائص)) عن مسوغات حذف الصفة، ويورد في ذلك حديثاً ممتعاً هذا نصه: وقد حذفت الصفة ودلت الحال عليها. وذلك فيما حكاه صاحب الكتاب من قولهم: سير عليه ليل، وهم يريدون: ليل طويل. وكأن هذا إنما حذفت فيه الصفة لما دل من الحال على موضعها. وذلك أنك تحس في كلام القائل لذلك من التطويح والتطريح والتفخيم والتعظيم ما يقوم مقام قوله: طويل أو نحو ذلك. وأنت تحس هذا من نفسك إذا تأملته، وذلك أن تكون في مدح إنسان والثناء عليه، فتقول: كان والله رجلاً! فتزيد في قوة اللفظ بـالله) هذه الكلمة، وتتمكن في تمطيط اللام وإطالة الصوت بها وعليها) أي رجلاً فاضلاً أو شجاعاً أو كريماً أو نحو ذلك. وكذلك تقول: سألناه فوجدناه إنساناً! وتمكن الصوت بإنسان وتفخمه، فتستغني بذلك عن وصفة بقولك: إنساناً سمحا أو جواداً أو نحو ذلك.))(56)‏

فهذا الحديث الممتع لابن جني يدل على أنه أدرك بفكره الثاقب أن التنغيم وتعبيرات الوجه التي تصاحب قول القائل تلعب دوراً دلالياً هاماً، إذ تساعد في فهم كثير من القضايا النحوية. وأعتقد أن لا أحد ينكر بأن مصطلحات: التطويح، والتطريح، والتفخيم، والتعظيم، والتمطيط، كلها وسائل تنغيمية تصدر عن المتكلم، وأي واحد من هذه المصطلحات- في نظري- يمكن أن يقابل مصطلح التنغيم في علم اللغة الحديث.‏

ومن ذلك أيضاً ما ذهب إليه ابن يعيش)) وهو يتحدث عن أسلوب الندبة حيث يقول: أعلم أن المندوب مدعو ولذلك ذكر مع فصول النداء لكنه على سبيل التفجع، فأنت تدعوه وإن كنت تعلم أنه لا يستجيب، كما تدعو المستغاث به وإن بحيث لا يسمع كأن تعده حاضراً.‏

وأكثر ما يقع في كلام النساء لضعف احتمالهن وقلة صبرهن، ولما كان مدعواً بحيث لا يسمع أتوا في أوله با أو وا) لمد الصوت، ولما كان يسلك في الندبة أو النوح مذهب التطريب زادوا الألف آخر للترنم)).(57)‏

وهنا نجد ابن يعيش يستعمل مصطلحين آخرين يقابلان مصطلح التنغيم، وهما: التطريب والترنم.‏

ومما ذكره السيوطي بخصوص هذه القضية كذلك قوله: حدث المرزباني عن إبراهيم ابن إسماعيل الكاتب قال: سأل اليزيديُ الكسائيَ بحضرة الرشيد فقال: انظر أفي هذا الشعر عيب؟ وأنشده…‏

لا يكون العيرُ مهراً لا يكون المهرُ مهرُ‏

فقال الكسائي قد أقوى الشاعر. فقال له اليزيدي: انظر فيه. فقال: أقوى، لابد أن ينصب المهر الثاني على أنه خبر كان. فضر اليزيدي بقلنسوته الأرض وقال: أنا أبو محمد، الشعر صواب، إنما ابتدأ فقال المهر مهر)).(58)‏

إذن، لقد ذهب اليزيدي-بفطنته- إلى أن التنغيم لعب هنا دلالة نحوية كبيرة. فالقراءة السليمة لهذا البيت تكون بتحقيق سكتة على كلمة لا يكون)) الثانية، مع مط قليل في الصوت، بحيث تكون القراءة كما يلي: لا يكون العبر مهرا لايكون))، ومن ثم فإن لا يكون)) الثانية جاءت توكيداً لفظياً لما قبلها.‏

هذه بعض من المقتطفات التي أعتقد أنها إشارة إلى ظاهرة التنغيم، والفرق- فيما أرى- يكمن في وضع المصطلح ليس غير.‏
----------------
الهوامش:‏

(1) ينظر الدكتور محمد أحمد أبو الفرج: مقدمة لدراسة فقه اللغة، دار النهضة العربية بيروت الطبعة الأولى 1969م، ص132 وما بعدها.‏

(2) Al-Khuli M.A) : A Dictionary of theoretical linguistics. Librairie de Liban Beirut. First edition 1982, p209‏

(3) سورة الرحمن: 66‏

(4) ابن جني: الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الهدى للطباعة والنشر بيروت بلا تاريخ، 2/ 157-158‏

(5) نفسه: 2/158‏

(6) ابن جني: المحتسب، تحقيق علي النجدي ناصف والدكتور عبد الحليم النجار والدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي، القاهرة 1368هـ 2/55‏

(7) ابن جني: المحتسب 2/18‏

(8) Ullman S: The principles of semantics. Basic Blackwel, OXFord 1957, pp 31-32‏

(9) Firth J.R) : Papers in linguistics. Oxford university press. London 1957, pp 44-46‏

(10) ابن جني: الخصائص 2/149‏

(11) ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، دار الجليل بيروت، الطبعة الأولى 1991م 4/438-441‏

(12) نفسه 4/485 وما بعدها‏

(13) نفسه 5/101-106‏

(14) ينظر السيوطي: المزهر في علوم اللغة، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم وآخرين دار التراث بالقاهرة الطبعة الثالثة بلا تاريخ) 1/52-55‏

(15) نفسه 1/53‏

(16) الدكتور إبراهيم أنيس: من أسرار اللغة، مكتبة الأنجلو المصرية بالقاهرة الطبعة الثانية 1972م، ص126‏

(17) De Saussire F) : Cours de linguistique générale. Entreprise nationale des arts graphiques Reghaia Algérie 1991, p110‏

(18) محمد المبارك: فقه اللغة وخصائص العربية، دار القلم بيروت 1968 ص261‏

(19) jespersen o): Language its nature ,deseelopent and origin. Lonolon 1964. pp396-402.‏

(20) إبراهيم أنيس: مرجع سابق ص239‏

(21) ج. برجشتراسر: التطور النحوي للغة العربية، مطبعة السماح بالقاهرة 1929 ص17‏

(22) نفسه ص33‏

(23) هذا المصطلح يقابل ما يسميه النحويون العوض) )‏

(24) ينظر ابن هشام: أوضح المسالك دار الجيل بيروت الطبعة الخامسة 1979، 1/15 وينظر أيضاً شرح ابن عقيل دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع بيروت الطبعة السادسة عشرة 1979 1/18‏

(25) ينظر الدكتور عوض المرسي جهاوي: ظاهرة التنوين في اللغة العربية، مكتبة الخانجي بالقاهرة ودار الرفاعي بالرياض، الطبعة الأولى 1982 ص99-100، وينظر أيضاً الدكتور أحمد كشك: من وظائف الصوت اللغوي محاولة لفهم صرفي ونحو ودلالي) ، مطبعة المدينة بالقاهرة الطبعة الأولى 1983 ص14‏

(26) سورة الزلزلة: 4‏

(27) ابن يعيش: شرح المفصل، عالم الكتب بيروت بلا تاريخ) 9/30‏

(28) السيوطي: الأشباه والنظائر تحقيق طه عبد الرؤوف سعد، القاهرة 1975، 3/245‏

(29) ينظر أحمد كشك: مرجع سابق ص15‏

(30) عوض المرسي جهاوي: مرجع سابق ص89-90، وشرح ابن عقيل: 1/17، وأوضح المسالك: 1-14‏

(31) ماريو باي: أسس علم اللغة، ترجمة الدكتور أحمد مختار عمر، عالم الكتب بالقاهرة الطبعة الثانية 1983 ص93‏

(32) جان كانتينو: دروس في علم أصوات العربية، ترجمة الدكتور صالح القرمادي سنة 1969 ص188‏

(33) ينظر الدكتور تمام حسان مناهج البحث في اللغة، الطبعة الأولى 1955 ص160‏

(34) ينظر الدكتور كمال محمد بشر: علم اللغة العام: الأصوات، القاهرة 1970 ص210‏

(35) كارل بروكلمان: فقه اللغات السامية، ترجمة الدكتور رمضان عبد التواب، الرياض 1977 ص45‏

(36) ينظر برجشتراسر: مرجع سابق ص46-47‏

(37) ينظر الدكتور إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثالثة 1976 ص46‏

(38) ينظر الدكتور أحمد مختار عمر: دراسة الصوت اللغوي، الطبعة الأولى 1976 ص307‏

(39) ينظر الدكتور عبد الرحمن أيوب: محاضرات في اللغة، مطبعة المعارف بغداد 1966 ص145‏

(40) ابن منظور: لسان العرب، دار صادر بيروت، الطبعة الأولى 1992، 5/189‏

(41) ابن جني: الخصائص 3/123‏

(42) نفسه 3/129-130‏

(43) ابن منظور: لسان العرب، دار صادر بيروت، الطبعة الأولى 1992، 5-189‏

(44) سيبويه: الكتاب، تحقيق عبد السلام محمد هارون، نشر مكتبة الخانجي بالقاهرة ودار الرفاعي بالرياض، الطبعة الثانية 1983، 4/202‏

(45) إبراهيم أنيس: الأصوات اللغوية، ص175‏

(46) الدكتور محمد علي رزق الخفاجي: علم الفصاحة العربية، دار المعارف القاهرة، الطبعة الثانية 1982، ص190-191‏

(47) ينظر الدكتور محمود السعران: علم اللغة مقدمة للقارئ العربي) ، دار الفكر العربي القاهرة بلا تاريخ) ص210. وينظر الدكتور كريم زكي حسام الدين: أصول تراثية في علم اللغة، مكتبة الأنجلو المصرية، الطبعة الثانية 1985، ص187. وينظر محمد علي رزق الخفاجي: مرجع سابق ص189‏

(48) ماريو باي: مرجع سابق، ص93‏

(49) محمود السعران: مرجع سابق، ص210‏

(50) الدكتور رمضان عبد التواب: المدخل إلى علم اللغة ومناهج البحث اللغوي، مكتبة الخانجي القاهرة، الطبعة الثانية 1985، ص106‏

(51) الدكتور تمام حسان: اللغة العربية معناها ومبناها، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1973، ص226‏

(52) ينظر كريم زكي حسام الدين: مرجع سابق، ص189‏

(53) برجشتراسر: مرجع سابق، ص46‏

(54) رمضان عبد التواب: المدخل إلى علم اللغة، ص106‏

(55) ابن قتيبة: أدب الكاتب، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة التجارية بالقاهرة 1355هـ، ص12‏

(56) ابن جني: الخصائص، 2/370-371‏

(57) ابن يعيش: مرجع سابق، 2-13‏

(58) السيوطي: الأشباه والنظائر، 3/245‏

* كلية الآداب = جامعة باتنه- الجزائر.‏
------------------
نشر هذا البحث في :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 85

Patike

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: