الصّوتيات عند ابن جني ـــ بَدر الدين قاسم الرفاعي

منذ القرن الثاني للهجرة وضع النحاة العرب أصول النحو. وينهض كتاب "العين" للخليل بن أحمد (100-175هـ) دليلاً ساطعاً على أن العرب قد أولوا عناية بالغة لتصنيف الحروف وكيفية إدغامها وإبدالها وحذفها وتشديدها. ثم في نهاية الكتاب وفي أعقاب فصول ضافية في الصرف والنحو تطرّق سيبويه لكيفية النطق بالحروف وهو الموضوع الذي تفتح به عامة أبحاث الصوتيات.‏

وعلى نهج سيبويه تقريباً سار الزجاجي (في المئة الرابعة) والزمخشري (في المئة السادسة) الذي عقد في كتابه "المفصل" باباً خاصاً أسماه "المشترك" أي ما يشترك فيه الاسم والفعل والحرف. كما نجد ابن يعيش (في القرن السابع الهجري) في شرحه "المفصل" وابن الحاجب (في القرن السابع) في كتابه "الشافية" ورضي الدين الاستراباذي (في القرن السابع) في شرح "الشافية" ينهجون جميعاً نهج سيبويه ويعتبرون الأبحاث الصوتية جزءاً من أجزاء النحو.‏

أما ابن جني (322-392) فقد سلك في بحث الصوتيات مسلكاً آخر إذ عقد لها كتاباً خاصاً عنوانه "سر صناعة الإعراب". عرض في مقدمته لكل حرف على انفراد ولم يكن غرضه، على حد قوله، "ذكر هذه الحروف مؤلفة لأن ذلك كان يقود إلى استيعاب جميع اللغة وهذا مما يطول جداً. وليس عليه عقدنا هذا الكتاب وإنما الغرض منه ذكر أحوال الحروف منفردة أو منتزعة من أبنية الكلم التي هي مصوغة فيها" ودراسة الحروف على هذا النسق يعتبرها ابن جني علماً قائماً بحد ذاته لا يقل أهمية عن الصرف والنحو. ويريد صاحبنا أن يتجشم المضض لكشف أسرار هذا العلم الذي يشتمل على "جميع أحكام حروف المعجم وأحوال كل حرف منها".‏


*الجهاز الصوتي عند ابن جني:‏

على صعيد المنطق لم يصف ابن جني الجهاز الصوتي بل اكتفى في معرض حديثه عن الحروف بذكر الأعضاء المختلفة التي تؤلف الجهاز المذكور وهي على حد قوله: "الصدر والحلق والفم والأنف". يساعد الصدر على إطلاق النفس المؤدي إلى إحداث الصوت ولا يعده ابن جني مكافئاً لباقي الأعضاء الصوتية لأنه لا يضم مدارج الأصوات ولا يذكره ابن جني إلا نادراً.‏

أما الحلق فهو يتدخل تدخلاً مباشراً في عملية النطق ويقسمه المؤلف إلى أقصى الحلق وأوسط الحلق وأدنى الحلق، ولكل من هذه الأجزاء مخارجه. كما يفرق بين أول الفم وأوسطه ومقدمته. وفي الفم جملة أعضاء تنهض بمهمة النطق، يأتي اللسان في المرتبة الأولى منها ويميز فيه المؤلف أقصى اللسان وأوسطه وطرفه بالإضافة إلى جوانب اللسان أو حافتيه. وكان العرب قد خصوا كل قسم من أقسام اللسان باسم خاص فقالوا: "عكدة" اللسان أي اصله و"أسلة" اللسان (أي طرفه الآخر إذا كان يابساً عن النطق بحروف الصفير وهي الزاي والسين والصاد (الحروف الأسلية) و"ذلق" اللسان أو "ذولق" اللسان إذا كان رخواً عند النطق بالراء. بعد اللسان يأتي الحنك الأعلى الذي يساهم في عملية النطق. وكان العرب يفرقون بين الحنك الأدنى ويسمى "نطعاً" وفيه تلفظ الطاء والدال والتاء وتسمى الحروف النطعية، وبين أقصى الحنك وفيه مخرج القاف والكاف.‏

وللأسنان دور هام في كيفية النطق، وفرّق النحاة بين الثنايا والرباعيات والأنياب والضواحك. والثنايا جمع ثنية: ثنتان من فوق وثنتان من أسفل. والرباعيات جمع رباعية وهي السن بين الثنية والناب. والضواحك (جمع ضاحك) هي في الأصل كل سن تبدو عند الضحك لكنها تعني عند ابن جني أولى الأضراس. وأخيراً تسهم الشفتان إسهاماً مباشراً في اللفظ، كلتاهما أو الجزء الأمامي من الشفة السفلى. أما الخياشم فتساعد على نحو خاص في مخرج النون الخفيفة الساكنة مثل منك وعنك.‏

*الصوت والحرف:‏

لم يأت سيبويه بتحديد لما يسميه "الحرف" بوصفه أمراً معروفاً لا يحتاج إلى مزيد من التعريف. أما ابن جني فقد حرص منعاً لكل التباس، على التفريق بين الصوت والحرف. فالصوت على حد قوله "عرض يخرج مع النفس مستطيلاً حتى يعرض له في الحلق والفم والشفتين مقاطع تثنيه عن امتداده واستطالته. ألا ترى أنك تبتدئ الصوت من أقصى حلقك ثم تبلغ به أي المقاطع شئت فتجد له جرساً". والصوت قسمة مشتركة بين الإنسان والحيوان، أما الحرف الذي يلفظه الإنسان الناطق أيًَّاً كان لسانه، فهو أمر انفرد به البشر دون سائر المخلوقات. والحيوان الأعجم مهما ارتقى في سلم الذكاء ومهما أتقن التقليد فلن يقوى على لفظ جميع حروف لغة من اللغات وهو مع ذلك يملك مثلنا الحلق والحنك والفم واللسان والشفتين والأنف.‏

وهذا التمييز الهام الذي جاء به ابن جني بين الصوت (ولم يقل النفس) وبين الحرف يذكرنا من قبيل التداعي بتلك المعلومات النادرة التي يزودنا بها علم الأنتروبولوجيا حول نشأة الكلام. والظاهر أن تطوراً حدث منذ ملايين السنين على بنية الحيوان الفقري مثل انفصال أطرافه الأمامية عن الأرض ونمو قشرة الدماغ في مقدمة أخدود "رولاندو" (وهو المركز الخاص إذا ألمّ به تلف أو خلل عجز صاحبه عن الكلام وأصيب بالحبسة أو المرض المسمى "أفازيا") وذلك نمو المنطقة الدماغية الخاصة بصنع الآلات واستخدامها. لأن اللغة أداة أو آلة واستخدامها وثيق الصلة باستخدام سائر الآلات والأدوات. واستناداً إلى مثل هذه المعلومات القليلة يقدر علماء الأنتروبولوجيا بداية استعمال اللغة قبل حوالي مليون سنة في نهاية الطور الجيولوجي الثالث. ويجزم أقطاب الأنتروبولوجيا في يومنا على أن ثمة علاقة ثابتة بين القدرة على الكلام وبين استخدام اليدين وانتصاب قامة الإنسان وشموخ الرأس البشري. تلك هي خصائص أساسية انفرد بها البشر دون سائر الكائنات وهي وثيقة العرى مترابطة فيما بينها.‏

أردت من هذا الاستطراد أن أنوه بأهمية التمييز الذي أورده ابن جني بين الصوت وهو عرض عام يشترك فيه الإنسان والحيوان، وبين الحرف المنطوق الذي اختص به الإنسان. فإذا كان لا بد من صوت في كل حرف ننطق به، فإن العكس غير صحيح.‏

ثم يعقد ابن جني مقارنته المعروفة بين جهاز النطق وبين الناي والعود، كتب يقول: "يخرج الصوت مستطيلاً أملس ساذجاً كما يجري الصوت في الألف غفلاً بغير صنعة. فإذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المنسوقة وراوح بين أنامله اختلفت الأصوات وسمع لكل خرق منها صوت لا يشبه صاحبه، كذلك إذا قطع الصوت في الحلق والفم باعتماد على جهات مختلفة كان سبب استماعنا هذه الأصوات المختلفة".‏

لعلم الأصوات إذن علاقة بالموسيقا، لكن مدار البحث هنا هو الوقوف على مخارج الحروف وهي مماثلة للثقوب التي يضع الزامر عليها أنامله ويرواح بينها. ومن أجل ذلك ينبغي "أن نأتي بالحرف ساكناً لا متحركاً لأن الحركة تقلق الحرف عن موضعه ومستقره". بيد أنا لا نستطيع الابتداء بالساكن فلا مناص من لفظ الحرف بإدخال همزة الوصل مكسورة من قبله فنقول: اك، اق، اج الخ..‏

في ذلك كله يعتمد ابن جني على اللسان المنطوق الذي كان أسبق إلى الظهور من اللسان المكتوب وإذا عدنا إلى علماء الأنتروبولوجيا الحديثة قالوا لنا أن الكتابة على هيئة رسوم أو أشكال محفورة في الصخور ومنتظمة يحتمل ظهورها أول مرة لدى إنسان "موستيه" أي حوالي 50000 سنة قبل الميلاد.‏

*الحروف العربية:‏

ويرى ابن جني أن حروف المعجم العربي في أصولها تضم تسعة وعشرين حرفاً خلافاً لرأي المبرد الذي حصرها في ثمانية وعشرين فلم يعتبر الهمزة حرفاً لأنها، على حد قول المبرد، لا تثبت على صورة واحدة. في حين يرى ابن جني أن انقلاب الهمزة في بعض أحوالها لعارض يعرض لها من تخفيف أو بدل، لا يخرجها عن كونها حرفاً. أضف إلى ذلك أن الألف والياء والواو والتاء والهاء والنون قد تقلب في بعض الأحوال ولا يخرجها ذلك من أن نعدها حروفاً".‏

ليست العبرة إذن في شكل الكتابة بل في لفظ الحرف.‏

وجاء ترتيب الحروف عند ابن جني على نسق ما جاء عند الخليل من الحلق إلى الشفتين وبلغت مخارجها ستة عشر مخرجاً:‏

1-في أقصى الحلق مخرج الهمزة والهاء.‏

2-في أوسط الحلق يكون مخرج العين والحاء.‏

3-من أدنى الحلق مخرج الغين والخاء. ويضيف الزمخشري وابن يعيش أن مخرج الخاء أدنى إلى الفم من مخرج الغين.‏

4-من أقصى اللسان أو من أقصى الحنك مخرج القاف.‏

5-ثم يأتي مخرج الكاف أي أن هذا الصوت أقرب إلى الفم.‏

6-من أوسط اللسان مخرج الجيم والشين والياء. ويرى بعض النحاة إمكان إبدال الشين جيماً إذا كانت متبوعة بالدال كقولهم "أجدق" في "أشدق" (ومعناه: البليغ المفوّه) ورغم هذا التقارب بين الجيم والشين، اعتبروا الجيم حرفاً قمرياً (لا يدغم بلام المعرفة) والشين حرفاً شمسياً (يدغم بلام المعرفة).‏

يقول سيبويه: "تدغم لام المعرفة في ثلاثة عشر حرفاً هي: التاء والثاء – الدال والذال – الراء والزاي – السين والصاد – الطاء والظاء – والنون بالإضافة إلى الضاد والشين". وتلك هي الحروف الشمسية التي يكون مخرجها قريباً من مخرج اللام وبالتالي تدغم بلام المعرفة. أما الحروف القمرية فيجمعها قولك: "أبغ حجك وخف عقيمة" وردت الجيم إذن عند النحاة حرفاً قمرياً وإن أقر الخليل بأن الجيم والشين والضاد (والأخيران حرفان شمسيان) حروف شجرية لأن مبدأها من شجر الفم أي مفرج الفم (كتاب العين ص 2) وطالما كان المخرج متقارباً لماذا كانت الجيم قمرية وكانت الشين والضاد شمسيتين؟ ونحن اليوم في كلامنا الدارج نجعل الجيم شمسية نقول: الجمل الجبر الجراد (مع الإدغام بلام المعرفة) والظاهر أن هذا النطق خاطئ تبعاً للتصنيف الذي وضعه النحاة.‏

7-من أول حافة اللسان وما يليها من أضراس: مخرج الضاد. أي أنها قريبة من وسط الحنك مع السماح بمرور الهواء من أحد جانبي الفم. اعتبر النحاة القدامى هذا الحرف من خصائص العربية وإن الأعاجم لا قدرة لهم على النطق به.‏

وقد وصفوه وصفاً دقيقاً بقولهم: "إنه يخرج من أول حافة اللسان وما يليه من أضراس، ويجوز النطق به من الجانب الأيمن أو من الجانب الأيسر". وهذا معناه أن الضاد أقرب إلى الحرف الانحرافي "أض". ومنذ القديم كان هذا الحرف عرضة للتغيير.‏

كانت توجد ضاد ضعيفة تنطق كالظاء (ضابط – ظابط). وفي ضوء معرفتنا للغة الفرنسية تلفظ “d” مفخمة إذا وليهما غنة مفخمة مثل “dans” (خلافاً للفظة Jardin) فتكون أقرب إلى الضاد العربية كما تنطقها اليوم. ولقد وجدت الضاد في النقوش الثمودية التي عثر عليها في الحجاز ويرجع تاريخها إلى القرنين الثالث والرابع بعد الميلاد. وهي متفرعة عن الخط المسند المنفصل الحروف:‏

ذ ن ل ق ض ب ن ت ع ب د م ن ت‏

هذا (القبر) لقيض بنت عبد مناة‏

8-من حافة اللسان فويق الضاحك والناب والرباعية والثنية مخرج اللام الذي يسمى منحرفاً ونحن ندعوه اليوم صوتاً جانبياً.‏

9-من طرف اللسان فويق الثنايا مخرج النون المتحركة. أي أن اللام والنون متقاربان وهما من حروف الذلق.‏

10-ثم يأتي مخرج الراء وأسماها العرب حرف تكرير تنطق بقرع اللسان قرعات متكررة فويق مغارز الثنايا بقليل.‏

11-وبين طرف اللسان وأصول الثنايا مخرج الطاء والدال والتاء، من النطع أو الحنك الأدنى.‏

12-بين الثنايا وطرف اللسان مخرج الصاد والزاي والسين. وتسمى بحروف الصفير أو الحروف الأسيلة.‏

13-بين أطراف الثنايا وأطراف اللسان مخرج الظاء والذال والثاء.‏

14-من باطن الشفة السفلى وأطراف الثنايا العليا مخرج الفاء.‏

15-مما بين الشفتين مخرج الباء والميم والواو. وذكر العرب إمكان إبدال الميم بالباء أو العكس. مكة –بكة، "نغم" الرجل من الشراب (أي شرب قليلاً) بدلاً من "نغب" أي جرع. ومعناه أن الميم والباء من مخرج واحد لكن الميم تتميز بالغنة والباء لا غنة فيها. أما الواو فهي هنا حرف صحيح سواء كانت متحركة لأنها تقع موقع الصوت الصحيح (مثل ولد – بلد) أم ساكنة (مثل حوض وجمعها أحواض تليها إذن في الجمع حركة وهذا لا يقع إلا للأصوات الصحاح).‏

16-من الخياشم مخرج النون الخفيفة للغنة (مثل: عنك) وهي إذن تختلف عن النون المتحركة (مثل: نقول) التي تعد من حروف الفم وإن كانت فيها غنة. ففي لفظة "أنا" تكون النون صوتاً لثوياً ينطق في مفاوز الأسنان، وفي لفظة "من وجد" تصير النون كالواو.‏

وواضح أن ابن جني وغيره قد تأثروا بطريقة الخليل فرتبوا الأصوات والمخارج ترتيباً تصاعدياً يبدأ من أقصى الحلق إلى الشفتين والأنف خلافاً لما نعهده في أيامنا من ترتيب يبدأ من الشفتين (الباء الميم الفاء إلخ..) راجعاً إلى الخلف حتى الحنجرة (العين الحاء الهمزة الهاء) وفي نظري يتساوى المنهجان. لكن أهم من هذا الخلاف الشكلي نلاحظ بين تصنيف ابن جني والتصنيفات الحديثة الخلافات التالية:‏

1-صوت القاف الذي وضعه ابن جني بين الغين والخاء، خلافاً لما نقول اليوم في وصفه(1): "يتم النطق بهذا الصوت برفع أقصى اللسان حتى يلتقي بأقصى الحلق واللهاة مع عدم السماح للهواء بالمرور من الأنف. وبعد ضغط الهواء فترة من الزمن يطلق سراح مجرى النفس بأن يخفض أقصى اللسان فجأة فيندفع صوت انفجاري Occlusif. وكان الخليل يقول عن القاف بأنها "لهوية" وبالتالي – خلافاً لما قال ابن جني – تأتي القاف قبل الغين والخاء ولا تأتي بعدهما. لأن الغين والخاء في رأينا من منطقة تلي اللهاة ولا تسبقها.‏

2-مكان الضاد عند ابن جني بعد الياء وقبل اللام. أما اليوم فإننا نعتبرها تخرج من نقطة الدال والتاء والطاء. يقول ابن جني: "لولا الإطباق لصارت الطاء دالاً والصادر سيناً والظاء ذالاً ولخرجت الضاد من الكلام، لأنه ليس من موضعها شيء غيرها". أي أنه نسب الضاد إلى موضع لا تشترك فيه مع غيرها. ونحن أميل اليوم إلى النطق بالضاد قريبة جداً من الدال دون أي انحراف جانبي.‏

3-يرى ابن جني أن الصاد والزاي والسين تالية للطاء والدال والتاء، لكننا في يومناً نرتبها سابقة لهذه الأصوات في مخرجها. والملاحظ في تحليلنا الحديث للزاي والسين والصاد هو وضع طرف اللسان خلف الأسنان العليا مع التقاء مقدم اللسان باللثة. ويبدو أن ابن جني ركز اهتمامه على التقاء طرف اللسان بالأسنان بغض النظر عن التقاء مقدم اللسان باللثة، وهذا الالتقاء هو الذي يحدث احتكاكاً يؤدي إلى النطق بالصاد والزاي والسين.‏

*-التقسيم الثاني:‏

على أن مخرج الحرف ليس المعيار الوحيد في تصنيف الحروف. كان سيبويه قبل ابن جني، قد عنى بدرجة انفتاح الفم فقسم الحروف حسب هذا الانفتاح إلى شديدة ورخوة ومتوسطة. الحروف الشديدة ثمانية يجمعها اللفظ: "أجدت طبقك". ويلاحظ إغفال الضاد التي نعدها اليوم شديدة فهي تفخيم للدال في نطقنا الحديث.‏

أما الحروف الرخوة التي نسميها اليوم متواصلة Continue فهي 13 حرفاً حسب ابن جني: الحاء والهاء والخاء – الشين والسين والصاد – الزاي والظاء والذال – الثاء والفاء والغين – ويضيف إليها الضاد.‏

وتكون الحروف الباقية بين الشديدة والرخوة وهي ثمانية: الألف والواو والياء – والعين واللام والميم والنون والراء. وقد أسماها النحاة بالحروف البينية يقول فيها ابن يعيش: "إنما يجري النفس معها لاستعانتها بصوت ما جاور من الرخوة". وهي تعتبر في اللسانيات الحديثة حروفاً رخوة.‏

خلاصة القول: الحرف الشديد هو الذي يمنع الصوت من أن يجري فيه. فإذا تلوت الآية الكريمة: (فإذا فرغت فانصبْ(، (اقرأ باسم ربك الذي خلقْ( مع السكون وأردت مد صوتك في القاف والباء امتنع ذلك. والرخو هو الذي يجري فيه الصوت: (وأما السائل فلا تنهرْ(، (وأما بنعمة ربك فحدثْ( يمكنك أن تمد الصوت مع الثاء والراء.‏

*-التقسيم الثالث:‏

كذلك يفرق ابن جني بين الحرف المجهور والحرف المهموس. وتعريف المجهور على حد قوله هو: "حرف أشبع الاعتماد من موضعه ومنع النفس أن يجري معه حتى ينقضي الاعتماد ويجري الصوت" وعكسه المهموس فهو حرف أضعف الاعتماد من موضعه حتى جرى معه النفس.‏

وقد تكلم النحاة العرب كلاماً كثيراً في ظاهرتي الجهر والهمس لكنهم لم يشيروا في مناقشاتهم إلى الأوتار الصوتية ولم يعتدوا بأوضاعها في تحديد مفهوم الجهر والهمس.‏

أما تعريفنا الحديث فهو التالي: في حال النطق بالصوت المجهور تقترب الأوتار الصوتية أثناء مرور الهواء فيضيق الفراغ فلا يمر النفس إلا بهز الأوتار. في هذه الحالة تحدث ظاهرة الجهر Sonorité أما الصوت المهموس فهو الذي لا تهتز له الأوتار الصوتية حال النطق به. أي أن الزوجين من الأوتار ينفرجان انفراجاً ملحوظاً بحيث يتيحان للنفس أن يمر خلالهما دون عائق. فيحدث ما نسميه بالاصطلاح الصوتي بالهمس.‏

يقول ابن جني: "المهموس عشرة أحرف: الهاء، الحاء، الكاف، الشين، السين، الصاد، التاء، الثاء والغاء". وإذا نحن استمعنا اليوم إلى الأصوات المهموسة كما ينطقها مجيدو القراءة وجدنا هذه الأحرف اثني عشر بإضافة الطاء والقاف إلى الحروف العشرة التي ذكرها ابن جني. فالظاء نلفظها اليوم كالتاء المفخمة وهي حرف مهموس.‏

والقاف نلفظها اليوم وكأنها كاف مفخمة وهي حرف مهموس. والباقي مجهور. حروف المد مجهورة جميعاً. أما الهمزة فهي حرف مهموس وربما جعلها بعض النحاة القدامى مجهورة لاتصالها الشائع بالألف المجهورة.‏

*-التقسيم الرابع:‏

وعلى نسق سيبويه يفرق ابن جني بين الحروف المطبقة والحروف المنفتحة.‏

والإطباق أن ترفع ظهر لسانك إلى الحنك مطبقاً له. والحروف المطبقة أربعة: الضاد والطاء والصاد والظاء.‏

وأضاف سيبويه قوله: "هذه الحروف الأربعة إذا وضعت لسانك في مواضعهن انطبق لسانك إلى ما حاذى الحنك.. فالصوت محصور بين اللسان والحنك". ولذلك أسمى سيبويه الحروف المطبقة حروفاً محصورة.‏

يقابل الإطباق الانفتاح كما في الدال والذال والسين. يقول ابن جني مردداً قول سيبويه:‏

"لولا الإطباق لصارت الطاء دالاً والصاد سيناً والظاء ذالاً".‏

وإلى جانب الإطباق والانفتاح هناك تقسيم مقارب له: الحروف المستعلية والحروف المنخفضة.‏

وليس يخلو الاستعلاء من بعض الاتصال بالإطباق. يعرف الزمخشري الاستعلاء بقوله:‏

"ارتفاع اللسان إلى الحنك أطبقت أم لم تطبق ("المفصَّل"). والحروف المستعلية هي عند النحاة الحروف المطبقة الأربعة المذكورة "الطاء، الظاء، الصاد، والضاد" يضاف إليها القاف والخاء والغين. في هذه الحروف الأخيرة استعلاء وليس إطباق ولعله من الصعب أن نفرق بين التفخيم من جهة والإطباق والاستعلاء من جهة ثانية. وقد تحدث النحاة العرب عما يسمونه "التغليظ" أو "التسمين" ويقابله الترقيق. والراجح أن هذه الصفات تطلق على بعض الحروف التي يكون لها وقع خاص (أو وقع فخم) على السمع. كما في الحروف السبعة المشار إليها: الطاء والظاء والصاد والضاد والقاف والخاء والغين.‏

وتضاف إليها اللام والراء في حالات خاصة.‏

فقد كانوا يفرقون بين اللام المغلظة واللام المرققة. واتفقوا على أن اللام المضعفة في اسم "الله" تطلق مغلظة وجوباً إذا كانت مسبوقة بضمة أو فتحة. ومرققة وجوباً إذا كانت مسبوقة بكسرة فيجب القول (ورحمة الله) أو (ختم الله على قلوبهم( بتغليظ اللام.و (بسم الله( بترقيقها.‏

ويتولد أيضاً تفخيم الراء من الجوار الصوتي فسبب التفخيم هو جوار الفتحة أو الضمة أو الحروف المستعلية (الطاء، الظاء، الصاد، الضاد، القاف، الخاء، والغين".‏

مثلاً: قرطاس، مرصود، إرضاء، رقاب، رخاء، رغاء (صوت البعير) بتغليظ الراء.‏

وترقق الراء بجوار الكسرة أو الياء: قريب مريم.‏

وسواء كانت اللام مغلظة أو مرققة فإن التفخيم ظاهرة صوتية بحتة لا تغير من دلالة اللفظة شأنها في ذلك شأن الراء.‏

*-التقسيم الخامس:‏

يتعلق هذا التقسيم بالحروف التي جمعت بين الجهر Sonorité والشدة Occlusive وهي تمثل في خمسة حروف القاف والجيم والطاء الدال والباء (وإن كنا ذكرنا بأن القاف والطاء هما في نطقنا الحديث تفخيم للكاف والتاء وهما من الحروف المهموسة). سميت بحروف القلقلة لأن الوقف على هذه الحروف يسبب قلقلة كبرى أو حركة شديدة في الصوت. مثال: (قل أعوذ برب الفلق( (والله من ورائهم محيطْ(. (في جيدها حبل من مسد(. (ومن شر غاسق إذا وقب(.‏

وتسمى أيضاً بالحروف المشربة بسبب شدة الضغط والقلقلة الكبرى في نهاية العبارة والقلقلة الصغرى في وسطها والنوع الثاني من الحروف المشربة هي التي إذا وقفت عندها رافقها ما يشبه "النفخ" دون أن يكون لها الضغط نفسه كما في الحروف التالية: الزاي والظاء والذال والضاد (وهي أيضاً حروف مجهورة) مثال (إن كل نفس لمَّا عليها حافظ(. وهذا الحفيف الضئيل الذي يرافق الحرف الساكن ليس من صوت الصدر وهو يضعف إذا جمعت الحروف داخل الكلمة.‏

ثم تأتي فئة ثالثة من الحروف المجهورة لا يسمع بينها شيء لأنها لم تضغط ولم تجد لها منفذاً مثل: الهمزة والعين والغين واللام والميم والنون. "إن عذاب ربك لواقع". (فويل يومئذ للمكذبين( (يتنازعون فيها كأساً لا لغوٌ فيها ولا تأثيم(.‏

*-التقسيم السادس:‏

ينوه ابن جني "بسر طريف" تمتاز به حروف الذلاقة وهي في الأصل الراء ويضيف إليها ثلاثة حروف شفوية الباء والغاء والميم مع حرفين آخرين اللام والنون. يقول ابن جني في هذه الحروف الستة:‏

إذا رأيت اسماً رباعياً أو خماسياً غير ذي زوائد فلا بد فيه من حرف أو حرفين أو ثلاثة من هذه الحروف الستة ويضرب مثلاً على ذلك: جعفر، سلهب (ويعني الطويل)، وسفرجل.‏

وغير هذه الحروف الستة يسميها ابن جني "مصمتة" يقول: ومتى وجدت كلمة رباعية معراة من الحروف الستة السابقة فاقضِ بأنها دخيل في كلام العرب" ويسوق مثالاً على ذلك "عسجد (الذهب أو الجوهر كالدر والياقوت) والفعل هدق" (أي كسر).‏

سميت هذه الحروف الأخيرة "مصمتة" أي صمت عنها ولا تبنى بها لفظة رباعية أو خماسية. وهي حروف ثقيلة في حين تعني الذلاقة هنا الخفة والرشاقة وهي تدخل الصيغة الرباعية والخماسية لثقل هاتين الصيغتين.‏

*-تركيب الحروف:‏

كيف تتركب الحروف داخل الكلمة العربية؟ القاعدة الأساسية التي يوردها ابن جني هي التالية:‏

"كلما تباعدت الحروف في المخرج كانت أفضل وإذا تقارب الحرفان في مخرجيهما قبح اجتماعهما ولا سيما حروف الحلق" لم تكن هذه القاعدة مجهولة عند الخليل لكن ابن جني أولى عنايته لحروف الحلق. فالألفاظ التي يتكرر فيها حرفان حلقيان نادة مثل :المهمه" (أي اللين) و"الفهه" (أي العي) وفي الأغلب لا تتكرر حروف الحلق ما لم يباعد بينها حرف يختلف مخرجه مثال الضعيفة (أي الروضة النضرة أو العجين الرقيق) ومن الواضح أنه يتعذر تعاقب حروف الحلق في لفظة واحدة مثل العين والغين والحاء والهاء والخاء.‏

وفي عهد متأخر أشار الشهاب الخفاجي في كتابه "شفاء الغليل" إلى عدد من المعايير التي تتميز بها اللفظة العربية من اللفظة الأجنبية وعني الشهاب الخفاجي بحرف الجيم خاصة.. وقال:‏

1-إنها لا تجتمع والقاف. فكانت كلمة "منجنيق" أعجمية.‏

2-إنها لا تجتمع والصاد "فلفظة جص أو صولجان" من المفردات الأعجمية.‏

3-إنها لا تجتمع والطاء في لفظة عربية الأصل. فهو يعتبر "طاجن" (ما يقلى عليه أو فيه) كلمة أعجمية.‏

كذلك يرى الشهاب الخفاجي أن حروف الزاي والذال والسين لا تجتمع في لفظة عربية الأصل بسبب قرب مخارجها.‏

فكانت لفظة "ساذج" معربة عن الفارسية. وقد لا توجد في العربية كلمة واحدة ضمت الزاي والسين، أو الزاي والذال.‏

*-حروف المد والحركات:‏

يعرف ابن جني حروف المد أو اللين بقوله: "إنها الحروف التي اتسعت مخارجها (آ/أ) وأوسعها الألف وألينها "عند لفظ الألف الممدود الساكنة لا يعترضها عارض في حين يضغط ظهر اللسان على الحنك عند النطق بالياء الممدودة الساكنة وأما الواو فيقتضي النطق بها ضم الشفتين على أن يكون بينهما بعض الانفراج". تختص حروف المد بحرية مرور النفس حال النطق بها لا يمنعه مانع وإنما ينسل إلى خارج الفم طليقاً.‏

وكان الخليل يؤكد على أن الألف اللينة والواو والياء هوائية (أو هاوية) تلك إذاً حروف تامة كاملة من حيث النطق بها وإذا تلتها همزة أو حرف مدغم ازدادت طولاً وامتداداً. نقول "يشاء، يسوء، يجيء" أو نقول مع الإدغام "مادة، شابة – ولا الضالين" ذلك لأن الهمزة على حد قول ابن جني "حرف حلقي نأى منشؤه وتراخى مخرجه. إذا نطقت بهذه الحروف اللينة قبل الهمزة ازدادت نعومة واستطالة".‏

وعند الوقف تأتي الهاء المسماة بهاء السكت للإطالة "واعجباه – وازيداه" لأن الوقف على حروف اللين ينقصها ويستهلك جزء من استطالتها ومدها فكان لا بد من الهاء لبيان حرف المد. وهاء السكت قد تزداد أهمية أحياناً لأنها لو أسقطت لأدى ذلك إلى طمس معالم الكلمة. مثل الأمر من فعل رأى "رَ" فنقول "ره". الأمر من أتى "ت" فنقول "تِه" ومنذ سيبويه عرض النحاة لظاهرة الإمالة فقالوا أن الألف تمال إذا كان في المقطع الذي يليها كسرة "عابد، عالم مساجد" أو كان في المقطع السابق للألف كسرة: "عماد سربال" (القميص أو الدرع) أو كان في أصل الكلمة ياء ومن ذلك إمالة الأفعال الناقصة: "بكى، رمى" أو الأسماء المنتهية بألف مقصورة (ثكلى، منأى) والماضي الأجوف اليائي: "زاد، حاد" وقد عمد القراء أحياناً إلى إمالة أفعال ناقصة واوية مثل "غزا" فنسبوا السبب في ذلك إلى الماضي المجهول "غُزي" أو صيغة المزيد "أغزى" بالألف المقصورة التي أصلها ياء (كما في قولك: "عرفت ما يُغزى من هذا الكلام") كذلك فسروا إمالة "مات (وأصلها "موت") باللجوء إلى صيغة المتكلم "مت" لاحتواء هذه الصيغة على الكسرة.‏

وميزوا في الإمالة وضع الألف داخل الجملة أو في نهايتها. يذكر سيبويه أن بعض القراء كانوا يقرؤون بالإمالة في آخر الجملة: "منها، منا، بنا" ويقرؤون الكلمات بغير إمالة إذا جاءت داخل الجملة.‏

أما التفخيم فهو الجنوح بالألف نحو الواو "الصلوة الزكوة الحيوة" والألف المفخمة دونت في بعض الكتابات واواً.‏

*-الحركات:‏

يرى ابن جني بين الحركات وحروف المد ما يسميه بالمضارعة أو المشابهة. فإذا أشبعت الحركة أنشأت حرفاً من حروف المد من جنسها. الفتحة المشبعة تصير ألفاً ممدودة، والكسرة المشبعة – ياء ممدودة، والضمة المشبعة – واواً ممدودة. وهو يجد الألف أقرب إلى الياء منها إلى الواو. الألف مخرجها من الحلق والياء من وسط الفم والواو تقتضي حركة الشفتين فيضيق بها مجرى النفس وكذلك الياء الساكنة التي تتطلب ضغط ظهر اللسان على الحنك. ومعناه أن الألف تحتاج إلى أقل جهد ممكن ثم تأتي الياء ثم الواو.‏

لذلك يعتبر ابن جني الفتحة أولى الحركات وأدخلها في الحلق والكسرة بعدها والضمة بعد الكسرة. فإذا بدأت بالفتحة وتصعدت تطلب صدر الفم والشفتين اجتازت في مرورها مخرج الياء والواو فجاز أن تشمها شيئاً من الكسرة أو الضمة. ومن هنا كانت ظاهرة الإمالة وهي جنوح بالألف إلى الكسرة وظاهرة التفخيم وهي جنوح بالألف إلى الضمة. ويضيف ابن جني: "ولو تكلفت أن تشم الكسرة أو الضمة رائحة الفتحة لاحتجت إلى الرجوع إلى أول الحلق. وفي هذا التراجع مشقة. ولكن من الضمة إلى الكسرة هناك أيضاً تراجع وهو قليل مستكره" (قيل بيع)، ومما يلفت النظر استخدام لفظة "الإشمام" وفي معناها الواسع ظاهرة الإشمام هي إعارة حركة أو حرف رائحة حركة أخرى أو حرف آخر.‏

يتحدث ابن يعيش عن إشمام الصاد رائحة الزاي. مثال: الأسبوع – الأزبوع. قصد – قزد.‏

وعند الوقف في آخر الجملة بالسكون يراد الإشمام الرمز إلى الحركة بوضع الشفتين. فإذا قرأ القارئ الآية الكريمة: (ربي إني لما أنزلت إليّ من خير فقير(. وقف القارئ على كلمة "فقير" بالسكون مع استدارة الشفتين ليرمز إلى الكلمة في حال الوقف مشكلة بالضم. فالحركة هنا لا تسمع بل ترى على الشفتين. وغالباً ما اختصوا الضم بظاهرة الإشمام وبخاصة عند البصريين.‏

وهناك ظاهرة ثانية عند الوقف هي اختلاس الحركة وتقصير زمن النطق بها فلا يدركها المستمع إلا في زمن أقصر مما تتطلبه الحركة العادية. أو كما يقول ابن يعيش، حتى تستطيع بانتباه شديد أن تفرق بين المذكر والمؤنث في الضمير أنتَ أنت" وقد سماها بعض النحاة "روما". وفي الحالتين يكون لدينا وقف في آخر الجملة بما يشبه الوصل بين العبارات.‏

والأصل في الكلام أن تتصل أجزاؤه اتصالاً وثيقاً. فإذا سجلنا على لوح حساس جملة مكونة من عدة كلمات وجدنا على اللوح خطا متعرجاً أو متموجاً ترمز أعاليه لأوضح الأصوات وأسافله لأقلها وضوحاً في السمع. ويتبين لنا من اتصال الخط أن الكلام كتلة واحدة لا يميز بين كلماتها إلا صاحب اللغة العارف بمعانيها. أما الأجنبي فلا يسمع إلا أصواتاً متصلة ومقاطع متداخلة لا يدرك فيها أين تنتهي الكلمة وأين تبدأ الكلمة اللاحقة.‏

ويترتب على وصل الكلمات أن نرى المقطع الأخير في اللفظة يأخذ صورة جديدة ولم يفرق النحاة بين الحرف المشكل بالسكون وبين حرف المد بل اعتبروا كلاًّ منهما ساكناً.‏

وتتلخص أقوالهم في التخلص من التقاء الساكنين بين كلمتين متجاورتين كما يلي:‏

1-يحذف حرف المد لفظاً لا كتابة حين يكون في آخر الكلمة ويليه ساكنان في الكلمة اللاحقة نحو "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" أو "وأطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم".‏

2-يحرك الأول من الساكنين حين لا يكون هناك حرف مد. ويكون تحريكه:‏

أ-إما بالكسر على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين: (قالت الأعراب آمنا(.‏

ب-وإما بالضم مع ميم لجماعة الذكور المتعلقة بالضمير المضموم (كتب عليكم الصيام( (لهم البشرى(.‏

جـ-يجوز الضم والكسر على السواء مع ميم الجماعة المتصلة بالضمير المكسور (عليهم الآن وزر ما اقترفوا(. وحين يكون ما بعد الساكن الثاني مضموماً أي (اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم(.‏

بدمشق-ويحرك الساكن الأول بالفتح في نون "من". الجارة إذا دخلت على "الـ". "من الله" "من الكتاب" وبذلك نرى أن ظاهرة الوقف بالسكون قد استأثرت بأحكام كثيرة ولم تكن أقل شأناً عند القرَّاء والنحاة من ظاهرة التحريك في أواخر الكلام.‏

والقاعدة الأساسية التي أخذ بها النحاة العرب هي أن الحركة مصدر قوة للحرف وبهذا يقول ابن جني: "الحروف الساكنة أميل إلى الحذف والزوال من الحروف المتحركة" ومنه كانت ظاهرة الإدغام التي تقتضي أن يكون الحرف الثاني متبوعاً بحركة وأن يكون الحرفان إما متماثلين (مدد – مدْدَ – مدٌ) أو متجانسين لهما نفس المخرج وتختلف صافتهما (وتد – وتد – ودد – ود) أو متقاربين في المخرج والصفات (احفظ ضانك – احفض ضانك) كان النحاة العرب يفسرون الإدغام بوجود حروف قوية تؤثر في حروف ضعيفة. ويمدون الياء مثلاً أقوى من الواو: يوم – أيوام – أيام (قلبت الواو الساكنة ياء وشددت) كويته كوياً – كياً – لويته لوياً – لياً.‏

ونحن اليوم نفسر الإدغام بأنه اقتصاد في المجهود العضلي. فإذا اجتمع صوتان أحدهما مهموس والآخر مجهور، أثر أحدهما في الآخر حتى يصبحا مجهورين معاً أو مهموسين معاً ليكون إخراجهما بأقل جهد ممكن أو كما يقول الخليل "ليكون عمل اللسان من وجه واحد".‏

*-قوة الحرف:‏

وفي مواضع متناثرة من كتابه "سر صناعة الإعراب" يتحدث ابن جني عمّا يسميه "قوة" الحرف ونصاعته. يقول مثلاً: "الخاء أقوى من العين والعين أقوى من الحاء" ونحن نقول اليوم العين حرف مجهور والحاء حرف مهموس وتتفقان في المخرج وهو الحلق. وقد نعتبر الخاء مفخمة والعين مرققة وتختلفان في المخرج.‏

ومفهوم "قوة" الحرف عند ابن جني يتجاوز الصوتيات إلى بحث الدلالة والمعاني.‏

يقول صاحبنا: في الفعلين توصل وتوسل "الصاد أقوى صوتاً من السين لما فيها من استعلاء فالتوسل دليل على الضعف كأن المتوسل أدنى مرتبة من المتوسل إليه".‏

فجعلت الصاد لقوتها للمعنى الأقوى والسين لضعفها للمعنى الأضعف.‏

ويمكن أن نضيف إلى مثال ابن جني: أزٌ وهزٌ (الهمزة بحد ذاتها أشد من الهاء) والأز معناه الإزعاج الشديد: (إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً( (أزير القنابل) لكننا اليوم نقول: إن الوحدة الصوتية Phoneme ليست ذات معنى.. ولنضرب مثالاً على ذلك: سار (ذهب) وصار (تحول) وفيه اختلاف في المعنى مرده إلى اختلاف الحرف على أن معنى السير والذهاب غير منوط بالوحدة الصوتية "س" ومعنى الصيرورة أو التحول لا يتعلق بالوحدة الصوتية "ص" ونكتفي بالإشارة إلى أن الصاد هي سين مفخمة.‏

ولو فرضنا جدلاً وجود تقارب بين الصوت والمعنى فإن هذا التقارب يقتضي ما نسميه "بالحدس" أو "السليقة" التي لا يملكها إلا الناطق باللغة. كانوا يقولون مثلاً: إن الحاء إذا أتت في آخر الكلمة بعد الألف الممدودة دلت على الاتساع والانتشار: ساح فاح صاح إلخ.. وإن اللفظة المبدوءة بالشين دلت على التفرق والتشتت مثل شتت وشطر وشعث وشع إلخ.. واللفظة المبدوءة بالغين دلت على الغموض: مثل غاب غطى غار غبس (غبس الليل: إذا خالط البياض ظلمته في آخره). وهذا ما يسميه ابن جني "الكلمات المتصاقبة الحروف متصاقبة المعاني" أي متقاربة الحروف متقاربة المعاني وهذا مرده إلى القول بأن اللغات الإنسانية ترجع في أساسها إلى تقليد أصوات الطبيعة. يقول "ذهب بعضهم (أي أن الرأي ليس من عنده أو أنه لم يتثبت من الأمر) إلى أن أصل اللغة كلها إنما هو من الأصوات المسموعات كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء) ثم يضيف "وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل" ويقول في موضع آخر من كتابه "خصائص اللغة العربية": "وانضاف إلى ذلك وارد الأخبار المأثورة بأن العربية من عند الله عز وجل فقوى في نفسي اعتماد كونهما توقيفاً من الله سبحانه وأنها وحي". ولكي يشرح السبب الذي تقوم عليه النظرية التوقيفية يقول ابن جني: "ذلك إنني إذا تأملت حال هذه اللغة الشريفة الكريمة اللطيفة وجدت فيها من الحكمة والدقة والإرهاف والرقة ما يملك علي جانب الفكر..".‏

ومع ذلك كله يقول صاحبنا في موضع آخر: "إن أصل اللغة لا بد فيه من المواضعة كما يفعل الصناع عندما يختارون آلات جديدة ويحددون أسماءها. وباختلاف المواضعة والمصطلحات تولدت لغات كثيرة مثل الرومية والزنجية وغيرهما. والنتيجة التي يخلص إليها صاحبنا: "واعلم فيما بعد أنني على تقادم العهد دائم التنقير والبحث عن هذا الموضوع..".‏

والرأي في اللسانيات الحديثة أن اللغة مجموعة من الرموز والإشارات التي اصطلح عليها الناس. ولكن تبقى قضية "المشاكلة الصوتية" التي يعمد إليها الشعراء وتشير بجرسها الموسيقي إلى الملائمة بين الأصوات والحروف وبين العواطف والمعاني التي يعبر عنها الشاعر.‏

وليسمح لي القارئ في نهاية المقال أن أعقد المقارنة التالية: عندما أراد الشاعر الفرنسي Racine أن يوحي بفحيح الأفاعي استعان بحروف الصفير في بيته المشهور:‏

Pour qui sont ces serpents qui sifflent sur vos têter‏

(لمن تلك الأفاعي التي يتصاعد صفيرها فوق رؤوسكم).‏

لكن البحتري عمد إلى حروف الصفير للتعبير عن الترفع والإباء والعزة والمنعة:‏

صنت نفسي عما يدنس نفسي‏

- وترفعت عن جدا كل جبس‏

وتماسكت حين زعزعني الدهـ‏

- ـر التماساً منه لتعسي ونكسي‏

فتكرار السين يوحي بالترفع عن عطاء الجبان الوغد اللئيم ويرافق السين حرف الزاي المتكرر (زعزعني) الذي يوحي بالترنح والسكون في هاء "الدهر" التي يختتم فيها الشطر وتبقى اللفظة معلقة في فراغ وكأن الدنيا تدور بك ثم العطف "لتعسي ونكسي" إشارة إلى الإصرار على شدة المحن والخطوب: هذا كله ينقش الفكرة في قلب القارئ نقشاً عميقاً.‏

اللغة هنا لم تعد سلكاً هاتفياً مغفلاً ينقل المعاني إنما أصبحت قطعة من الرخام يعجنها الشاعر حتى تتفجر بالحياة. هذه المصاقبة كما يقول ابن جني أو هذه المشاكلة الصوتية هي من إبداع الشاعر ولا وجود لها قبل هذا الإبداع. ذلك هو سر الفن الذي يجعل الحياة تنبض في إعادة الموات.‏

وإن من البيان لسحراً.‏

(1)-انظر كمال محمد بشر، علم اللغة العام – الأصوات. دار المعارف، مصر.‏
--------------
نشر هذا البحث في :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العددان :15 و 16 - السنة الرابعة - رجب وشوال 1404 - نيسان "ابريل" و تموز "يوليو" 1984

nike air max thea taupe grey color White Laser Blue DC0956-100 Release Date

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: