الافتتاحية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته وسلم، وبعد:
فـلا شـــك أن اللغة وعاء الفكر؛ ولذا كانت عناية السلف عظيمة بالحفاظ على لغة القرآن الذي نـزل بلسان عربي مبين، وازداد حرصهم ذلك بعد دخول الأعاجم في دين الله وإقبالهم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فكان منهم من لا يعرف الألفاظ في أصل اللغة ولا قانونها، كما كــان منهم ـ وهذا هو الغالب والأخطرـ من لا يعرف مراد الشارع بالألفاظ؛ لأنه لا يعرف سنته في الخطاب ولا يحيط بجميع النصوص الواردة في الموضوع محل الفهم أو البحث.
ومن جهة أخرى اهتم بعض أهل البدع باللغة العربية، فبرز منهم أكثر من عالم لغوي؛ لأن الـوجـوه اللغوية كانت طريقهم إلى تحريف الكلم عن مواضعه وبابهم إلى التأويل عندما أعياهم الاستدلال على بدعهم بنصوص ثابتة في القرآن والسنة، فأخذوا يبحثون في ضعيف اللغة وشاذها ومرجوحها عما يشوشون به على الأصول الصحيحة التي لم تستسغها عقولها أو أهواؤهم، حتى شاع بـين بعض النحاة قولهم: " إن نزل رغيف من السماء مكتوب عليه حرام ، قلنا لغيرنا"، دلالة على مـقـدرتهم في صرف أوضح الكلام وأشده صراحة إلى معنى آخر غير المعنى الظاهر.
وعندما انفتح الفكر الإسلامي على فلسفات الأمم الأخرى ونتاجهم العقلي دخلت على المسلمين أفــكـار جديدة عبر ألفاظ عربية أخذت مفاهيم محدثة أضيفت على المعنى اللغوي الأصلي أو انحـرفت به، كالجوهر والفرد والمحدث والقديم ... وهكذا رأينا أن المعركة الفكرية بين أهل السنة وسائر الفرق كانت معركة لغوية في جانب كبير منها.
وبالأداة نفسها(اللغة) نفشت مفاهيم جديدة ـ كالعلمانية والوطنية والقومية والتقدمية والرجعيةـ في عقول المسلمين العرب في العقـود المتأخرة؛ فلقد كان من رواد النهضة العربية الحديثة في النصف الثاني من القرن التاسع عـشر الميلادي بعض المتضلعين في اللغة والباحثين في علومها من النصارى وأصحاب الزيغ من تلامـيـذ المستشرقين، أمثال: بطرس وسليم البستاني، وناصيف وإبراهيم اليازجي، ولويس شيخو، ولويس معلوف .. بل حاول بعضهم كسر هذا الوعاء الفكري تماما من خلال دعوات مشبوهــــة إلـى استبدال العامية بالفصحى في لغة الكتابة كما رأينا عند أحمد لطفي السيد(أستاذ الجيل ـ كما يسـمـيـه العلمانيون )، أو استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية كما رأينا عند سلامة موسى، وهذا ما فعله أتاتورك لقطع صلة تركيا بالعروبة والإسلام.
وإضافة إلى الأهــداف السابق ذكرها للاهتمام باللغة ظهر في هذه المرحلة الزمنية وما بعدها التوجه إلى الطـعــن في الإسلام من خلال أبحاث لغوية، كما في كتاب الشعر الجاهلي لطه حسين، وعند أمـيـن الـخـولي ومحمد أحمد خلف الله في كتاب: "الفن القصصي في القرآن الكريم" ثم في كتابات التلاميذ المعاصرين أمثال سيد حامد النساج، ونـصر أبو زيد.. وغيرهم.
كما ظهر التوجه أيضا إلى امتلاك ناصية الأشكال التعبيرية الجديدة: كالمقال، والقصة، والروايـــة، والمـسرحية لاستخدامها أداة لإيصال الأفكار الجديدة؛ فلمعت أسماء: كفرح أنطون، وجوجي زيـدان، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ. وبتحويل أعمال أمثال هؤلاء إلى أعمال فنية( إذاعية وسينيمائية وتلفزيونية) انتشرت الأفكار التي أرادوا الترويج لها على نطاق واسع بين عوام الأمة وخاصتهم.
وما زال هذا الأسـلوب (اسـتـخدام اللغة لتقرير أفكار مستهدفة) متبعا ومؤثرا حتى وقتنا الراهن، ومن الأمثلة الحية على ذلك : مـعالجة الأستاذ حسين معلوم لمفاهيم القومية والحكم والتقدم على صفحات جريدة الحياة(1).
وإذا كان المقام لا يتسع هنا لمناقشة جميع ما ورد في هذه المقالات فإنه لا يسعنا إلا أن نشير إلى مأخذين على مقال واحد هو مقال : الإسلام والقومية:
أولا: انطلق الكاتب في قبول فكرة القومية المعاصرة من التحليل اللغوي والاستعمال القرآني لـمـادة قوم، مما جعله يعد القوم بطونا وعائلات، وتارة شعب مصر، وطورا الملة الموسوية، وهذا كله حق، ولكنه ليس كل الحق في الموضوع الذي يعالجه؛ فإن الدعوة إلى القومية ـ في منـشـئـهــا وحاضرها ـ لم تهدف إلى الاقتصار على هذا المعنى اللغوي فقط، ولكنها أرادت جعل القومية رابطة يجتمع عليها مجموعة من البشر تذوب فيها جميع الروابط الأخرى ـ ومنها الدينـيـة ـ بحيث تعلو القومية وتقدم عليها وكأنها عقيدة أخرى، فإذا قدمنا عليها أي ولاء آخــر ـ كالإسلام مثلاـ لم يصبح لهذه القومية أي معنى عندهم، وهذا ليس كلامنا ولكنه تقرير روادهــــا أنـفـسـهـم. يقول الدكتور نبيه أمين فارس:"لقد غرس هؤلاء (الرواد الأوائل) بذرة القومية والوطــنـيــة ، وبعـثــوا حـركـة مستوحاة من تاريخ العرب ومآثرهم تستهدف مثلا قومية بدلا من المثل الدينية والطائفية"(2) ، وهكذا فإن القومية عند دعاتها تجمع بالإخاء المسلم مع النصراني واليهودي أو مع البوذي والهندوسي إذا كانوا يعيشون في إطار واحد لقوم أو قطر، ولكنها تفرقه عن أخيه المـسـلم ـ وقد يعاديه ـ إذا كان من قوم آخرين.
ثانيا: يقرر الكاتب أن الفكرة هي ابنة واقعها الاجتماعي " وهذا كلام صحيح في العموم ، ولكننا نعجب أنه لم يطبق ذلك على فكرة نشوء القومية ذاتها ، بل ذهب عند تطبيقها إلى فـكـــرة أخرى مترتبه عليها هي كون القومية نوع من أنواع العصبية المرفوضة في الإسلام"، فهو يـــرى أن هذه الفكرة الأخيرة سكنت الفكر الإسلامي عن طريق سيد قطب الذي نقلها بدوره عن أبي الأعلى المودودي ـ رحمهما الله ـ وهذا الأخير كان متأثرا بواقعه الاجتماعي في الهند؛ حيث كانت فكرة القومية سبيلا لسيطرة الأغلبية الهندوسية على الأقلية المسلمة هناك" هذا بالإضافة إلى أنه رآها ـ بمحتواها العلماني ـ أيديولوجية معادية للإسلام" .
وإذا كنا هـنـا لا نناقش ـ ولا نهتم ـ بضحة دعوى التأثير والتأثر بين المفكرين الإسلاميين المذكورين فإنـنا نذكر بأن فكرة القومية بمعناها المضاد للإسلام سكنت الفكر العربي القومي قبل مولد المـودودي وسيد قطب ـ رحمهما الله ـ ، بل كان هذا المعنى مصاحبا لهذه الفكرة منذ مولدها فـي النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي على يد بعض نصارى الشام أمثال بـطــرس البستاني وناصيف اليازجي، وهذه حقيقة يقررها كتاب علمانيون ونصارى قبل أن يقررها الكتاب الإسلاميون، ومن يراجع ـ على سبيل المثال كتابات ألبرت حوراني وجورج أنطــونيوس وساطع الحصري لا يخالجه شك في ذلك، فلم يكن الواقع الاجتماعي في الهند هــو الذي أعطى هذا التصور عن القومية العربية بل كان تنظير المفكرين القوميين العربي ـ وخــاصة في الشام ـ هو الذي نحا هذا المنحى؛ رغبة في قطع الروابط مع المسلمين غير العرب ( العثمانيين)؛ حـيـث كـانـــوا جميعا منضوين تحت لواء دولة واحدة في إطار الرابطة الإسلامية.
كما أن فكرة القومية بهذا المعنى مضادة بطبيعتها ـ وليس بواقعها فقط ـ للإسلام الذي جاء فيه : ((إنما المؤمنون إخوة)) [الحجرات:10] أيا كانت أجناسهم وقومياتهم، وفيه أيضا : ((لا تجــد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم)) [المجادلة: 22] .
وبعد: فـهــل أمثال هذه المقالات تعدّ تطبيقاً لدعوات تكتيكية صدرت من بعض القوميين واليساريين للمزاوجة بـيـن الفكر القومي والإسلام، لتجديد الدعوة القومية، وكسب الشارع العربي والاستفادة من طاقــات الإسلاميين ورصيدهم الشعبي؟ إذا كان الأمر كذلك فالواضح أنهم يريدون أن تكون القوامـة فـي هـــذا الـتـزاوج للفكر القومي، وأن تكون اللغة والتاريخ شاهدي زور على ذلك!!
-------------
مجلة البيان – العدد 147 – ذو القعدة 1420 هـ - مارس 2000م