ولأهمية الموضوع للغتنا ولهجاتنا ولمردوده الكبير على معاجمنا العربية الحديثة استحق هذا الموضوع وهذا المصطلح الجديد أن أكتب فيه بالتفصيل، وآتي على تعريف الفوائت الظنية ومظانها وأنواعها وضوابطها أو معاييرها.
أنواع الفوائت:
فوائتُ المعاجم العربية القديمة نوعان:
الأول: نوعٌ قطعيُّ الحكمِ بأنّه من الفوائت؛ وأسميه ((الفوائتَ القطعية)) لأنّه مذكورٌ في مصدرٍ قديم، كدواوين الشعر وكتب الأدب واللغة والنوادر، وهذا النوع لا خلافَ في كونه من الفوائت؛ لأنه مدوّنٌ أيامَ الفصاحة، ولكنه لم يجدْ طريقَه إلى المعاجم؛ لأنَّ المعجميين لم يصلوا إليه، أو نَبَتْ أعينُهم عنه، أو سقط نسيانا؛ لأن بعضهم يعتمد على الحفظ.
أما الثاني: فهو ظنيُّ الحكم، وأسميه: ((الفوائتَ الظنية)) لأنه يفتقرُ إلى نصّ قديمٍ يثبتُ وجودَه القطعيّ في الاستعمال أزمانَ الفصاحة، ولكنْ يمكنُ بلطف الصنعة استخراجُ قدرٍ صالحٍ منه مما هو مخبوءٌ في لهجاتنا المعاصرة
مظانّ الفوائت القطعية (مصادرها):
مصدر الفوائت القطعية هو ما وصل إلينا من تراثنا الموثوق، وكتب التراث التي تكون مظنة محتملة للفوائت القطعية أنواعٌ، ومن أهمها:
أ- دواوين الشعر ومجاميعه كالأصمعيات والمفضليات والحماسات القديمة، وما يلحق بها كالأمالي والتعليقات والمعاني ونوادر الأدب.
ب- كتب اللغة المتنوّعة كالمجالس والغريب والنوادر وكذلك رسائل اللغة الصغير ة كالوحوش والحشرات والجراثيم والنخل.
ج- المعاجم نفسها، ولكن أن تكون الكلمة وردت عرضا في جذر غير جذرها، في سياق لغوي أو شاهد، وكان ورودها عارضا، ولم يرد لها أي إشارة في جذرها. وهذا النوع من أغرب الفوائت القطعية، وقد تنبّه الدكتور محمد حسن جبل إلى هذا النوع من الفوائت، في كتابه (الاستدراك على المعاجم العربية) فقال: تبيّن ((أنّ هناك ألفاظا وعبارات فاتت أوسع معاجمنا – أي لم تسجل في مواضعها منها – بالرغم من وجود هذه الألفاظ والعبارات في شواهد تلك المعاجم نفسها، أو في شروح علماء اللغة فيها))
وأكتفي بمثال واحد مما ذكره الدكتور جبل، قال: ((جاء في ميع (يعني من اللسان 8/345): والمَيْعة (بالفتح): صمغٌ يسيل من شجرٍ ببلاد الروم... قال الأزهري: ويقول بعضهم لهذه الهَنَة مَيْعة لسيلانه؛ وقال رؤبة:
والقَيْظُ يُغْشِيها لُعاباً مائعا * فَأْتَـجَّ لَفّافٌ بهـا المَعامِعا
ائتجّ: توهج، واللَّفّاف: القيظ يلفُّ الحرَّ؛ أي: يجمعه))
قال الدكتور جبل معقّبا على هذا النصّ: ((لم تُذكر كلمة اللّفّاف (كشدّاد) هذه في (لفف) بأيّ معنى، كما لم يسند في لفف أي استعمال إلى الحرّ أو القيظ أو الرياح.. فينبغي استدراك اللفّاف صيغة ومعنى، أي القيظ، كما ذكر))
قلت: ولم أجد هذه الكلمة في أي معجم من المعاجم، ووروده في اللسان كان عارضا، وفي غير موضعه، وأصاب الدكتور جبل في عدّه من المستدركات الفائتة.
أنواع الفوائت القطعية:
الفوائت القطعية نوعان:
1- جذور وهذا قليل ونادر، ومثاله جذر (خمدع) ففي التعليقات والنوادر قال أبو عليّ الهَجَري: ((خمدع: الخُمادعيّ ضرب من جيد الرُّطَب إلى الخضرة، رقيق صَقِرٌ يكون بيَدِيع وفَدَك وتلك الأعراض)) ولا وجود لجذر (خمدع) في المعاجم القديمة.
2- ألفاظٌ أو مشتقات في جذر مستعمل، وهذا كثير، وهو يشمل المشتقات (الأوزان) السماعية، أما القياسية فلا؛ لأنهم قد يتركون القياسيات تخفيفا، للعلم بها. (وذكرت أمثلته في نماذج الفوائت القطعية في بحث مستقل)
3- دلالةٌ للفظٍ مستعمل، وأمثلته في نماذج الفوائت القطعية (ذكرتها في بحث مستقل)
تعريف الفوائت الظنية:
الفوائت الظنية ألفاظ أو دلالات خلت منها المعاجم ووجدناها في لهجاتنا الفصاح المعاصرة ذات العمقين التاريخي والجغرافي، وتحققت فيها معايير الفوائت (سيأتي ذكرها) فاحتملت بذلك أن تكون من الفوائت أو من المولد الصحيح، وليس لدينا دليل قطعي على أحد الأمرين، فوصفناها بوصف غير قطعي إذ يحتمل الوجهين القِدَم والتوليد، وقولنا إنها فوائت ظنية أسلم في الحكم من إنكارها، لأن الإنكار حكم قاطع جازم جائر، والقول بالظنية حكم يحتمل الوجهين فهو أقرب إلى حالها، فهي في مرتبة بين الفائت القطعي وبين المولد الصحيح, ولم تلحق بالفائت القطعي لافتقارها للدليل, ولم تُرد في المولد لأنها أوثق عرى بالعربية منه لخضوعها لضوابط المولد وزيادة حيث تزيد عليه بالضابط الجغرافي كما سيأتي.
فكان من حقها أن يكون لها مصطلح بين النوعين واختير لها مصطلح الفائت الظني, فوصفت بالفائت احترازا من المولد وبالظني احترازاً من القطعي.
وقد سمعت بعضهم يقول: ما الدليل على أن تلك الكلمات من الفوائت الظنية؟ فأقول الدليل تحقق المعايير اللغوية (ستأتي) فاستحقت أن توصف بأنها فائت ظني، لا قطعي، وهذا حكم في طياته محترزاته، ولي أن أسأله سؤالا مضادا فأقول: ما دليلك على أنكارها فائتا ظنيأ؟ فإن قال دليلي خلو المعاجم منها سأقول له: وكم من الألفاظ الجاهلية خلت منها المعاجم باعترافهم؟ ألا تكون هذه مما فات المعاجم؟ فيقول: أنت تدخل في لغتنا ما ليس منها: فأقول: أنا أدخل في معجمنا ما فاته مما قالته العرب وصح بالقياس، وتحققت معاييره، وأدخله بوصفه المصطلحي كما دخل المولد بوصفه المصطلحي, ولما كان أوثق من المولد كان أولى بدخول المعجم منه. وأفرق بين الفائت الظني والفائت القطعي، والفرق جليّ بينهما.
والفوائت الظنية جديره لسلامتها في اللغة أن تدون وتروى بوصفها (فائتًا ظنيًّا) ليعرف القارئ حالها ومكانتها في اللغة وقد يجد الباحثون في قادم الأيام مصدرا قديما يرفعها إلى درجة القطع مما يُكشف عنه من مخطوطاتنا المفقودة، فالأمل في نقلها إلى الفوائت القطعية قائم، حين نجد مصدرا قديما يؤكد ذلك، وبعض فوائتنا الظنية وُجد في مصادفاتٍ سعيدة ما يدعمها وينقلها من الفائت الظني إلى القطعي، والأمر متروك للاجتهاد بعد توفيق الله وليس للتواكل والنوم على (مخدّة لسان العرب) التي صنعها لنا أسلافنا العراقيون رضي الله عنهم. وستحمد لنا الأجيال القادمة أننا حفظنا لهم شيئا من لغتهم ولهجاتهم الفصاح وأخرجناه من تحت الركام، وأتحنا لهم الفرصة للاطلاع عليه والمشاركة في تأصيله بطريقتهم ووسائلهم التي قد تكون أحسن من وسائلنا..
إن الفوائت الظنية عربية صحيحة يؤكدها القياس وسائر المعايير، ويظهر لمن يتدبر المصطلحَ حسنُه واعتدالُه وإنصافُه وتفريقه بين المقطوع به والظني، ولن نقبل من أنفسنا أو من غيرنا أن يلحق الظلم والحيف بلهجاتنا التي وجدناها في منابع الفصاحة باقيةً في أرضها وعلى لسان أهلها أحفاد العرب الأولين، فلتكن لدينا الحكمة والقدرة على استثمار ما نراه صحيحا فصيحا ونظنه فائتا من لهجاتنا بمعاييرنا، ولنخرجه ونميزه من العامية التي تخالطه، وكم نبذنا واطرحنا من العاميات في سبيل نقاء لغتنا ولهجاتها؟!
وخلاصة هذا المصطلح (الفوائت الظنية): أنها تحتمل أن تكون فائتا قطعيا أو تكون مولدة صحيحة فصيحة بقوة القياس والاستعمال والمكان. وفي الحالتين هي عربية ومن حقها التدوين في معاجمنا المتأخرة ولكن بوصفها الدقيق وهو أنها فائت ظني لا قطعي، يحتمل الوجهين إما الفوات أو التوليد الصحيح، وهذا غاية ما نطمح إليه، وهو مما يضاف إلى مكاسب لغتنا ومعجمها، ومن الظلم والجور أن يصفه من لا فقه له باللغة بأنه عامّيّ،فليس ما تحققت في الشروط بالعامي، ولكنه متردد بين الفوات والتوليد كما تقدم. وذكرت هذا مرارا في تغريدات سابقة، وكذلك في محاضرة خميسية حمد الجاسر.
مظانّ الفوائت الظنية (مصادرها):
مظانُّها لهجاتُنا الفصيحة مما امتدَّ عبر الزمان حتى وصل إلينا مسموعا، وأعني بها لهجات القبائل التي لم تزل في ديارها بجزيرة العرب حجازها ونجدها ويمنها وعمانها وشمالها وجنوبها، التي أيضا لم تزل تحافظ على قدر غير قليل من الألفاظ الفصيحة ودلالالتها، واستعنت في ذلك بمحفوظي من لهجتي البدويّة الحجازية وبروايتي الشخصية بالإضافة إلى الاستعانة بالنقاشات اللغوية الجادة في حساب مجمع اللغة الافترضي الذي أسسته لخدمة العربية ولهجاتها في أبرز مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر) وقد شارك معي في الرواية أساتذة جامعات وأكاديميون متخصصون في العربية وطلاب دراسات عليا وشعراء وأدباء وكُتّاب ومحبون للعربية ولهجاتها.
ويضاف إلى ما سبق عدد من المراجع منها على سبيل المثال: معجم الأصول الفصيحة للألفاظ الدارجة، وكلمات قضت، والأمثال العامية في نجد، ومعجم الحيوان عند العامة، وهذه الأربعة للشيخ محمد بن ناصر العبودي، وغريب لغة شمّر (حائل وما حولها) لهزاع بن عيد الشمّري، ومعجم الكلمات الشعبية في نجد (منطقة الوشم) لعبدالرحمن بن عبدالعزيز المانع، ومعجم لبعض الكلمات الشعبية في نجد للمانع أيضا، ومن غريب الألفاظ المستعمل في قلب جزيرة العرب لعبدالعزيز بن محمد الفيصل، وفصيح العامي في شمال نجد لعبدالرحمن بن زيد السويداء، وأصالة لهجة منطقة جازان لمحمد إبراهيم عبده شامي، ومعجم الألفاظ المتداولة عند أهل المدينة المنورة لعدنان درويش، وبعض مؤلفات عاتق بن غيث البلادي، ولسان ظفار الحميري المعاصر لمحمد بن سالم المعشني.. وغير ذلك.
ولهجاتنا الفصيحة وبخاصة ما نجده في البيئات البدوية والقبائل الأقل اختلاطا تعد مصدراً غنيا للفوائت الظنية، وقد احتفى العلماء باللهجات منذ بدء التدوين والتقعيد، وقدّروها حقّ قدرها وعدوها أحد المصادر المهمة للثروة اللغوية المعجمية. يقول الدكتور عبدالله الجبوري في شأن اللهجات: ((اللهجات العربية (لغات العرب) ثروة كبيرة للموروث اللغوي، لما حفلت به من استعمالات لهجية، وأثرها الحميد في درس القراءات القرآنية وفي وضع الضوابط النحوية.. وما وصل إلينا منها إلا القليل))
ولذا فإن إن الاكتفاء في تدوين اللهجات بما وصل إلى علمائنا القدامى ونقلوه ودوّنوه تفريطٌ في ثروة لغوية مفقودة ، وهذا ما أدركه الدكتور الجبوري بفطنته وحسّه اللغوي؛ لأن القبائل لم تنقرض ولم تزل في ديارها ولم يصب لهجاتها على مستوى الألفاظ والدلالة إلا القليل من التطور مما لا يخل بها، ويستطيع الباحث اللغوي أن يستخرج منها مادة لغوية لا يستهان بها تثري معاجمنا القديمة وتعين على فهم نصوص غامضة في تراثنا الأدبي واللغوي.
أنواع الفوائت الظنية:
هي ثلاثة انواع:
1- جذورٌ وهذا قليل، ولكنه ليس نادرا، ومثاله الجذور: بقص وجغم ودسمر وعذرب وغوش وقمطر، وكلها مهملات، ووجدنا لها مادة في لهجاتنا تحققت فيها شروط الفوائت.
2- ألفاظٌ أو مشتقاتٌ في جذر مستعمل، وهذا كثير، وهو يشمل المشتقات (الأوزان) السماعية، أما القياسية فليست من هذا؛ لأنهم قد يتركون القياسيات تخفيفا، للعلم بها. وأمثلته في نماذج الفوائت الظنية ذكرتها في البحث المفصل.
3- دلالةٌ للفظٍ مستعمل، وهذا كثير أيضا. وأمثلته في نماذج الفوائت الظنية التي ذكرتها في البحث المفصل.
أسباب فوات الفوائت:
الفائت اللغوي واقع لا يمكن إنكاره وجمع اللغة كاملة متعذر لصعوبات واجهت جامعي اللغة وصناع المعاجم، فعلى اللغوي أن يبذل ما في وسعه لاستنقاذه وشرف المحاولة خير من سلامة القعود, واللغة العربية محفوظة لايخشى عليها من دخيل, واللهجات التي هي منجم الفوائت الظنية مهددة باكتساح اللهجة البيضاء التي أخذت تكتسح الألسنة, فنحن في سباق مع الزمن، ويمكنني أن أحصر أسباب فوت الفوائت في النقاط الرئيسة التالية:
1- سعة لغة العرب في جذورها ومشتقاتها حتى قيل: إن العربية لا يُحاط بها، كما تقدم
2- اتساع النطاق الجغرافي لبلاد العرب، وصعوبة التنقل ومشافهة كل عربي أو كل قبيلة في ديارة.
3- انعزال بعض القبائل في أماكن نائية لم يصل إليها اللغويون كقبائل جنوب الجزيرة وبلاد عسير واليمن وعمان وهي بعيدة عن اللغويين في العراق.
4- تنوع مصادر اللغة وتفرّقها بين كتب اللغة والأدب والشعر والأمثال والأخبار والتفسير وعلوم الدين.
أهمية جمع الفوائت:
لجمع الفوائت بنوعيها (القطعية والظنية) أهمية بالغة وهي تنطوي على فوائد لغوية جمّة، من أبرزها:
1- تكملة المعاجم العربية وإثراء محتواها باستدراك ما فاتها، وهذا عمل جليل ونهج قديم سنه علماؤنا منذ القرن الثالث، فكان اللاحق منهم يستدرك على من سبقه، ولهم معاجم في المستدركات والتكملات.
2- قد تساعد الفوائت على تفسير قراءات قرآنية لأن اللهجات الفصيحة جزء من القراءات السبعة، أو فهم حديث أو فهم نص قديم.
3- تعين الفوائت على فهم ما قد يكون غامضا في بعض المواضع من معاجمنا بإيضاح دلالة أو كشف تصحيف أو تحريف.
4- يمكن أن تعين على فهم نص شعري قديم مما استغلق على شراح الدواوين أو أخطأوا في تفسيره.
5- تعين الفوائت على إكمال الصورة العامة للخريطة اللغوية الكبرى للفصحى ولهجاتها مما يحقق صدقية أكبر للاستقراء اللغوي المعجمي حين يلجأ إليه الباحثون في الألفاظ أو الدلالة.
6- حفظ الفوائت الظنية من الاندثار حتى إذا وجد لها شاهد فصيح في مصدر قديم أكدها ونقلها من مرتبة الظنية إلى القطعية وحُمد لنا تدوينها، وعرف أنها من مستعمل الفصيح لا من مهجوره.
7- استنهاض الهمم للاستفادة من مخزون لهجاتنا وجمع فصيحها وتمييزه من العامي الذي لا يمت للفصيح بصلة.
ضوابط الفوائت الظنية أو شروطها اللازمة ومؤشراتها المرجّحة:
وضعتُ للفوائت الظنّيّة ضوابطَ أو معاييرَ أو شروطاً إذا تحققت فيها بلغت اللفظ درجة الفائت الظنّيّ، والشروط أو المعايير أو الضوابط نوعان: شروط أو ضوابط لا بد من تحققها فيها وهي ثلاثة ، ومعايير فرعية أو مؤشرات مساعدة مُرجّحة، ليست لازمة، ولكن حين نجد بعضها مع الشروط الثلاثة اللازمة فإنها ترفع من صِدقيّتها وموثوقيتها إلى درجة عالية تقربها من الفوائت القطعية.
والفرق بين النوعين أن الضوابط اللازمة الرئيسة لا بد من تحققها جميعا، أما المؤشرات المرجّحة فلا يلزم تحققها نظرا لطبيعتها وصعوبة تطبيقها، ولكنها حين تتحقق أو يتحقق بعضها فهي داعمة ومقوية للضوابط الرئيسة، ولا يغني تحققها إن تخلف شيء من الضوابط الرئيسة، وفيما يأتي تفصيل ذلك:
أ: الضوابط أو الشروط اللازمة لمعرفة الفوائت الظنية: وهي ثلاثة:
الشرط الأول: تحقق المعيار اللفظي:
وأعني به بناءَ الكلمة في أصواتها وصرفها، فلا بد من أن توافق ما جاء في كلام العرب زمنَ الفصاحة، أصواتاً وصرفاً، أي تكون على قياسه، والباحثُ اللغويُّ يدركُ السبكَ العربيَّ الفصيح، ويدركُ أيضا ما يلحقُ باللهجات من تغييراتٍ عامّيّةٍ تؤثّر على تصريف كلامهم في كثيرٍ من ألفاظهم الفصيحة، وفي وسعه أن يردَها إلى أصلها البنائيّ بيسرٍ أو بلطف الصنعة.
فمن ذلك كلمة: (الخَشِير بمعنى الشريك) و(ارتبش) على وزن افتعل بمعنى اضطرب، فإنّ حروفَهما تشير إلى أنهما من حاقِّ كلام العرب، فهي عربية الصوت والبنية.
وكذلك (الجُغُود بمعني الزُغُود، أي الخدودُ الممتلئة) يقرّبُها الإبدالُ الذي يقعُ بينَ الزاي والجيم مما أوردَه أبو الطيبِ اللغوي في كتابِ الإبدال.
ومنه قولُهم: (ادمح الزلة) وادمح زلتي، وفلان يدمحُ الزلة، أي يغضي عن الخطأ في حقّه . وفي المعاجم دمّح الرجلُ رأسَه طأطا وانحنى.. والصلةُ بين المعنى اللهجيِّ والمعنى الأصليِّ واضحة؛ لأن من يَدمَحُ الزلةَ ويسامحُ عليها كمن يَحني ظهرَه ويُرخى رأسَه، تساهلا وإغضاءً عن زلة صاحبه.
الشرط الثاني: تحقق المعيار الدلالي:
وهو أن تكونَ الدلالةُ مناسبةً لحياةِ العربِ في أزمانِ الفصاحة، أي مما هو مألوفٌ في حياتِهم، فإن كانتِ الدلالةُ لشيءٍ حادثٍ في العصورِ المتأخرة مما جدّ في الحياةِ عُرفَ أنها دلالةٌ محدثة، وأنها ليست من فوائتِ المعاجمِ القديمة.
وحينَ نُنعمُ النظرَ في الأمثلةِ السابقةِ (الخشير وارتبش والجغود ويدمحُ الزلة) نجدُ أن الدلالةَ متوافقةٌ مع ما يألفُه العربُ في حياتِهم اليومية، وليستْ دلالةً حادثةً بعدَ أزمانِ الفصاحة.
الشرط الثالث: تحقق المعيار الجغرافي أو الأطلس الجغرافي:
وأعني به بيئةَ اللهجة، فحينَ تكون اللهجة واسعةَ الانتشار معروفةً في عددٍ من القبائل المتفرقة فإنّ ذلك يرجّح فصاحتها مع الأخذ بالمقياسين السابقين، فكلماتٌ مثل (الخشير والجغود ويدمح الزلة) منتشرةٌ بينَ قبائل الجزيرة وبيئاتها، وكذلك الفعل (ارتبش) واسع الانتشار في قبائل حجازية ونجدية وفي منطقة عسير وفي الشمال نواحي حائل وتبوك والجوف.
فإن كانتِ الكلمة محصورةً في قبيلةٍ أو بيئةٍ واحدةٍ فحسب دعا ذلك إلى التريّث قبلَ الحكم بأنها من فوائت المعاجم، مع أن القدامى أثبتوا في معاجمهم ما يُسمعُ من قبيلةٍ واحدة أو من شاعر واحد، لكننا في مقامِ احتراز، فيحسنُ التشدّدُ هنا؛ لأن أمرَ الفوائتِ ظنيّ.
فكلماتٌ مثل: الخَشير والجُغُود ويدمَحُ الزّلّة، وأزْرَيتُ بمعنى عجَزْتُ عن فعلِ شيء، وانحاشَ بمعنى هربَ وولّى، وارجَهَنّ بمعنى جلسَ وسكن، والعَزْقُ بمعنى التضييق، ومُتَحَشِّد أي مُستحٍ؛ هي كلماتٌ منتشرةٌ بينَ قبائلِ الجزيرةِ وبيئاتِها.
وأنبّهُ على أمر مهم وهو أن القطعَ أو الجزمَ بالفوائت أمرٌ لا سبيلَ إليه مالم نجدْ شاهداً قديما، ولكنَّ هذه المقاييسَ الثلاثةَ هي للتقريب، أو لنقلْ للترجيحِ، فحينَ نقول إن هذه الكلمةَ من الفوائتِ الظنية، يعني هذا القولُ غلبةَ الظنّ بأنها من الفوائت؛ لتعذّر القطعِ بالفائت بغيرِ شاهد. واجتماع هذه المعايير الثلاثة في كلمة أو دلالةٍ لهجيةٍ حريّ بأن يقربَها من درجة اليقين حين يُحكمُ بأنها من الفوائت، دونَ الجزمِ المطلقِ بذلك؛ لتعذّرِ القطعِ بالفائتِ دونَ شاهدٍ أو نصٍ قديم، بخلافِ الفوائتِ القطعية، فهي مرصودةٌ في مصدرٍ قديمٍ موثوق، كدواوينِ الشعرِ وكتبِ الأدبِ واللغة والنوادر ومصادر التراثِ الموثوقِ بها.
ب: المؤشرات المساعدة المرجّحة غير اللازمة، وهي أربعة:
ذكرت فيما سبق ثلاثة ضوابط أو شروط للحكم على كلمة أو دلالة في لهجاتنا بأنها من فوائت المعجم.. وهنا أذكر مؤشرات مساعدة أو مرجّحة ومقوّية لما سبق، ولكن لا يلزم تحققها في كل فائت ظني لما أسلفت، وهي:
1- اللهجات المهاجرة، وأعني بهذا أن تؤكد لهجة مهاجرة لفظة أو دلالة فتوافق الفروع الأصول، أي توافق ما في أصولها في جزيرة العرب، وهذا يحدث في لغات القبائل المهاجرة من المشرق إلى المغرب العربي إبّان الهجرات الأولى في زمن الفتوحات وما أعقبه من موجات للهجرة والاستقرار هناك، فيدل اتفاق الفرع والأصل على قدم الكلمة أو الدلالة، لأنها وصلت إلى لغات المغاربة منذ زمن مبكر مع القبائل التي هاجرت إلى تلك الديار أيام الفتوحات الإسلامية أو في الهجرات المتعاقبة ومن آخرها تغريبة بني هلال إلى الشمال الأفريقي، فالتوافق يعطينا إشارة قوية على قدم اللفظ أو المعنى، وأنه يرجع إلى أيام الفصاحة؛ لأن استعماله - في الغالب - كان شائعا قبل نزوح تلك القبائل إلى المغرب العربي بزمن يكفي لشيوعه وتمسكّ المهاجرين والباقين في ديارهم به، ليبقى حيا في البيئتين على الرغم من تباعدهما وشبه انقطاع الصلة بينهما مما يجعلنا نطمئن كثيرا إلى قدم اللفظة من خلال هذا المعيار الرابع الذي يقوي المعايير الثلاثة الرئيسة، ومثال ذلك كلمة الجُغمة بمعنى الجرعة من الماء، وجذرها مهمل، وهي منتشرة في لهجاتنا في الحجاز ونجد وعسير واليمن وعمان، وقد تحققت فيها الشروط الثلاثة ويضاف إليها هذا المُرجح والمُؤشر أعني اللهجات المهاجرة، إذ وجدناها مستعملة في شرق الجزائر وجنوب تونس وفي ليبيا، فزاد هذا من صدقية تحقق الشروط الثلاثة فيها للحكم عليها بأنها من الفوائت الظنية.
2- نظرية الاشتقاق الأكبر عند ابن جني، وهي تعين في البحث عن الفوائت الظنية، وكان ابن جنّي وشيخه أبو عليّ الفارسي يستعينان بالاشتقاق الأكبر (التقليبات) ويخلدان إليه, مع إعواز الاشتقاق الأصغر في مواضع منها محاولته الجادة للكشف عن المعنى العام للتقليبات الستة للثلاثي، ومنها محاولة الكشف عن حقيقة ما خفي من حروف العلة، كاستدلاله بأن لام الشظا واو لا ياء، فقال : ((لام (الشظا) مُشكلة، ولا دلالةَ في شَظِيَ يَشْظى، إلَّا أنَّهم قد قالوا فيما يُساوِقه: الشُواظ والوَشِيظة، ولم أرَ هنا الياء، وهذا مذهبٌ كان أبو عليٍّ يأخذ به. ومعنى الوشيظ والشظا متقاربان لأنَّ الوشيظة: قُطَيعة عظم لاصقةٌ بالعظم الصميم، وهذا نحو الشظا والشَّظِيَّة؛ فهذا يقوي الواو))، فأثبتَ ابن جني الوشيظة بهذا المعنى سماعا وجعلها دليلا على لام الشظا بالاشتقاق الأكبر، فحكم بواويتها، ولنا أيضا أن نستدلّ بهذا الاشتقاق الأكبر على صحّة السماع في لهجاتنا، وهذا موضع دقيق ونفيس جدا. وهو ((أن تأخذ أصلًا من الأصول الثلاثي، فتعقد عليه وعلى تقاليبه، الستة معنًى واحدًا, تجتمع التراكيب الستة وما يتصرف من كل واحد منها عليه, وإن تباعد شيء من ذلك عنه رُدَّ بلطف الصنعة والتأويل إليه, كما يفعل الاشتقاقيون ذلك في التركيب الواحد... فمن ذلك تقليب "ج ب ر فهي –أين وقعت- للقوة والشدة، ... ومن ذلك تراكيب "ق س و " "ق وس " "وق س " "وس ق " "س وق " وأهمل " س ق و " , وجميع ذلك إلى القوة والاجتماع... ومن ذلك تقليب "س م ل " "س ل م " "م س ل " "م ل س " "ل م س " "ل س م " والمعنى الجامع لها المشتمل عليها الإصحاب والملاينة))
وكان ابن جني يدرك صعوبة تطبيق الاشتقاق الأكبر على كثير من الجذور، ويرى عدم اطّراده، قال: ((واعلم أنّا لا ندعي أن هذا مستمر في جميع اللغة, كما لا ندعي للاشتقاق الأصغر أنه في جميع اللغة. بل إذا كان ذلك الذي هو في القسمة سدس هذا أو خمسه متعذرًا صعبًا, كان تطبيق هذا وإحاطته أصعب مذهبًا وأعز ملتمسًا))
ولذا يمكن الأُنسُ بهذا الاشتقاق الذي ذكره ابن جنّي متى أمكن الوصول إليه وذلك حين نجد معاني الجذور (التقليبات) دائرة حول معنى واحد أو متقارب كلها أو المستعمل منها فإن هذا يفيد بأن ما يتفق مع هذا المعنى مما نجده في لهجاتنا ولا نجده في المعاجم ومما تحققت فيه الشروط الثلاثة هو من الفوائت الظنية، التي عززتها نظرية الاشتقاق الأكبر.
3- الاستئناسُ باللغاتِ "العُرُوبية" المسمّاة (اللغات السامية) وهي أخوات العربية، فحينَ يكونُ اللفظُ في لغةٍ من اللغاتِ السامية، مع توفّرِ شروطِ الفوائتِ الظنيةِ الرئيسةِ الثلاثة فإن ذلك مما يرفعُ اللفظَ إلى درجة أعلى من درجاتِ القبول، فالساميات متقاربة لأنها متفرعة من جِذمٍ قديم واحد، فقد يكون اللفظ اللهجي من بقايا مشتركٍ ساميٍّ (عُرُوبيٍّ) قديم، وقد يموت في بعض الساميّات (العروبيّات) ويبقى في بعضها.
وأصاب العبودي حين قال: "رُبّ لفظ مات في كل اللغات الساميّة الحيّة المعروفة، ولكنه بقي في لغة العامّة في بلادنا يدلّ على عروبته ومن ثَمّ ساميّته))
وهناك أوزان مشتركة بين الساميات، مثل فاعول، فيرى الأب مرمرجي الدومنكي أن وزن (فاعول) سامي الوضع والاستعمال لوروده في أغلب الألسن السامية ولهجاتها، وهو كثير الورود في السريانية للدلالة على اسم الفاعل والصفة والمبالغة، كما يطلق أحياناً على اسم العين، لكّنه وارد أيضا في العربية
وإن كان ذلك أقلّ مما في السريانية للتعبير عن الاسمية واسم الفاعل واسم الآلة والوعاء .
ومن خلال دارسة لعبد الله الجبوري لنصوص عربية وجد أن صيغة فاعول صيغة عربية صحيحة وإن ورد منها شيء من الأصل السرياني، فهو إرث لغوي قديم ساميّ
ويقول عبدالله الجبوري: ((إن الآرامية (ومنها السريانية) هي الصورة المتقدّمة للعربية القديمة المتطوّرة، والعبرانية هي فرع من الآرامية.. لأجل هذا تتبعت ألفاظا وردت في لهجتي: الموصل ولبنان لأنهما حفظا إرثا من الأصول الآرامية))
ومما في لهجاتنا في قبائل الحجاز ونجد وعسير فعل تشنقل فهو متشنقل، أي ساقط على رأسه أو ظهره ورجله نايم على ظهره، وشنقل رجله رفعها على جانب، وليس هذا المعنى في معاجمنا، وهو يحتمل أن يكون رباعيا من شنقل أو ثلاثيا من شقل والرباعي شبه مهمل، والثلاثي فقير جدا في معجمنا حتى قال ابن فارس: (شقل) الشين والقاف واللام ليس بشيء، وقد حكي فيه ما لا يعرّج عليه.
ويمكن تحليل الفعل شنقل رجل وتشنقل، أنها إما من شقل بزيادة النون أو من شنق بزيادة اللام، وبعض الساميات ترجح أنه من شقل، ففي الإثيوبية سقل (س=ث) في العربية "علق" وجذر العبرية شقل يدل على "الوزن"، وفي السريانية شقل يعني: (وزن، ورفع) الأكادية شقالو: وزن ورفع، وهذه الموازنات مع تحقق الشروط الثلاثة ترجع أن شنقل رجله بمعنى رفعها مما جاء في لهجاتنا هو من الفوائت الظنية.
وببعض الموازنات السامية بين الألفاظ أو الجذور يمكن لنا أن نهتدي إلى أصل بعض الألفاظ اللهجية التي لم ترد في معاجمنا مما تحققت فيها شروط الفوائت الظنية، ومن ذلك الفعل (ذَلَفَ يذلف) فليس في جذر (ذلف) في معاجمنا القديمة شيء من معنى ذلف اللهجية التي بمعنى غرب عن الوجه وتنحّى شبه مطرود أو مغضوب عليه، فيقال في لحظات الامتعاض مع الازدراء: اذلف عن وجهي، أي أغرب عن وجهي. وهذا المعنى عام في أغلب لهجات الحجاز في قبائل كهذيل وسليم وحرب وجهينة ومطير وعتيبة وعدوان وفي عموم قبائل نجد، ويقولونها في قبائل الحجر من عسير يقولون على سبيل المثال: فلان ذلف أي ارتحل لكن لا يعلم إلى أين. و تستخدم للطرد بنفس المعنى أذلف، وبالمعنى نفسه في عُمان كمنطقة الظاهرة.
وقد تحققت في هذه الكلمة شروط الفوائت الظنية وزاد عليها من المؤشرات المساعدة المرجّحة أنها موجودة في بعض اللغات السامية، وقد جرى بيني وبين الدكتور سالم الخماش حوار علمي عنها في مواقع التواصل، وأيد أن تكون من الفوائت الظنية وأن لها جذورا في بعض الساميّات تدعمها، فطلبت منه أن يفيدني برأيه محررا في رسالة على الإيميل، وقد فعل مشكورا، ة وللأمانة العلمية سأنقل نص كلامه في كلمة دلف كما وصل إليّ منه، قال: ((ذلف يبدو أنها واحدة من المفردات الموجودة في اللهجات الحديثة، وفي بعض اللغات السامية... وبالبحث في مراجع الساميات وجدنا مشتقات تقوي إلى حد ما المعاني الموجودة في اللهجات العربية الحديثة:
لهجات اللغة العربية الجنوبية:
لهجة الدثينة (جنوب اليمن) ذَلَف "قفز"
الحرسوسية: ذِلوف ḏelōf "قفز"
الجبالية: ذُلُف ḏolof "قفز"
وذكر Leslau في قاموس الجعزية zalaf التي تعني "نقط، سال" (صفحة 637)، وقد قابلها بالجذر السامية التالية:
العبرية القديمة" زالـﭗ zālap "سال"
السريانية zelap زِلَـﭗ "سال، نقط"
ولكنه قابله أيضا بالجذر العربي دلف بالدال غير المعجمة))
وختم الدكتور سالم الخمّاش بقوله: ((وفي نظري أنه كان هناك جذر سامي هو ذ ل ف ḏlf وكان معناه يدور حول معاني "سال، نقط، سرَب"
هذا الجذر تعرض لتغيير في اللفظ والدلالة. فات اللغويين العرب المعنى الأصلي ولم يذكروا منه إلا "استواء قصبة الأنف" الذي أرى أنه من معنى "سلاسة سطح الأنف، وهو معنى قريب للسيلان.
ولكن هذا المعنى بقي مائلا في لهجات العربية الشمالية الحديثة في شكل مجازي "ذهب، غاب، اختفى" وفي لهجات العربية الجنوبية الحديثة في معنى "قفز"، وفي معاني زلف في الإثيوبية الجعزية زلف "نقط، سال"، وكذلك في العبرية والسريانية التي تغير فيهما الذال إلى زاي.كذلك لا نستبعد أن زلف ودلف في العربية هي امتداد للجذر السامي ذلف))
ومن ذلك أيضا الفعل الرباعي (تقرفط) الثوبُ أو القماش أو الجلد فهو متقرفط في لهجات شريحة واسعة في الجزيرة وعدد من القبائل في الحجاز ونجد وعسير وعمان أي تجعد وانكمش ، وتوسعوا فيها فقالوا : تقرفط الرجل إذا انكمش على نفسه وتكوّر متجمعا ضامّا يديه ولافّا جسده في لحاف لاتقاء البرد، وسمع فيها القلب المكاني: متقرفط ومتقفرط، فهذا الفعل الرباعي ليس في المعاجم وقد تحققت فيه الشروط الثلاثة، وزيادة على ذلك نجد أن الاستئناس ببعض الساميات قد يفيدنا، ويدلنا على قدم هذا الفعل، ومجيئة بصور مقاربة في بعض الساميات، ففي السريانية جذر مشابه لجذر تقرفط في المعنى وقريب منه وهو "قرفد" تقبض، وفي الآرامية: قاپـَد : انقبض، التفّ وربما كان التغيير الصوتي من ق پ د إلى ق ف ط أو العكس.
4- الاستئناس بنظرية ثنائية الألفاظ، وهي النظرية القائلة بأن اللغة مرّت في مرحلة من مراحل تطورها بالثنائية، أي كانت ثنائية الجذور، ثم تطورت إلى الثلاثية والرباعية والخماسية، مثل الأصل (غم) تدور دلالته الأصلية حول الستر والتغطية بالماء، وسيل الماء وجرعه، فيفكّ تضعيف الثلاثي المضعف منه (غمَّ) فتنشأ جذور ثلاثية تحمل المعنى الأصلي مع تنويع طفيف في الدلالة يخصص كل أصل منها ويميزه عن غيره، وهي: غمْ - غمّ > غمت > غمج > غمد > غمر > غمز > غمس > غمص (غمصت العين: سال غمصها) غمض > غمل > غمن > غمو > غمي.
فإن وجد فعل في لهجاتنا ولم تذكره المعاجم واتسق ذلك الفعل مع باقي المفكوكات من الثنائي فإن ذلك يرجّح صحته ويؤيده، وقد نجد المفكوكات المتدورة من الثنائي (الثلاثي المضعف) ولا نجده في لهجاتنا، فتصححه المفكوكات منه، وأضرب لهذا النوع الأخير مثالاً واحدا، وهو أن الفعل (لقّ) يلقّ في لهجاتنا يعني لمع وأضاء، أو أن الشيء شديد البياض والنظافة، وهذا المععنى لم يذكر في معاجمنا، ولكنهم ذكروا المعنى في مفكوكه (لهق) قال صاحب التاج: ولهِقَ الشيءُ كفرِح لَهَقاً. ولهَقَ مثل مَنَع لهْقاً، فَهُوَ لهِقٌ: ابيضَّ شَديداً ونجد ذلك في الثلاثي المتطور من الجذر الثنائي (لق) بتصديره بهمزة (ألق) ومعناه البياض واللمعان، ومنه تألّق البرق. فهذان الفرعان المعجميان ألق ولهق بمعنى البياض الشديد تصحح ما في لهجاتنا في قولهم: لقّ يلقّ، أي لمع وأشتد بياضه. ومثل هذا كثير لا يحصى.
أ.د. عبدالرزاق بن فراج الصاعدي
المدينة المنورة
14/ 1/ 1436هـ
7 نوفمبر 2014م
-----------------
مجمع اللغة العربيّة الافتراضي:
http://almajma3.blogspot.com/2014/11/blog-post_7.html