اللغة العربية في فلسطين.. الحاضر والتهديدات- د. أسامة عثمان

كان قيام إسرائيل منعطفاً خاصاً بفلسطين، بلغتها وتراثها، إذ عرف الفلسطينيّون قدراً من العزل عن محيطهم، ثقافياً، ولاسيّما، عرب الـ 48، الذين انفصلوا حتى عن إخوانهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، حتى إذا ما وسّعت إسرائيل احتلالها، وقع فلسطينيّو الضفة والقطاع، بدورهم، في حصار ثقافي وأدبي، وأصبح التفاعل الثقافي المباشر، مع العالم العربي، وانتقال الكتب والمنشورات الثقافية والأدبية محدوداً، ومرهوناً بقيود الحاكم العسكري الاحتلالي. ولم تسلم من الاحتلال دور النشر، وواصلت قوات الاحتلال اعتداءاتها على الجامعات والمؤسّسات التعليمية.

وكان لا بدّ أن يقوم الاحتلال بممارسات عملية من شأنها طمس الوجه العربي للمكان ولمعالمه، من مدن وبلدات، ومن شوارع، وغيرها. فجعلَ الحرفَ العبري فوق الكلمات العربية في الإعلانات وحرّف أسماء المدن، قصداً. وتعمّد تسمية المستوطنات بأسماء كنعانية قديمة، بعد ادعاء عبرانيّتها، بحيث تبدو الأسماء العبرية الجديدة مقاربة لأسماء البلدات العربية المقامة تلك المستوطنات على أراضيها، مثل »قدوميم» بجانب كفر قدوم، و»بركان» قرب بروقين و»تسوفيم»، بجانب منطقة شرقي قلقيلية تسمّى صوفين.

اللغة العربية في الأراضي المحتلة العام 48:

على الرغم من أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية الثانية بعد العبرية، فإنها من الناحية الفعلية تتعرّض لمخاطر حقيقية، لصالح العبرية. ولا تُعلن إسرائيل عقيدة عدائية تجاه اللغة العربية، ولكنها تضبط إيقاعها، وتحدِّد حجمها، من خلال مؤسّساتها التعليمية، والمؤسّسات اللغوية العربية، كـ»مجمع اللغة العربية»، الذي صدَّق الكنيست الإسرائيلي على تأسيسه سنة 2007، وهو يخضع لــ»رعاية حكومية إسرائيلية»، وتعيّن الحكومة الأعضاء الـ 15 الأوائل فيه، ولا يجري أيُّ تغيير إلا إذا صادق عليه وزير المالية.

ومع أن »المَجْمَع» يُصدر أبحاثاً لغوية، علمية وأدبية، وتصدر عنه مجلةٌ علمية حولية محكَّمة، فضلاً عن نشرات المصطلحات التي تقرّها هيئاته في الجريدة الرسمية، ويتعاون مع مؤسّسات التعليم العالي، إلا أن كل ذلك يجري من دون استقلالية، وبالتعاون مع »وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية»، وإلى جوار »مجمع اللغة العبرية»، بالتعاون وتبادل المعلومات، ومنهما إلى (البلاد) والعالم.

وعلى المستوى العام، كثيراً ما خاض أعضاء الكنيست العرب معارك للحفاظ على اللغة العربية، مطالبين باحترامها، وطالب بعضهم بحكم ذاتي ثقافي للعرب، كذلك هناك احتجاجات كثيرة على كتب التدريس العربية المكتظّة بالأخطاء اللغوية، وعلى توجُّه وزارة المواصلات، التي تثبت اللافتات التي تشوّه أسماء القرى والمدن والمواقع العربية، واللافتات المليئة بالأخطاء.

وكان »الكنيست الإسرائيلي» صادق سنة 2010 على قانون بالقراءة الأولى، يلزم المواطنين العرب بكتابة إعلاناتهم التجارية واليافطات باللغة العبرية، لكنه لم يُعتمد بالقراءة النهائية، ولا يزال العرب في الداخل يكتبونها بالعربية.

بالطبع هذا يشي باستهداف اللغة العربية والطابع العربي بصفة عامة، ولكن ثمة أولويات، وهم في كل فترة يجسُّون نبض العرب، للتدرُّج نحو تهويد الدولة بالكامل، الأمر الذي يتساوق والهدف المعلن، بجعلها دولةً يهودية صِرْفة.

اللغة العربية في مناطق السلطة الفلسطينية:

لم تتوقف معيقات الاحتلال وتدخلاته، بعد قيام السلطة الفلسطينيّة، بل إن عدداً من الباحثين والأدباء الفلسطينيّين يرون في »اتفاقية أسلو»، التي قامت السلطة بموجبها، سبباً آخر لاستمرار حالة الضعف الثقافي والأدبي، لكونها لم تتضمّن إشارة واحدة إلى الشأن الثقافي، وإن كانت السلطة حقّقت خطوة ملموسة في مجال التعليم، بوضع مناهج فلسطينية تبرز بقدر أكبر الشعر والأدب الفلسطيني.

بيدَ أن التحصيل العلمي في مدارس السلطة هو دون المستوى المأمول، في المواد الدراسية بعامة، وفي اللغة العربية بخاصة، وذلك على الرغم من توسّع السلطة في إنشاء المدارس، وتحسين البنية التحتية فيها. ففي تقرير إحصائي حول أهداف الألفية الإنمائية (MDGs) الصادر عن مركز الإحصاء الفلسطيني في العام 2009، بيّنت نتائج اختبارات القدرة أن تحصيل الطلبة في مادة اللغة العربية في المرحلة الأساسية، مقارنةً بالدول الأخرى المشاركة مع فلسطين، جاء متدنيّاً. وتتحدث آخر التقارير والدراسات عن وجود حوالى 124 ألف أميّ فلسطيني، بحسب معطيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، حيث شكلت النساء النصيب الأكبر من الأميّين بنسبة 77%.

لكن تأثير الاحتلال الظاهر لا يبدو مرتفعاً، فقد أشار »التقرير الإقليمي حول التعليم للجميع في الدول العربية 2012 إلى انخفاض مستوى التعليم بأكثر من 5 نقاط مئوية في فلسطين؛ بسبب الاحتلال الإسرائيلي، وتشير الوقائع بحسب التقرير إلى أن نصف الأطفال غير الملتحقين في المدارس يعيشون في خمس دول هي مصر، السعودية، السودان، اليمن؛ وليست فلسطين واحدة منها.

وتتضافر جهود متنوّعة من أجل صون اللغة العربية، ومن ضمنها »مجمع اللغة العربية الفلسطيني»، الذي أكّد مؤخراً على ضرورة سيادة الحرف العربي في الحياة العامة، كضرورة كتابة اليافطات باللغة العربية، أولاً.

وتشير دراسات علمية إلى الآثار السلبية للاحتلال الصهيوني على مستقبل اللغة العربية في فلسطين، بحكم الهيمنة الصهيونية واضطرار الفلسطينيّين إلى التعامل مع المؤسّسات الإسرائيلية، منوهةً، بعْدَ الخطر العملي المَعيش، بخطر لغويٍّ ناجم عن التقارب بين اللغتين وسهولة استخدام الفلسطينيّين لمفردات عبرية متداولة.

لكن ثمة إقراراً واضحاً بأن خطر العبرية على فلسطينيّي الداخل أكبر منه على فلسطينيّي الضفة الغربية وقطاع غزة. فعلى الرغم من مكانة العربية الوجدانية والتراثية في نفوس عرب الـ48،إلا أن العبرية أصبحت، بلا وعي، ربما، جزءاً من المخزون الثقافي لغير قليل منهم هناك.

موقعيّة اللغة العربية في الصراع:

يمثّل العرب في فلسطين »جماعة كلامية» تنتظم لغتَها رموزٌ كلامية مشتركة، وتتجلّى بـ»شكل مكتوب»؛ ما يحفظ لها خصائصها، وما يعزّز »التضام» بين الناطقين بها من أهلها. وتمتدّ اللغة العربية إلى تراث عريق لا يزال نابضاً، ومتجدّداً.

في المقابل، تقوم إسرائيل على لغة عبرية بعيدة الصلة عن العبرية القديمة، لغة التوراة، لدرجة أن طلاب المدارس اليوم (بحسب صحيفة هآرتس) لا يفهمون عبرية التوراة. وفي مقابل أمة لم تسمح لها ظروف الشتات (مع أن المؤسّسة الرسمية تعمل على شطب الذاكرة الجماعية لأولئك القادمين من الشتات لـ »صهرهم» في »الأتون الصهيوني) بصنع أدبها الخاص. وفي هذا السياق يعترف يوسف حاييم برنير، أديب يهودي روسي 1921-1981، بعدم وجود أدب يهودي يتميّز بروح قومية يمكن التعرّف إليها، وبعدم امتلاك اليهود لأدب نشأ بصورة طبيعية، وتطوَّر على مدار أجيال، بتفاعله مع القرّاء، وتجلّى في ميول واتجاهات مختلفة». وإن كان ثمة من حاول إيجاد نوع من الاستمرارية بربط الماضي اليهودي بالحاضر والمستقبل، ومن أبرزهم آحاد هعام (1856- 1927) مؤسّس الصهيونية الثقافية.

ومع أن إسرائيل تستهدف تهويد فلسطين- ومن مقتضيات ذلك، طمس اللغة العربية- إلا أنها، وبحكم فاعلية الاستعلاء، وادّعائها بـ »شعب الله المختار» لا تسعى إلى تحويل العرب إلى الثقافة اليهودية، بقدر ما تمارس قهراً وعنجهية احتلالية سافرة ومستفزّة. تتجلّى، فيما تتجلّى، في تهويد أسماء المدن والأماكن الفلسطينية. فلا تمثّل لغة الدولة المحتلة، بذاتها، عنصر تفوق على لغة الشعب المحتلّ، ولا تزال اللغة العربية في فلسطين، على الرغم من الضعف العام، وتأثيرات الاحتلال السلبية، تنطوي، مندغمةً مع الروح النضالية الفلسطينية، على أسباب قوةٍ لا تخفى.

هذه الحالة النضالية تتغذى بحالة الصراع، التي لا تتركها إسرائيل تهدأ، تهويداً واستيطاناً، وهذه العوامل الذاتية الفلسطينية تتقوى بالهُوية الفلسطينية الواضحة المعالم والممتدّة إلى عمق عربي إسلامي.

ومن مظاهر قوة الشخصية الفلسطينية وقوة لغتها، بالتَّبَع لذلك، أنك تجد الأسرى الفلسطينيّين (وهم مَظِنَّة الانطفاء) يخرجون من المعتقلات بحالة ثقافية أعلى في الأغلب، وبسويّة لغوية أكثر صقلاً. وذلك بفضل التنظير الفكري والنقاشات السياسية هناك. ولا يخفى كذلك دور الجامعات الفلسطينية في رفع سويّة اللغة، فهي فوق اضطّلاعها بالدور التعليمي، تستوعب النشاطات الثقافية والأدبية، والسِّجالات السياسية؛ ما يرتقي بالحالة اللغوية.

وكما دخلت مفردات عبرية إلى لغة الحديث، ولاسيّما لدى فلسطينيّين متواضعي التعليم والثقافة يكثر عملُهم عند الإسرائيليّين، فإن مفردات عربية دخلت إلى لغة اليهود الإسرائيليّين، وحتى في الإعلام، ومنها على سبيل المثال: »أهلاً، سلامات، يا عيني»، وغيرها كثير.

ولا يزال الشعر الفلسطيني والأدب والنتاج الثقافي المتنوّع، عبر وسائل نشره المختلفة في الداخل الفلسطيني، وفي مناطق السلطة الفلسطينيّة، يفعل فعلَه في اللغة العربية، يجدّد نهرها، الجاري عبر السهول والمنحدرات، وبالحالة النضالية، إرادية، أو طبيعية، يصونها.

 د. أسامة عثمان: عضو هيئة تدريس في جامعة القدس المفتوحة
--------------
المصدر:

القدس: http://www.alquds.com/news/article/view/id/508315

秋服 メンズ特集!2020年の最旬コーデに取り入れたい狙い目アイテム13選 , メンズファッションメディア

التصنيف الفرعي: 
شارك: