صدر مؤخراً عن الدار العربية للعلوم ناشرون في بيروت كتاب جديد للدكتور عبد العلي الودغيري بعنوان: اللغة العربية في مراحل الضعف والتبعية، يقع في 288 صفحة.
وقد قدَّم للكتاب اللغويُّ التونسي المشهور الدكتور عبد السلام المسدي فقال في كلمته التقديمية : « إن كان علينا أن نستخلص من كتاب الدكتور عبد العليّ الودغيري درسًا في قضيّتنا اللغوية انطلاقاً من منهجه في إسقاط الحواجز بين الأضداد وإلغاء المسافات الذّهنية بين المُتقابِلات، فهو أنه لا مجالَ أمام العرب اليومَ للانخراط بكفاءة واقتدار في المنظومة الإنسانية بكل أبعادها إلا بجبهة ثقافية عتيدة، ولا ثقافةَ بغير هُويةٍ حضارية، ولا هويةَ بغير إنتاجٍ فكري، ولا فكر بغير مؤسّسات علمية متينة، ولا معرفة ولا تواصُل ولا تأثير إلا بلغةٍ قومية تضرب جذورَها في التاريخ، وتُشارِف بشُموخٍ مَكينٍ حاجةَ العصر وضرورات المستقبل...».
أما مقدمة المؤلف فنقتبس منها قوله: « يُعالجُ الكتابُ وضعيةَ اللغة العربية في هذه المرحلة التاريخية الصَّعبة التي تجتازُها أُمَّتُنا العربيةُ الإسلامية بكلِّ دُولها وشُعوبها ومُجتَمعاتها. ولَعلِّي في غير حاجةٍ لكي أشرح مظاهرَ صعوبة المرحلة وخُطورتها والتحدِّيات الكبرى التي تُواجِهُ الأُمةَ على كافة المُستوَيات وفي كل الاتجاهات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية.
وإنما يَكفي أن أقول إننا لسنا في مرحلة قُوةٍ وعافية ورخاءٍ، ولكننا في مرحلة ضَعفٍ حِسّي ونَفسيّ، مُجتَمَعيٍّ وسياسيٍّ، وتخلُّفٍ على المستوى العلمي والتِّكنولوجي والصِّناعيِّ، وتَبَعيةٍ ثقافية واقتصادية تَنعكِسُ آثارُها السَّلبية على بقية الجوانب الأخرى، فتجدنُا عاجِزين عن التحكُّم في قراراتنا الاستراتيجية واختياراتنا المَصيرية وبُلوغ أهدافنا ومَطامِحنا الحقيقية. أيدينا مغلولةٌ إلى أعناقِنا، وحَرَكاتُنا مَحسوبةٌ علينا، وخُطُواتُنا مُقيَّدةٌ لا تستطيع التقدُّمَ قيدَ أُنمُلةٍ إلى الأمام من غيرِ مُوافقةٍ أو تَخطيطٍ ممَّن أَيديهم فوقَ أَيدينا وكَلكَلُهُم جاثِمٌ فوقَ صُدورنا. نحنُ صِغارٌ وضِعافٌ، بل خِرافٌ، أمام هذه القوة أو القُوّات العُظمى المُهَيمِنة. وكثيراً ما نبدو في حالٍ ومَنظَرٍ لا يَخَتَلفان عن حال الدُّمَى والكَراكيز التي تُحَرِّكُها الأَيدي مِن وراءِ سِتارٍ. ومِن ثمَّ يَصعُبُ على شُعوبنا المغلوبة على أمرها أن تَشعُرُ بالحرّية الحقيقية أو تَذُوقَ طَعمَ الاستقلال الذي لا تَكتَملُ عناصِرُه ولا يَتحقَّقُ معناهُ إلا بالاستقلال الثقافيِّ واللغوي. نحنُ مُجرَّدُ قِطَعٍ جُغرافية أشبَه ما تكونُ بِقِطَع الشَّطرَنج فُصِلَت عن تاريخها وهُوِيَّتها وسياقها الحَضاري، صَنَعَها مَن صَنَعَها، وسيَّجَها مَن سَيَّجَها، بحُدودٍ رَسَمها، وعلاماتٍ وخرائطَ وَضَعها وفقَ إرادته وهَواهُ. وعند الحاجة ـ ودائماً هنالك حاجةٌ ـ يُخرِجُها ليَستعملَها في لُعبةٍ مُسَلِّيةٍ، فيُحرِّكُها وقَتَما يَشاءُ، وكيفَما شاءَ، وبمِقدار ما يَشاءُ. ثم يَجمعُها ويُعيدُها إلى صُندوقَةِ لُعَبِه المُفَضَّلَة.
نحن شعوبٌ ذاقَتِ المَرارةَ والهَوانَ في مرحلة سُمِّيَت بمرحلة الاستِعمار ( والأشياءُ أحياناً تُسمَّى بأضدادِ معانيها)، فناضَلَت وكافَحَت حتى جاءت مرحلةٌ اعتَقَدت فيها أنها اجتازَت المِحنةَ، وانكَشَفَت عنها الغُمَّةُ، وأنها نالَت حُرِّيتَها وحانَ الوقتُ للاستِمتاع باستقلالَها. فإذا بها تُفيقُ على واقِعٍ رُبَّما وجَدَته، في بعض الأحيانِ، أَمرَّ وأَقسَى مما كانَ، لتَكتَشِف أن الاستقلالَ لم يكن إلا مُناورةً وتَضليلاً لُغَوياً وتَلاعُباً بالألفاظ. فما كان يُظَنُّ استقلالاً ظهرَ أنهُ في الحقيقة استِغلالٌ. ومَن كُنّا نظنُّه خرَج من الباب بلا رَجعةٍ عادَ من النافِذة بلا خَشيةٍ. فمَلأَت الخَيبةُ نُفُوسَ هذه الشعوب وغَمَرَها إحساسٌ باليأس من كلِّ شيءٍ والشَّكِّ في كل شيءٍ، حتى في قِيَمِها وحضارتها وتاريخها ولُغَتها وثقافتها ومُقَوِّمات هُوِيَّتها العربية الإسلامية. ولاسيما بعدما تَوالَت عليها الهَزائمُ والنَّكَساتُ والمِحَنُ، وأَوجَعَتها الضَّرَباتُ من الداخل والخارِج، ورَأَت الخيانَةَ والمُؤامرةً ممَّن كانت تعتقدُ فيهم الفَلاحَ والصلاحَ والولايةَ والزَّعامةَ. تَعمَّقَتِ الجِراحُ إذَن، وأثخَنَ البعضُ في البعض، ولا أحدَ يَدري مِن أَينَ الشَّرُّ يَأتي ولا أَيَّ شيءٍ يَتَّقي ( .... ).
إن ما تُعانيهُ العربيةُ، بوجه عام والفُصحى بوجه خاص، في هذه الظَّرفية التي لا نَظنُّها إلا عابِرةً مهما طالَ ليلُها، ما هو إلا انعكاس لحالة الأمة وتردِّي أوضاعها. وأَنَّ نهضةَ هذه اللغة لن تكون إلا بنهضة أهلها. ذلك أولاً. أما ثانياً: فهو أن تفريط أهل العربية في لغتهم والإعراضَ عنها هما الأَخطَرُ والأَصعبُ من بين مَشاكلها، والعَقَبةُ الكَأداءُ التي تواجِهُها في الوقت الحاضر. ويوم تَزولُ هذه العَقَبَةُ سترى تلك اللغةَ في وضعٍ آخر. وأما ثالثاً: فإن إبعادَ العربية عن المجالات الحَيَوية، وخاصةً في تلقين العلوم الدقيقة والتِّقنيات، ومجالاتِ الاقتصاد والتِّجارة والتدبير وأسواق المال والبُنوكِ والمقاولات وقطاع الخِدْمات وجزءٍ واسِعٍ من فَضاءات الإعلام والإدارة، هو عنوانُ إهمالها ودليلٌ على الرغبة في تأخيرها وتَهميشها. وإلا كيفَ للغة أن تنمو وتتطوَّر وهي في حالة إبعادٍ وإقصاءٍ؟ إنهم يتَّهمونها بالعجز في تلك المجالات التي ذكرناها، والحالُ أنهم بإصرارهم على إبعادها يتعمَّدون إبقاءَها في حالة القُصور والجُمود التي يُحبُّون أَن يَرَوها عليها. إن اللغات لا تَنمُو من تِلقاءِ نفسِها بوضعها في حاضِنةٍ زُجاجيةٍ مُغلَقةٍ ومُنعَزلةٍ، أو تَهميشِها في زاوية مَنسيةٍ، وإنما بوضعها في بيئة نُمُوِّها الطبيعيّ، حيثُ الحركةُ والنَشاطُ ودَبيبُ الحياة والاستِعمال، وفي مُحيطها الاجتماعي الذي تتفاعَلُ معه بكلِّ طبَقاته وفِئاته ومظاهره وأَحواله الاقتصادية والثقافية والعِلمية والسياسية. ذلك هو المُناخُ السَّليمُ الذي تستطيعُ أن تَعيش فيه وتَتَنَفَّس بشكل عاديٍّ لا اصطِناعِيٍّ. فاللغةُ لا تُصبِحُ عِلميةً إلا باستِخدامِها في مجالات العُلوم، ولا تِقنيةً إلا باستِعمالها في التِّقنِيات، ولا اقتصادية أو تِجاريةً أو إداريةً إلا بإعطائها الفُرصةَ لاكتساب الخِبرة في مَيادينِ الاقتصاد والمُعاملات التِّجارية والإدارية. وقِسْ على ذلك في كل الأحوال الأُخرى. أما الذين يَشتَرطون أن يتمَّ تطويرُ العربية وتَنميَّتُها قبل استِعمالها فيما يجبُ أَن تُستَعملُ فيه، فقصدُهم أن يتحايَلُوا ويُمانِعُوا ويَضَعوا العراقيلَ تلوَ العراقيل، ويخلقُوا المعاذيرَ تلوَ المَعاذيرِ. ونحن نُجيبُهم على هذا المنطق المقلوب فنقول: جَرِّبُوها قبل أن تُجرِّمُوها، وطَوِّروها وأصلِحوها باستِعمالها لا بتَركها وإهمالها».