صدر للدكتور خليفة الميساوي أستاذ اللسانيات والترجمة جامعة منوبة بتونس كتاب بعنوان "المصطلح اللساني وتأسيس المفهوم" عن "منشورات ضفاف" و"منشورات الاختلاف".
وفيما يلي ما جاء في مقدمته: تجمع كلّ الدراسات والبحوث المصطلحية على أنّ المصطلحات تمثل مفاتيح العلوم، وهي نواة وجودها، ولا يمكن لها أن تؤسس مفاهيمها ومعارفها دون ضبط هذا الجهاز المصطلحي الذي يؤسس هوية كل علم من العلوم، بل تتفاضل العلوم بمدى تطور جهازها المصطلحي ومسايرته للنظريات العلمية الخاصة به. فتتسم ظاهرة المصطلح بشموليتها لتخص كلّ العلوم والمعارف، ولكنها تتوسل كلّها باللغة لصناعة مصطلحاتها، وهنا يكمن الدور اللساني في تأطير هذه الصناعة، وتحديد قوانينها الواضعة للمصطلح والمولدة له.
فيتساوق المفهوم مع صناعة مصطلحه في أنساق معرفية تحددها الأسس الفلسفية والمنط قية والأنطولوجية للتكوين المفهوم. وحسب فيستر" لا تحصل في العلوم صفة النسقية إلاّ إذا احتوت على أنساق مفهومية ولا يمكنها ذلك إلاّ إذا وجدت تلك الأنساق داخل أنساق مصطلحية" (1981، 85). فيبنى العلم على الملاءمة بين النسقين المفهومي والمصطلحي، وهو ما يؤسس للنظرية المصطلحية بجانبيها النظري والتطبيقي، إذ المفهوم تكوين تصوري يتشكل في نسق ذهني تربطه علاقة قصدية مع مصطلح يتشكل في نسق لساني خاص به. ولذلك ارتبط المفهوم بالميدان العلمي وارتبط المصطلح باللغة الخاصة بهذا الميدان في علاقة تكاملية هدفها التواصل والتفاهم بين المختصين.
وبما أنّ المصطلح هو الض امن الوحيد لنشأة العلوم وتصنيفها وتطويرها، فإنّ " كلّ نشاط إنساني وكلّ حقل من حقول المعرفة البشرية يتوفر على مجموعة كبيرة من المفاهيم التي ترتبط فيما بينها داخل الحقل الواحد على هيئة نظام متكامل، وتكون على علاقات بمفاهيم الحقول الأخرى كما يتوفر كلّ حقل على مجموعة كبيرة من المصطلحات التي تعبر عن مفاهيمه لغويا. ويصاحب كلّ تقدم وتطور في حقول المعرفة نمو وزيادة في عدد المفاهيم التي تحتاج إلى مصطلحات تقابلها" (علي القاسمي، 1987، 127). فالمصطلحات هي تسميات لغوية لتلك المفاهيم ووحدات رمزية تعبر عن المفهوم كما هو الحال في علم الإشارات أو الرياضيات أو الفيزياء والكيمياء وغيرها من العلوم التي تبني مصطلحاتها على نمط الرموز.
اختلف الدارسون في تحديد مهام المصطلحية فمنهم من اعتبرها علما مستقلا بذاته له أسسه النظرية والتطبيقية، ومنهم من اعتبرها سليلة علوم أخرى قديمة، مثل علم الدلالة والتسمية والمعجمية ولا فضل لها سوى إضافة التطبيق المنهجي، ومن مناصري هذا الاتجاه الثاني نجد (ساجر، 1990)(1). ولقد مرت المصطلحية حسب كابري تيرازا بثلاثة مسارات:
1) مسار لساني مصطلحي نشأ في مدارس أوروبا الوسطى والشرقية ويعتمد على تقييس المفاهيم وتسمية المصطلحات بهدف التواصل المهني الدقيق.
2) مسار الترجمة الذي اعتمدته المنظمات الدولية المتعددة اللغات وكذلك الدول الثنائية اللسان ومتعددته، ويهدف إلى ضبط المتقابلات المصطلحية التي يحتاجها المترجم.
3) مسار تقييسي وتأسيسي يرتكز على المصطلحية بهدف تهيئة اللغة وجعلها مناسبة للتطور العلمي والمهني وملائمة للتواصل المهني في شتى المجالات بما في ذلك المجالات التكنولوجية الدقيقة التي تعتمد على التوليد المصطلحي.
ويعني مصطلح "مصطلحية" حسب كابري تيراز على الأقل ثلاثة مفاهيم مختلفة:
أ) مجموعة المبادئ والأسس المتصورية التي تتحكم في دراسة المصطلحات.
ب) مجموعة القواعد التي تحقق العمل المصطلحي.
ت) مجموعة المصطلحات التي تكون مجالا من مجالات التخصص المعينة. (انظر كابري تيرازا،1998، 70).
وعرف ديبوا المصطلحية بأنّها " مجموعة من المصطلحات المعرّفة بدقة، يعين العلم بواسطتها مفاهيمه" (ديبوا، 1994، 43). وأرجع ألان راي المصطلحية إلى ثلاث ممارسات: الممارسة العرفانية والممارسة اللسانية والممارسة الاجتماعية، وهي ممارسات ذات علاقة ترابط متينة (ألان راي، 1988، 30). تعود هذه التعريفات المختلفة إلى تشعب مسارات المصطلح وصعوبة تأسيس المفهوم، إذ كان الهدف من المصطلحية باعتبارها علما ناشئا جديدا، معالجة المصطلحات التقنية والعلمية وتقييسها وجعلها سهلة التناول بين العلماء والتقنيين والمهنيين.
وأدّى اختلاف الميادين المعرفية والعلمية التي تعتمد عليها المصطلحية إلى اختلاف مناهجها وتنوع مدارسها ومقارباتها ونظرياتها. لا شك في أنّ أثار هذا الاختلاف والتعدد انتقلت إلى "المصطلحية العربية" التي لم تستفد من هذا التنوع والاختلاف إلاّ سلبا ممّا أثـّر على مجراها النظري والتطبيقي، فأنتج خلطا مصطلحيا عجيبا في التصور والمفهوم والوضع والتوليد والتقييس والتوحيد والترجمة، فأدّى إلى كثرة العوائق الابستيمولوجية التي حالت دون نشأة مصطلحية عربية أصيلة متصورا ومفهوما ومنهجا، سنحلل أسبابها العميقة في متن هذا الكتاب موزعة على جميع فصوله.
ومن أهمّ الأسئلة والمشكلات التي بنينا عليها فرضيات هذا البحث:
كيف يتشكّل المتصور؟
كيف يتكّون المفهوم؟
كيف يصنع المصطلح؟
ما هي العلاقات الرابطة بين هذه القضايا الثلاث؟
كيف انعكست هذه القضايا على البحث المصطلحي العربي تنظيرا وتطبيقا في مستواه العام وفي مستوى المصطلح اللساني خصوصا؟
سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة في ثنايا أبواب هذا البحث أملا منا في حل بعض مشكلاتها النظرية والتطبيقية المطروحة على الدرس اللساني العربي اليوم، محاولين وضع رؤية خاصة بمشاكل المصطلح اللساني وقضياه الابستيمولوجية والمعرفية المتصلة بتأسيس المفهوم، والكشف عن العوائق التي تقف أمام تحقق هذه الرؤية.
فقسمنا الكتاب إلى خمسة أبواب تتضمن تسعة فصول طرحنا فيها قضايا المصطلح اللساني طرحا إشكاليا يتصل بالتنظير والتطبيق، قصد البحث عن أسس تأسيس المفهوم المصطلحي الذي نرى فيه مشغلا مهما بالنسبة إلى "المصطلحية العربية" بصفة عامة، ولا سيما في عصر باتت فيه الدراسات المصطلحية أمرا ضروريا للنهوض باللغة العربية واللحاق بها إلى مصاف لغات العلم المتطور، فلا مفر من تأسيس المفاهيم العلمية بعقل عربي قادر على تجاوز عقباته وعقده وتخلصّه من الأحكام المعيارية والانطباعية والارتسامية والدغمائية التي لا تزال تقف أمام ثورة علمية عربية حقيقية تقلب الفهم الخاطئ للتراث وتفهم ما هو علم كوني إنساني دون تعصّب أو تحيّز بما يفيد نشأة علمية حقيقية تقف على شروط العلم وعناصر تكوينه بكلّ تجرّد وموضوعية.
ولذلك فإنّ عوائق تأسيس المفهوم عند العرب ينقسم في رأينا إلى قسمين: قسم يتصل ببنية العقل العربي التي لم يصل فيها إلى الفكر القصدي المتعالي الباني لتكوين المتصورات ونقلها إلى مفاهيم حتى تنشأ المعرفة العلمية على أسس سليمة. وقسم يتصل بنظام المؤسسة العربية التي لم تدرك أهمية العلم الحقيقي وكيفية نظامه وشروط تطوره، فبقيت تجتر تراثا محاولة البحث فيه عن إجابات لأسئلة العلم الراهنة- وهو أمر في رأينا لا يجدي نفعا لأنّ زمان أجدادنا لا يصلح لزماننا وإن ساعدنا ما خلـّفوه من إرث في حلّ بعض القضايا الراهنة- أو تنقل نقلا من العلوم الغربية دون فهم حقيقي في أغلب الأحيان لشروط تأسيس المفاهيم الغربية في أصولها المعرفية والمتصورية، وهو ما انعكس في الترجمات الخاطئة التي شوهت العلم المنقول، فزادت من عوائق تأسيس المفهوم عند العرب وعطلت ميلاده أو تولدت عنه مصطلحات لا تفي بحاجة شروط بناء العلم، ممّا جعل "المصطلحية العربية " تتسم بفوضى المصطلح الناتج عن عدم إدراك المفهوم في أصوله وكيفية ترجمته إلى مفهوم نابع من اللغة العربية.
ولهذه الأسباب جعلنا عنوان الكتاب يتسم "بتأسيس المفهوم" قصدا منّا للفت الانتباه إلى أهمية هذا الأمر في الدرس اللساني العربي وخصوصا المصطلح اللساني باعتباره مفتاحا لكلّ العلوم. فإنّ أيّ علم يريد أن يتطور عليه أن يحسن بناء مصطلحاته المناسبة لمتصوراته والملائمة لمفاهيمه، فيدرك شروط إنتاجها إدراكا واعيا بالظاهرة المصطلحية في تراتب مستوياتها وحدود علاقاتها. ولذلك فإنّ الأسئلة المطروحة اليوم على البحث العلمي العربي هي أسئلة ابستيمولوجية تتصل أساسا بتأسيس المفهوم وصناعة المصطلح، وهو ما سنرى جانبا منه في هذا الكتاب يتعلق بالمصطلح اللساني في جميع مستوياته وقضياها الراهنة والاستشرافية، بدء بطرح الأسئلة وإثارة القضايا ثم معالجتها في ضوء النظريات المصطلحية ومقارباتها الحديثة.
-----------
(1) انظر حول هذه المسألة: - Cabré, M. Teresa, 1998, La terminologie : théorie, méthode et applications. Paris, Masson et Armand Colin, p33.