ـ1ـ
سترى الناس في مواقفهم من العامِّيَّة اليوم مختلفين، وَفق هذا التقسيم التقريبي:
1- فريق هو جزء من الأدب العامِّي؛ فهو لا يملك إلّا حُبَّه وحُبّ من يُحبّه، والتعاطف مع نفسه فيه، والتعصّب لها وله، والدفاع عنهما؛ غير قادر أصلًا على التجرّد الذهني في الرأي والحُكم. وللحُكم ومَلَكَته العقليَّة والذوقيَّة أصوله ومنطلقاته، التي أبان عنها قديمًا (إيمّانويل كَنْت Immanuel Kant) في كتابه المعروف «نقد مَلَكة الحُكم».
2- فريق خائف، يخشى معرَّة إعلان رأيه، وإنْ لم يكن لا من الفريق الأوَّل، ولا ممَّن يجهل خطورة العاميّة، ولاسيما شِعرها، لغويًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وقيميًّا، وحتى اقتصاديًّا. فهذا الفريق يُؤْثِر الصمت المُطبِق، والسلامة الهانئة، والتخلِّي عن مسؤوليَّة الكلمة. ومِن هؤلاء أساتذة جامعات في الأدب، والنحو والصرف، والبلاغة، والشريعة.
3- فريق عامٌّ عائم، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ لا يدري أين تتَّجه البوصلة. وَجَدَ نفسه هكذا أمام شاشات، ومجلّات، ومواقع، وأسماء، وألوان، وطيور، وخيول، وإبل، كُلّها تدور في زوبعةٍ نبطيَّةٍ هائلةٍ، باسم الأصالة، والتراث، ومجد الآباء والأجداد. فهو، لأجل ذلكم، مع الخيل يجري، ولو إلى حيث ألقت! تأُزُّه عاطفةُ انتماء إلى ذلك الأدب وأهله من جهة، وعاصفةُ إعلامٍ يَخلب الألباب من جهة. ضحيَّةٌ، مغلوب على أمره في كلّ حال. وهؤلاء هم السواد الأعظم، من الأنقياء، والبُرءاء من الأغراض. وعليهم المعوَّل في إعادة الفهم، رغم تواضع شأنهم؛ لأنهم غير مؤدلجين، وإنْ جَرَفَهم التعصُّب لأسباب قَبَليَّة أو ثقافيَّة.
4- فريق ليس بجزء من هذا الأدب العامِّي؛ لأنه لا يمتلك موهبة، وإن روَى الشِّعر وحاكاه في بعض منظوماته، ولا أدوات نقديَّة تُذكر له. وهو كذلك غير محفوزٍ بخوفٍ أو مجاملة بالضرورة، وإنْ كانت المجاملة في هذا الميدان بالغة الإغراء؛ لأنها تُكسب صاحبها دفء الأمان والحُبّ، وربما الجاه. كما أن هذا الفريق غير جاهلٍ بشأن الأدب من اللغة، وشأن اللهجات من اللغات الوطنيَّة، كما لا يجهل ما يحمله الشِّعر العامّي بخاصَّة من إرثِ تخلُّفٍ قيمي وحضاري. لكن هذا الفريق إمّا تَوَرَّطَ تخصُّصًا في هذا المجال- فهو نظير الفريق الأوَّل من حيث لا يملك إلّا التعاطف مع نفسه، والدفاع عن مجال عمله؛ غير قادر على التجرُّد في الرأي أو الحكم، وإلّا أبار بضاعته وأكسد سوقه- وإمَّا تراه يُقدِّم آمالًا تنظيريَّة وأيديولوجيَّة، ويؤخِّر أخرى من حقائق ووقائع. ومن ثمَّة فهو مستعدٌّ أن يضحِّي بعقله المعرفي، وضميره اللغوي، في سبيل «رغائبه» الفكريّة، حسب رؤيةٍ تخصُّه، في المجتمع والثقافة والأنثروبولوجيا، وحتى في الدِّين. فإنْ نال مبتغاه كان بها، أو بات كالمهزوم يعمل بسياسة الأرض المحروقة، ولتذهب كل المبدئيَّات إلى الجحيم في سبيل طموحاته الفكريَّة والأيديولوجيّة. قد يصدق عليه قول القائل: فليس بذي دُنيا ولا ذي دِيانةٍ ** ولا ذي حِجًى في عِلْمهِ وسَدادِ!
ومثل هذا غير حفيٍّ بأشياء من قبيل: اللغة/ الهويَّة/ الدِّين/ الاستقلال/ الحضارة/ الوحدة الوطنيَّة/ الانتماء إلى التاريخ والجغرافيا. بل قد يرى جُلّ تلك المفردات، أو كلّها، أحجار عثرةٍ في طريق مشروعه. من حيث إن الدعوات- الصريحة أو المبطَّنة- إلى العاميَّة في العالم العربي ترى- وإن غَمغمت- في تلك المفردات معيقاتٍ لها؛ بل هي بالأحرى تستهدف بمشروعها تحطيم تلك المفردات وما تعنيه؛ لأنه لا قيام لمشروعها بقيام تلك المفردات. فلا قيام مثلًا للدعوة للعاميَّة مع الاعتزاز باللغة العربيَّة الفصحى، أو بالهويَّة العربيَّة الأُمّ الأصيلة، وبالحفاظ على الدِّين الإسلامي، بلسانه العربيّ المُبين، الذي أصبح لسان الاستقلال والحضارة والوحدة الأُمميَّة للمسلمين. لا يستقيم هذا وذاك في (رأس واحد سليم)؛ كما لا يجتمع سيفان في غِمدٍ واحد!
ـ 2 ـ
ولو أن اللغة العربيّة نجت من تلك الأهواء والنوايا، التي تعصف بها في الدروب ومنحنيات التاريخ، لَتَـبَيَّنَ الصادقون أن التقريب بين الفصحى والعامِّـيَّة ممكن، وأن رأب الصدع بينهما يسير. ذلك أن معظم العامِّي فصيح الأصل، عريق الانتماء في كلام العرب. وهو كذلك لا على مستوى المفردات فحسب، ولكن على مستوى المركَّبات أيضًا، من سُنن تعبيرٍ، وطرائق مجازٍ، وأمثال، ونحوها. وسأضرب مثلًا بسيطًا هاهنا، يشير إلى أيّ مدى ما زال ما قالته العرب ساريًا معظمه على ألسنة العوامِّ، وإن مسَّه التغيير:
كنّا نقرأ منذ أيّام الطَّلَب في الثانويات العامَّة بالمعاهد العلميَّة أن من المجاز المركَّب التمثيلي قول العرب: «فلانٌ يقرِّد فلانًا»، وكنا لا نستوعب المعنى الاستيعاب كلّه، وكانوا يقولون لنا إن معنى تلك العبارة: يتلطَّف له، كمن يزيل القُراد عن جسم البعير ليسكُن إليه. وكنتُ، وأنا في تلك المرحلة، أسمع في تعبير العوامِّ في (شمال السعوديّة)- حيث درستُ، وربما كان هذا في لهجات مناطق أخرى- قول الناس: «فلان يقردنه». وهم يقصدون التعبير نفسه، أي: «يُقَرِّده»، بمعنى: يتلطَّف إليه. في تعبيرٍ على سبيل الاستعارة التمثيليَّة. وكُلّ مَثَـلٍ سائرٍ: استعارةٌ تمثيليَّة. غير أن العوامّ لا يعرفون أصل هذا المعنى، وإنما صار التعبير على ألسنتهم مفهومًا دون إدراك اشتقاقه وتاريخه. وفي الوقت نفسه لا يعرف المتعلِّم الصِّلَة بين التعبيرين العامِّي والفصيح، وإلّا لصارت مسائل البلاغة العربيَّة من بنات لهجته اليوميَّة، ولما تاه في تلك المعمَّيات التي صنعها السكّاكي، ومن سلك دربه من البلاغيِّين القدماء. وأمثال هذا بلا حصر. وهي تدلّ على ما نقوله من أن الهوَّة بين الفُصحى والعامِّيَّة مصطنعة في كثير من جوانبها، تزداد بتعصُّب أرباب الفُصحى وتقاعس أرباب العامِّيَّة وجهلهم.
ـ 3 ـ
إننا لا نجد أي وثائق تدلّ على وجود عامِّيَّة عربيَّة قديمة، بعيدة عن الفصحى هذا البعد الذي نعرفه اليوم بين اللهجات والفصحى، ولا نعرف كذلك مثل هذا الشتات والتمزُّق المفرط بين لغةٍ حيَّة وعامّياتها، سوى العربيَّة الفصحى وعامّيّاتها. أمّا إعادة اللُّحمة بين هذين المستويين في السياق الأدبي وغير الأدبي فمردُّه إلى مهارة الشاعر أو الأديب أو مستعمل اللغة بصفةٍ عامَّة. وذلك بأن تكون له فيه «إصبع»، أي أن يكون له فيه: حِذق ومهارة(1).
على أن الهُوَّة بين الفصحى والعاميَّات بالغةُ التأثير، لا في اللسان العربي فحسب ولكن في العقل العربي والفكر العربي والإبداع العربي أيضًا. ذلك لأن الذهن يحتاج لدينا دائمًا إلى إجراء عمليِّتين لدى استعمال اللغة، الأولى معالجة بنية المعنى- معبَّرًا عنها بلغته الطبيعيَّة (العامِّيَّة)- ومن ثَمَّ الانتقال إلى المعالجة الأخرى، لنقل تلك البنية السابقة إلى البنية الفصيحة، في عمليَّة ترجمةٍ تلقائيَّةٍ، مراوحةً بين مستويين لغويَّين. وهو ازدواج يُرهِق الذهن، ويُربك الفهم والإفهام، ويُحدث درجاتٍ متفاوتة من اللَّبس في عمليَّتَي الإرسال والتلقّي. ولهذا تَحدث معاناة العربيّ المريرة في القراءة، في نوعٍ ممَّا يسمَّى بإعاقة القراءة Alexia. والناشئ العربي لا يقرأ لا لأنه أقلّ من الأوربي حُبًّا للاطِّلاع بالضرورة، ولكن لأنه معاق، يعاني من تلك الازدواجيَّة الذهنيَّة بين لغتين من أصلٍ واحد. ثم هو، إنْ قرأ، لا يستوعب كثيرًا ما يقرأ. فتَصْرِفه المشقَّة القرائيَّة- مع الشعور بالخيبة الذهنيَّة والنفسيَّة من تحصيل المعلومة والمتعة ممّا قرأ- عن حُبّ القراءة عمومًا. مصداق ذلك أنك تراه، إذا تعلَّم لغةً أخرى وأحسنها، صار شغوفًا بالقراءة، وازداد تمثُّلًا لكثيرٍ ممّا كان يقرأه بلغته ولا يكاد يفقهه، فإذا هو يقرأه بلغةٍ أخرى ويفهمه على نحوٍ أفضل ممّا كان يفهمه بلغته، وإن اتَّصل بصميم ثقافته نفسها، وكان يُفترض أن يفهمه بلغته لا بغيرها. إن مشكلة المشكلات، إذن، في دنيا العرب التعليميَّة، وفي ثقافتهم كذلك وفي سلوكهم، كامنة في اللغة أساسًا، قبل أيّ عاملٍ آخر وبعده. فأَنَّى يُؤفَكون؟! ---------------
(1) العرب تعبِّر بالإصبع عن الحِذق والمهارة، على سبيل المجاز المرسَل. ولعلّ كُنية الشاعر (ذي الإصبع العدواني) جاءت من هذا. ومنه قول (الراعي النُّمَيري)، في وصف نفسه وإبله وإحسانه رعايتها:
ضَعيفُ العَصا، بادي العُروقِ، تَرى لَهُ ** عَلَيها إِذا ما أَجدَبَ الناسُ إِصبَعا
[الكاتب: أ.د/عبد الله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «العامِّيَّات وأثرها في إعاقة التعلُّم!»، المصدر: صحيفة «الرأي» الكويتية، العدد 12301، الأربعاء 6 مارس 2013، ص32].