الإنسان واللغة! - أ.د/عبدالله بن أحمد الفَـيْـفي

ــ1ــ

لكل عصر لغة، ولكل مقام مقال، ولكل نصّ أسلوب، ولكل جنس أدبي بيان. وليس يعني عدم استعمال ألفاظ، أو تداولها، في عصر من العصور تصنيفها في باب الغرابة والحوشية، أو تدنِّي الفصاحة في مستعمل اللغة حين يستعمل تلك الألفاظ.  ولو كان ذلك كذلك، لصار معظم العربيَّة اليوم حوشيًّا غريبًا منبوذًا، لجهل الناس غالبًا بالعربيَّة.  ولعلّ عالم اللغة (أبا الفتح عثمان بن جني، ــ392هـ= 1002م) كان من أكثر علمائنا القدماء استنارة ووعيًا بطبيعة اللغة وضرورات الشِّعر. سواء تعلّق الأمر بضرورات الشعر التعبيريَّة والموسيقيَّة، أو ضرورات اللغة في التطوُّر ومواكبة مستجدات الحياة.  لهذا ذهب إلى أن ما جاز للعرب القدماء جاز للاحقين، ولم يقدِّس قاموس القدماء، ويقفل اللغة وأبوابها دون المحدثين. وكان له في هذا مصطلحه الدالّ على فكره اللغوي، وهو ما دعاه بـ«ـشجاعة العربيَّة»(1) 

ثم إن من وظيفة الأدب إحياء اللغة، واستغلال طاقاتها القديمة والجديدة في التعبير والتصوير، وتوظيف بعض المفردات للتعبير عن معانٍ خاصَّة، قد تكون حوشيَّة، أو غريبة،  أو أعرابيَّة، أو قديمة، أو حديثة، أو حتى أعجميَّة أو عاميَّة.  فهذا هدف فنِّي يتعمَّده الشاعر لا عن جهل، ولا عن عِيٍّ.  وهذا ما لا يلتفت إليه معظم نقدنا البلاغي القديم، بل يردِّد تطلُّب السهولة والوضوح، وكأن ذلك مطلبٌ في كلٍّ حال، هكذا ضربة لازب. 

كما أن مفهوم القدماء حول البيان لم يكن يفرّق كثيرًا بين طبيعة الشِّعر وطبيعة الخطابة، ولا بين طبيعة النظم الشِّعري وطبيعة النثر الأدبي.  كانت لديهم القصيدة وسيلةَ إيضاح، وأداة إبانة، كالخطبة تقريبًا، وكالنثر البليغ!  على أن هذا ليس لدى العرب وحدهم، بل هو لدى معظم الأُمم القديمة.  ولذاك وُظِّف الشِّعر، أو بالأصحّ «النظم»، للتعليم والتاريخ.  فأنت إذا قارنت الأمر، على سبيل المثال، بمفخرة الفُرس الشِّعريَّة الكُبرى قديمًا، «الشهنامة»،  (للفردوسي، ـــ1021م)، وجدت أنها إنما جاءت في ستين ألف بيت(2)، من هذا الباب، لا من باب الإبداع الشِّعري.  لأجل هذا قد لا تجد فيها كثيرًا ممّا يشوقك شِعريًّا، من حيث هي تاريخ أكثر ممَّا هي شِعر، بما تعنيه كلمة شِعر من معنى.  وهي، فوق ذلك، تاريخٌ لم يُسرَد بطريقةٍ ملحميَّة خياليَّة مشوِّقة كثيرًا، كما لدى الإغريق في ملاحمهم الأسطوريَّة، التي- وإنْ لم تَصِل بلاغيّاتها الشِّعريَّة إلى غير الإغريق كلّ الوصول- فإنها تدخل إلى المتلقّي، أيًّا ما كانت لغته، من باب الخيال السردي الأسطوري، وعبر لَبوسها من الجمال القصصي الفاتن.

ــ2ــ

ولشأن اللغة ذاك، يمكننا أن نُجري المحاكمة الآتية:  لقد تمّ في جزيرة العرب خلال القرن المنصرم التخلُّص من عقابيل أمراض اجتماعيّة وعقديَّة كثيرة كانت سائدة بين الناس. غير أن ما تمّ في المستوى الدِّيني من تحريرٍ من أغلال ذلك الإرث البالي، لم يصاحبه تحرير في المستوى اللغوي.  والسبب في ذلك أنه نُظر إلى الشِّعر على أنه مجرَّد كلام، حسنه حسن.. وقبيحه حسن أيضًا!  مع أن الشِّعر اللهجوي كان وعاء تلك الثقافة الاجتماعيّة والقيمية والدِّينية القديمة، بلغتها، وطرائق تفكيرها، ومُواضعاتها الاجتماعيَّة. أي أن مشروع الإصلاح «الوهّابي»- إنْ جاز الوصف- إنما حَسَّن القشرة الظاهريَّة للثقافة، فيما بَقِي اللُّباب مَوّارًا بتاريخه العتيق. ولا يمكن هنا أن نفهم دعوى سلامة المعتقد مع عدم سلامة اللغة، حاملة ذلك المعتقد، وعيًا وتعبيرًا.  كما لا يستقيم نشر عقيدة دون لغتها، ناهيك عن بقائها متلبّسةً بلغة عقيدة نقيضة.  مثلما أنه لا يمكن عمليًّا إصلاح الأرواح والتصوّرات والعقول، واللغة التي تحمل تلك المعطيات الروحيَّة والتصوريَّة والعقليَّة قائمة، مزدهرة، ممتدَّة، تمتح من مياه تلك الآبار القديمة ما شاء لها الهوى أن تمتح.  فما الدِّين إلّا لُغة، وما الإنسان إلّا لُغة كذلك! لا يمكن ذلك الفصل، إذن، ولا يُتصوَّر، إلّا لدى مَن لا يعرف ما تعنيه اللغات، وما يعنيه الشِّعر، في حياة الأُمم. ولهذا الوعي الدقيق بما تعنيه اللغة في حياة الناس حَرَّم الفرنسيّون على الجزائريِّين اللغة العربيّة في الخمسينيّات من القرن الفارط، فارضين التعليم بالفرنسيَّة. وفي تجربة الروائي الجزائري (واسيني الأعرج) شاهد في هذا السياق؛ فلولا إصرار جَدَّته على تعلُّمه العربيَّة؛ لكي يكون أهلًا للانتماء إلى أجداده المورسكيِّين الأندلسيِّين، لربما لم يُصبح شيئًا مذكورًا في عالم الأدب، فضلًا عمَّا وراء الأدب واللغة من انتماء ثقافيّ وحضاريّ.(3) والشواهد في هذا كثيرة جدًّا. 

من هذا المنطلق لا غرابة أن الإصلاح الدِّيني والاجتماعي الذي جرى في جزيرة العرب بتلك الحركة التجديديَّة لابن عبدالوهاب- مع قيمته العُليا- قد بقي يلامس الظواهر والسلوكيَّات، فيما ظلَّت البواطن والمستكنَّات مغبرَّةً بماضيها. كما لا غرابة أن تبقى مدنيَّتنا العربيَّة الحديثة- بصفةٍ عامَّة- قشرةً، لُبابها البداوة، وباطنها الأعراف والتقاليد والقِيَم البدائيَّة. ولهذا سرعان ما تستيقظ ذاكرتنا الاجتماعيَّة القديمة، و«سُلومنا» القَبَليَّة المباركة، بمختلف نعراتها؛ لنعود كما كنّا، أو أشدّ غيًّا؛ لأن روح تلك الذاكرة، ولأن لغتها وإكسير حياتها؛ كل ذلك ما يزال حيًّا متأجِّجًا في الصدور والرؤوس. ثم جاءت التقنية الحديثة لتسميد تلك البذار، إذ سعى الساعون إلى ترسيخها وتأبيد ثمارها، من الخليج إلى المحيط.  بل أكثر من هذا، فإن هذه العقليَّة الاجتماعيَّة تُلبَس، أحيانًا، لَبوس الدِّين نفسه، والسلفيَّة ذاتها، والوطنيَّة، والأصالة، والقِيَم العربيَّة والإسلاميَّة الصميمة، وما إلى ذلك من شعاراتنا الخلّابة. لأجل ذلك نشأ تمجيدٌ لذلك الإرث، لم يكن له، حتى في ماضيه القديم، وجعلنا نسمع وصفه بأنه: "تراثنا" العريق، ومجدنا التليد...!  ومن ثَمَّ رُبط شِعره العامِّي بالوطنيَّة، وبشؤونها الأثيرة، واندفع الناس زرافات ووحدانًا يطوفون ببيته ويتمسَّحون بأركانه. فلا غرو أن أصبح من مسلَّماتنا اليوم، وأن بات يُضَخّ عبر خطابنا الإعلاميّ المحلِّي والخليجي، الرسمي منه والخاص، وكأنه قدر مقدور، لا فكاك لنا منه إلى يوم الدِّين! حتى لقد أصبح انتقاد هذا الواقع مستغربًا، وفاعله مشنوءًا، واقترافه يحزّ في بعض النفوس. وحتى ظهر جيل جديد تربَّى سمعه وبصره وعقله على هذا الهيلمان الإعلامي الشِّعري؛ لم يعتد على مقاربته بنقد، بل دَرَجَ على تملُّقه بالتمجيد، واعتاد له الإشادة والتصفيق. وبذا أصبح الشِّعر العامِّي تيارًا فكريًّا وأيديولوجيا، ولم يَعُد مجرَّد أدبٍ تداوليٍّ، يُمارَس بعفويَّة، بعيدةٍ عن التعصُّب والأنفاس الأصوليَّة.

وهنا سترى الناس في مواقفهم من هذا الشِّعر طرائق قِددًا: بين متورّطٍ فيه، وخائفٍ من أهله، وفاقد البوصلة في شأنه؛ فهو مع الخيل يجري، وإنْ إلى هاوية.  وثمَّة فريق آخر، هو الأخطر، يقدِّم آمالًا تنظيريَّة، وأحلامًا أيديولوجيَّة، على ما سواها من حقائق ووقائع.  وهو مستعدٌّ أن يضحِّي بعقله المعرفي، وبضميره اللغوي، في سبيل «رغائبه» الفكريّة، وَفق رؤيةٍ تخصّه، في المجتمع، والثقافة، والأنثروبولوجيا، وحتى في الدِّين.  فإنْ نال مبتغاه، كان بها، أو بات كالمهزوم يعمل بسياسة «الأرض المحروقة»، ولتذهب المبدئيَّات وجميع المصالح العُليا إلى الجحيم، في سبيل طموحاته الفكريّة والأيديولوجيّة.

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر: ابن جني، (1957م)، الخصائص، تح. محمّد علي النجار (القاهرة: دار الكتب المصريّة)، 1: 323- 000؛ 2: 360- 000  

(2) حينما نقول (60000 بيت) لا يعني ذلك أنها على قافية واحدة كالقصيدة العربيّة، بل هي قائمة على نظام المثنوي الفارسي، أي النظم المزدوج الذي يتّحد شطرا البيت الواحد منه في القافية، ثم يستقلّ كلّ بيت بقافية.  كقوله ما ترجمته:

يخرّ على الدهر كل بنـــــــــاءْ ** بقطر السحاب وحرّ ذُكاءْ

بنيت من الشِّعر صرحًا أغرْ ** يمل الرياح ويعيي المطرْ

وهذه طريقة سهلة النظم، لا تدل على طول نفس، يمكن للناظم أن ينظم عليها إلى ما شاء الله، أو حتى إلى أن يتوفّاه الله! (ترجمها نثرًا: الفتح بن علي البنداري، وقارَنها بالفارسيّة، وأكملها وصحّحها وعلّق عليها: عبدالوهاب عزّام، (الكويت: دار سعاد الصباح، 1993)). أمّا عَروض الشِّعر الفارسي، ففقير جدًّا، قياسًا إلى الشِّعر العربي، وإنما يدور في فَلَك: المتقارب، والهَزَج، والرَّجَز، والرَّمَل، والخفيف. وتُعدّ- باستثناء الخفيف- من أسهل البحور، أو «حمير الناظمين»! (انظر في هذا: هلال، محمَّد غنيمي، (1977)، الأدب المقارن، (القاهر: نهضة مصر)، 259- 261).

(3) انظر: حوارًا أُجري مع (واسيني الأعرج) في مجلَّة «اليمامة» السعوديَّة، ع 2238، السبت 16 صفر 1434هـ= 29 ديسمبر 2012م، ص ص 24- 25

----------------------

[الكاتب: أ.د/ عبد الله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «الإنسان واللغة!»، المصدر: صحيفة «الرأي» الكويتية، العدد 12294، الأربعاء 27 فبراير 2013، ص20]، على الروابط:

 

http://www.alraimedia.com/Article.aspx?id=417107&;date=27022013

Shop Sneakers in Footwear

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: