ثم إن كل باحث أو دارس أو ممارس، مهما يكن موضوعه ومهما يكن مجال اشتغاله، لا يكون ناجحا في ما قام لأجله، إلا إذا كان يجيد استخدام اللغة التي يتوسل بها في ذلك. أوَ ليس بهذا تثبت أهمية اللغة في حياة الناس العلمية والعملية؟
إلا أن واقع الحياة الاجتماعية، وإن كان يثبت للغة كل هذه الأهمية، فإنه يثبت بالمقابل أن اللغة لغاتٌ تختلف باختلاف الألسن وتتمايز باعتبار المستعملين. فهل تبقى كلها على نفس الدرجة من الأهمية؟ وبتعبير آخر، إلى أي حدٍ استطاعت كل اللغات الاستجابة لتحقيق التواصل وإنجاحه سواء تعلق الأمر بما هو يومي أو تعلق بما هو عملي؟
لقد اختلفت الإجابات بين النفي والإثبات. وكي يكون موضوع عرضنا متعلقا بموضوع هذه الندوة، سنخوض - مع الذين نفوا عن بعض اللغات هذه الأهمية- حديثا حول التواصل الإنساني بين التام والممكن والمحال. وسنجادل الذين نفوا عن العربية هذه الأهمية بأسئلة مثل: هل يتعلق باعث النفي هذا بمشكل في المدلول أم بمشكل في الدال؟ هل يتعلق الأمر بقصور في السنن أم بقصور في الاستعمال؟ وهل القصور هذا آتٍ العربيةَ من بين يديها أم من خلفها؟
التواصل الإنساني بين التام والممكن والمحال.
معلوم أن التواصل لا يقوم إلا باستيعاب الذات طرفاً فاعلاً مع الآخر، في سياقٍ للتفاعل، لأجل غايات تُقصد باستعمال وسائل خاصة بذلك. ولما كان التواصل لا يقوم إلا بهذا الاعتبار فإنه، وإن قام، لا يكون ناجحا إلا باعتبار ما توظفه الأطراف المشاركة فيه من كفاءات تساعدها على إنجاح ما قامت لأجله. هكذا تتحدد للتواصل شروطٌ للتحقيق وأخرى للنجاح، وكلما تم استيفاؤها كان التواصل قائماً وناجحاً، وإلا صار إلى الممكن أو المحال. والممكن هو ما تحققت شروط إقامته، ولم يتم التأكد من استيفاء شروط إنجاحه. كأن لا تراعى كفاءات ومعارف المشارك. وأما المحال، فهو ما لم تتحقق شروط إقامته أصلاً. كأن لا يكون هناك سنن معهود، أو لا يُعول على مشارك مقصود. وهكذا يترتب عن التمييز بين شرط التحقيق وشروط النجاح، التمييز بين معيقات التحقيق ومعيقات النجاح. وانسجاماً وموضوعَ هذه المداخلة المتعلقِ كما سنلاحظ بمعيقات النجاح، سنعرض بعض القول في شروط النجاح قبل النظر في الإخلال بها في النموذج الذي أمكنت لنا متابعته.
وإذا ثبت أن شروط التوصل عموما تتمثل في ما يُوظف من كفاءات تواصلية، وما يُعتمد من مشتركات معرفية، فعلى ما تقوم هذه الكفاءات؟ وكيف نتمثل المشاركة في المعارف؟
إن الكفاءة التواصلية كفاءة مركبة، وتقوم بهذا الاعتبار على مجموعة من الكفاءات: لسانية معيارية، وتداولية معرفية، واستدلالية عملية.
أما اللسانية، فتتمثل في القدرة على استخدام اللغة استخداما جيدا. وهذا يتطلب معرفة نظام اللغة المعنية، صوتا وصرفا وتركيبا ومعجما، عن وعي أو عن غير وعي، سواء كان المشارك مرسلا أم كان مرسلا إليه. وستكون هذه معرفة تأسيسية بالنسبة للمرسل، وتكون معيارية بالنسبة للمرسل إليه.
وأما الكفاءة التداولية فهي مطلوبة أيضاً لدى الشريكين معاً، يعتمد فيها على ما يتزود به المشارك من معارف خارج لسانية. إن الكفاءة في هذا المستوى تقوم على امتلاك نوعين من المعارف: سياقية حالية، وأخرى موسوعية.
أما السياقية الحالية، فهي معارف مشتركة موازية، تكتسب لتو الشروع في الحدث التواصلي، وتأخذ من انطباعاتنا حول محيطنا التفاعلي، ومن تأثير هذا المحيط فينا بأشيائه ومواقعها ، وبشخوصه وسلوكاتها، وبأزمنة وقائعه وأمكنتها.
وأما المعارف الموسوعية، فهي مشتركة سابقة لأنها تتعلق بماض التجربة الإنسانية العامة، يكون كلٌ من الشريكين قد اكتسبها عبر تجربته، أو استفادها من مكتسبات التجربة الجماعية.
هذه حدود الكفاءة التداولية حيث قامت على ما هو سياقي حالي وعلى ما هو موسوعي. إلا أنها وإن تضافرت مع الكفاءة اللسانية، فإن تضافرهما هذا لا يكون كافيا لإنجاح التواصل إلا إذا اشتغلت الكفاءة الاستدلالية للربط بين ما يأتي عليه الحدث التواصلي وما أتت عليه التجربة المشتركة السابقة والموازية، أي ما توفر بموجب الكفاءة اللسانية والأخرى التداولية.
تلك هي الكفاءات التي تتضافر لتشكيل الكفاءة التواصلية، وقد لاحظنا أنها تقوم على مجموعة من المعارف التي يجب أن تكون مشتركة كي يتم التواصل بنجاح. إذ على قدر ما يُشترك فيه من معارف على قدر ما يكون التواصل ناجحا، وعلى قدر العكس في ذلك يكون العكس. وكما يصدق هذا على التواصل في عموميته، فإنه يصدق على كل أنواعه، سواء كانت يومية أم كانت رسمية مهنية، وسواء كانت لغوية أم كانت غير لغوية. وفي ما يلي سنحاول متابعة بعض ما يُعرض من ذلك للتواصل في نموذج خاص، حيث الحقل المعرفي هو الحقل الاقتصادي، وحيث الوسط التفاعلي هو الوسط الإعلامي، وحيث النسق التواصلي هو النسق العربي.
معضلة الإعلام الاقتصادي الناطق بالعربيـة!؟
مالمقصود بالإعلام الاقتصادي أولاً؟ وما علاقته بالتواصل؟
إن التواصل مفهوم عام، وتنسحب عمومتيه هذه على كل علاقات التفاعل الإنساني القائمة على تبادل المعارف قصد التشارك فيها، أو على تدارس القضايا قصد التفاهم حولها. لينسحب التواصل بذلك على كل ما قام لغرض أو قصد إنجازي (بالمعنى التداولي للإنجاز)، سواء كان ذلك للإخبار أم كان للطلب أو لغيره.
وإذا ادعينا أن علاقة الإعلام بالتواصل هي علاقة الخاص بالعام، فما هو مسوغ إدراج الأول في الثاني؟
إن المسوغ يتمثل في اعتبارات منها:
◦ إذا نظرنا في الصيغ، فالإعلام من أعلم وأصله علم، وهذا الأخير متعد لمفعول موضوع، والذي قبله متعد لمفعول مشارك سلباً، إن الإعلام إذن يقوم على المشاركة وإن كانت بالسلب، هذا أثبتته اللغة وتثبته التجربة أيضا، فقاسم الإعلام التواصلَ في خاصية المشاركة وإن كانت في الأخير بالإيجاب.
◦ إن الإعلام وإن قام على الفعل والتأثير، فإنه يراهن على التأثر ورد الفعل، وإلا ما جدوى الفعل أو التأثير. ولعل هذا ينم عن تفاعل غير مباشر، فقاسم الإعلام التواصلَ في خاصية التفاعل وإن كانت في الأول بشكل غير مباشر.
◦ إن الإعلام قد يرادف الإخبار، والإخبار مما يقوم لأجله التواصل.
◦ إن الإعلام من حيث التحقيق يقوم على نفس ما يقوم عليه التواصل، ويتميز الأول داخل الثاني من حيث كونه يعتمد قنوات خاصة هي وسائل الإعلام.
وهكذا إذا أردنا التجريد، فإن الإعلام يمثل نوعا من أنواع التواصل الممكنة، اختص بالإخبار في أغلب مقاصده، وتميز بطبيعة قنواته. ثم إن الإعلام لما يخصص بالتبعية أو النسبة إلى ما هو اقتصادي، فإن التعريف سيقصره على علاقات قائمة على نقل مضامين اقتصادية. وهذا لا ينفي عنه أياً من خصائصه الكلية.
هذا الإعلام الاقتصادي، فمن أين تأتيه المعضلة إذن؟
* ادعـاء:
في حوار نشرته جريدة "الصباح" المغربية (في عددها 1456/10-12-2004، أجرته "سهام فوزي" موفدة الجريدة إلى قطر مع "نديم الملاح" صحافي بالقسم الاقتصادي بقناة "الجزيرة") ورد ما يلي:
»س- هناك معضلة يعانيها الإعلام الاقتصادي الناطق بالعربية، وهي كونه جامداً باللغة العربية وحي باللغة الأجنبية (الفرنسية على سبيل المثال) كما هو الشأن عندنا في الدول المغاربية. فهل المشكل نفسه مطروح عندكم؟
ج- نعم، وهنا تكمن المهارة الصحافية، وهي أن تستهدف أكثر من فئة في نشراتك، أي أن تضم نشرة المتخصصين، ولو أني أشاطرك الرأي في أن المتخصصين لا ينتظرون "الجزيرة" كي تقول لهم ماذا يجري ... هناك فئة ثانية وهي فئة المتوسطين أو المثقفين الذين يربطون بين الأحداث السياسية و الاقتصادية ... وهناك الفئة الثالثة وهي الجمهور البسيط الذي نتعامل معه انطلاقا من مشكلاته اليومية«.
إن قضية كفاية اللغات، وإن كانت لا تُطرح بحدة لما يتعلق الأمر بحياة الناس اليومية، فإنها تصبح قضية ملحة إذا تعلق الأمر بالحياة العلمية أو العملية، إذ يتم التساؤل حول جدوى التواصل بلغة من اللغات في حقل من الحقول المعرفية أو في وسط من الأوساط العملية. وفي هذا السياق سيق الادعاء أعلاه.
لقد ثبت في (س) أن المعضلة في الإعلام الاقتصادي تأتيه من كونه ناطقا باللغة العربية، وكأن السنن العربي يمثل عائقا أمام تحقيق إعلام اقتصادي ناجح.
والحال أن اللغة العربية كباقي اللغات تمثل في جانبها الاجتماعي نسقا وضعيا أو نظاما ناتجا عن اتفاق جماعي يقنن الاستعمال الفردي ويوجهه، إلا أنه إذا استقرت للغات نسقيتها وتنظيمها، فإنها رغم ذلك لا تمثل تنظيمات قارة وثابتة، ففي الوقت الذي تحتفظ فيه كل اللغات ببناءاتها النسقية، فإنها تظل اعتباطية التنظيم. وهذه رخصتها جميعا للتكيف المستمر مع المستجدات التي قد يعرفها المحيط الاجتماعي الذي تستعمل فيه. هذا من حيث التقعيد، ولا نجد في هذا المستوى ما يمثل عائقا أمام تحقيق إعلام اقتصادي ناجح، وإن وُجد شيء من ذلك انسحب على جميع اللغات.
وأما من حيث التوظيف، فإنه ما من أحد نسب القصورَ أو العجز للغة من اللغات إلا وكان يجهلها أو لا يتقنها، لأن من أتقن لغةً ما أسعفته عباراتها.
وأما من حيث التمثيل، فمعلوم أن كل لغة تمثل قائمة من العلامات حيث التمثيلات بإزاء التمثلات. وأكيد أن ما لا تستطيع تمثله لا تستطيع التمثيل له. فإذا ظهر القصور في هذا المستوى، فإن المشكل ليس مشكل لغة وإنما هو مشكل فكر.
وهكذا إذا حدث أن كُتب الفشل للإعلام الاقتصادي الناطق بالعربية، فإن ذلك ليس لكونه ناطقا بالعربية. وإنما يعزى ذلك إما لضعف في التمثل الفكري، أو لضعف في الكفاءات التمثيلية. وأي إعلام صادف هذا الضعف كان فاشلاً سواء نطق بالعربية أم نطق بغيرها.
هذا ما يُرد به على الادعاء المثبت في (س). وأما الثابت في (ج) فهو غير ذلك. فلولا عبارة الإيجاب "نعم" لكان الجواب نفسه تفنيدا لما جاء في (س). إن "نديم الملاح" قد لامس المعضلة في جوهرها، إن المعضلة عنده في الإعلام الاقتصادي لا تأتيه من كونه ناطقا باللغة العربية، بل من كونه يحاول استهداف فئات مختلفة من حيث المستويات المعرفية. ولعل المعضلة بهذا الاعتبار ستواجه الإعلام سواء كان اقتصاديا أم كان غيره، وسواء كان بالعربية أم كان بغيرها. إن المشكل هنا مشكل معرفي.
ثم لقد ثبت أن من شروط تحقيق التواصل عموما وجود السنن، وثبت أن من شروط إنجاحه توحيد السنن، والملاحظ أن إعلاما يستهدف فئات مختلفة، وإن توفر له شرط التحقيق، فإنه لن يستوفي شرط النجاح، لأنه يُعول على السنن العام- العربية مثلا- ومعلوم أن السنن يشمل أسننا فرعية. فالسنن العربي مثلا يأتي على عدد من المعاجم الاصطلاحية، فما من حقل معرفي إلا وله جهازه المفاهيمي الخاص. فكيف يتم استهداف المتخصص وغير المتخصص في نشرة واحدة! إن هذا يؤدي إلى أن لا تحصل الإفادة لأي منهما، وإن حصلت لأحدهما ضاعت على الآخر. إن الأمر هنا يتعلق بمعيق من معيقات التواصل، يمثله الاختلاف في السنن الفرعي.
هذا وقد ثبت أيضا أن من شروط إنجاح التواصل وجود معارف مشتركة. ويمكن أن نميز في مستويات هذه المشاركة بين:
- معارف مشتركة فعلا.
- معارف مفترض أنها مشتركة.
والملاحظ أن إعلاما يستهدف فئات مختلفة، لا يسعه إلا أن يعول على معارف مفترض أنها مشتركة، فإن صادف أن كانت مشتركة فعلا كان الإعلام ناجحا، وإلا كان فاشلا. وإذا مثل هذا عائقا أمام تحقيق الإعلام، فإنه يتعلق باختلاف في المعارف أو بتفاوت في امتلاكها.
هذا ما استطعنا عرضه الآن. وبه نخلص إلى أن ما يصدق في الحقل الاقتصادي يصدق في باقي الحقول المعرفية، و نخلص إلى أن المشكل في الإعلام الاقتصادي مشكل تمثُّل، وأن القصور قصور استعمال، وأن قصور السنن العربي مجرد زعم، وأن العربية ليست قاصرة بحالٍ وإنما أريد لها أن تكون كذلك، وأريد لمستعمليها التخلي عنها.
----------------------
- مداخلة في نـدوة دولية في موضوع "اللغـة والتواصـل والحيـاة المهنيـة"، نظمتها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس، المغرب، بتاريخ 18 و19 و20 أبريل 2005.
- د. عبد السلام إسماعيلي علوي: أستاذ اللسانيات والتواصل بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمكناس، المغرب.