مقدمــة :
يكثر الحديث عن الازدواج اللغوي, ويدخل كثير من المتحدّثين عنه وجود العامية والفصحى في العربية في هذا الباب, وكأن العربية قد تفرّدت به, ويكثر الحديث عن سلبيّات العامّيّة, وكأنّها تناصب الفصحى العداء, وكأنه لا تصحّ كلّ لغة في مجالها, فالعامية ضرب من اللغة المنطوقة, واللغة المنطوقة هي لغة المقام, ولغة التواصل, والفصحى لغة الكتابة ولغة التداول, والأكثر في حياة الناس هي اللغة المنطوقة.
ويعاني دارسو اللغة العربية من العرب وغير العرب, مشكلة وجود مستويين: منطوق ومكتوب. يتعلّمون في الدرس قواعد وضوابط لا تطبّق في حياتهم, حتّى إذا ما خرجوا للشارع لم يجدوا معهم ما يسعفهم ممّا درسوا إلا أشياء قد تكون موضع تندُّر ممّن يحاورهم أو يحادثونهم, حتّى إنّهم ليقولون لهم: أنتم تكلّموننا بلغة الكتاب. فكيف نتعاطى مع هذا؟ وما الذي يسوغ وما الذي لا يسوغ؟ قد تأتي الورقة بطرحٍ يكون فيه ما يفيد درس العربية في العصر الحديث.
هذا ما تحاول هذه المقالة تلمُّس إجابة له, وإلمامة بما يحيطه, ويكتنفه.
*********
أفاض علماء العربية من نحاة ولغويين في الحديث عن اختلاف لغات العرب, وهذا أمر طبيعيّ في كل لغة؛ إذ من المحال أن تتوافق لهجات لغاتٍ ما , أو يتفق أهل لسان ما على أداء واحد لا يغيّرونه, ولا يختلفون فيه؛ والعربية ليست بدْعًا بين اللغات؛ إذ اختلف أهلها, وتنوّع أداؤهم, في مستويات اللغة الأربعة: الصوتي, والصرفيّ, والتركيبي, والدلاليّ بشقّيه المعنويّ, واللفظيّ, واختلاف أداء الأصوات بين العرب قديم قدم العربية, نصّ عليه سيبويه في كتابه بقوله "فأصل حروف العربية تسعة وعشرون حرفا: الهمزة، والألف، والهاء، والعين، والحاء، والغين، والخاء، والكاف، والقاف، والضاد، والجيم، والشين، والياء، واللام، والراء، والنون، والطاء والدال، والتاء، والصاد، والزاي، والسين، والطاء، والذال، والثاء، والفاء، والباء، والميم، والواو.([1])
وتكون خمسةً وثلاثين حرفا بحروفٍ هن فروعٌ، وأصلها من التسعة والعشرين، وهي كثيرةٌ يؤخذ بها وتستحسن في قراءة القرآن والأشعار، وهي: النون الخفيفة، والهمزة التي بين بين، والألف التي تمال إمالةً شديدة، والشين التي كالجيم، والصاد التي تكون كالزاي، وألف التفخيم، يعنى بلغة أهل الحجاز، في قولهم: الصلاة والزكاة والحياة.
وتكون اثنين وأربعين حرفاً بحروف غير مستحسنةٍ ولا كثيرةٍ في لغة من ترتضي عربيته، ولا تستحسن في قراءة القرآن ولا في الشعر؛ وهي: الكاف التي بين الجيم والكاف، والجيم التي كالكاف، والجيم التي كالشين، والضاد الضعيفة، والصاد التي كالسين، والطاء التي كالتاء، والظاء التي كالثاء، والباء التي كالفاء.
وهذه الحروف التي تمَّمتها اثنين وأربعين جيدها ورديئها أصلها التسعة والعشرون، لا تتبين إلا بالمشافهة"([2])كما تحدّث عمّا بين العرب من اختلافات صوتيّة من إدغام وإمالة, وترقيق وتفخيم, وإشمام وروم, وما شابه هذا, من صور الأداء لا يطعن في اللغة, ولا يخرج بعضها من كونها عربيّة , ولغات العرب – كما يقول ابن جني – كلّها حجّة. وقد عقد ابن فارس في كتابه ‘‘الصاحبي’’ بعنوان ‘‘باب القول في اختلاف لغات العرب’’([3]) نأخذ منه ونزيد عليه, فتناول فيها المستويات الأربعة, فذكر في المستوى الصوتيّ : اختلافهم في نطق حركة حركة حرف المضارعة؛ إذ عامّة العرب تفتح حرف المضارعة في الأفعال الثلاثيّة والخماسيّة والسداسيّة, وقليل منهم من يكسره, مثل "نَستعين ونِستعين", ومثل إسكان العين وفتحها في نحو "معَـْكم, ومعه", ومثل الإبدال في "أولائك" إذ يقول بعضهم: "وأولالك" , ويقولون في "أنّ": "عنَّ", وهي لغة في تميم, كما يقول بعضهم في "أمّا زيد": "أيما زيد", ولم يقف الأمر عند مجرّد كلمات؛ إذ جازه إلى ظواهر صوتية, مثل: الاختلاف في تحقيق الهمزة وتسهيلها أونطقها بين بين, مثل: "مستهزئون ومستهزون". ومثل القلب المكاني، يقولون: "صاعقة، وصاقعة", ومثل الإثبات والحذف في نحو "استحييْت واستحيت". ومنها الاختلاف في الإمالة والتفخيم, في مثل "قضى ورمى"؛ فبعضهم يفخِّم وبعضهم يميل, وكذا الاختلاف في الإدغام"من يرتدَّ , ومن يرتدِدْ", ونحو "مهتدون" و"مهدُّون" , ومثل الاختلاف في إشباع الحركة, من نحو "أنظُر وأنظور". وهذا الخلاف وإن عدّ بعض أهل اللغة شيئًا منه من مذموم اللغات، كما قال ابن فارس في " باب اللغات المذمومة":
أما العَنْعَنة الَّتِي تُذكِر عن تَميم فقلبهم الهمزة فِي بعض كلامهم عيناً. يقولون: "سمعتُ عَنَّ فلاناً قال كذا" يريدون "أَنَّ".
ورُوي فِي حديث قَيْلَة: "تَحسب عَنِّي نائمةٌ" قال أبو عُبيد: أرادت تَحْسب أني، وهذه لُغة تميم. قال ذو الرمّة:
أَعَنْ ترسَّمت من خرقاء منزلة ماءُ الصَّبابة من عَيْنيك مَسْجُومُ
أراد "أن", فجعل مكان الهمزة عيناً.
وأما الكَشْكَشة الَّتِي فِي أسَد فقال قوم: إنهم يبدلون الكاف شيناً فيقولون: "عَلَيْشَ" بمعني "عَلَيْكَ". ويُنشدون:
فَعَيْناشِ عيناها وجيدش جيدُها ولَوْنُشِ إِلاَّ أنها غيرُ عاطلِ
وقال آخرون: يَصِلون بالكاف شيناً، فيقولون: "عَلَيكِش".
وكذلك الكسكَسة الَّتِي فِي رَبيعة إنما هي أن يَصِلوا بالكاف سيناً، فيقولون: "عَلَيْكِسْ".
وحدثني عليُّ بن أحمد الصبَّاحيُّ، قال سمعت ابن دُرَيْد يقول: حروفٌ لا تتكلم بها العرب إِلاَّ ضرورة، فإذا اضطُرُّوا إِلَيْهَا حوَّلوها عند التكلم بها إِلَى أقرب الحروف من مخارجها.
فمن تِلْكَ الحروفِ الحرفُ الَّذِي بَيْنَ الباء والفاء. مثل "بور" إِذَا اضطُروا. فقالوا: "فور".[4]
ومثلُ الحرف الَّذِي بَيْنَ القاف والكاف والجيم -وهي لغة سائرة فِي اليمن- مثل: "جَمَل" إِذَا اضطرُّوا قالوا: "كَمَل".
قال: والحرفُ الَّذِي بَيْنَ الشين والجيم والياء: فِي المذكر "غُلامِجْ" وَفِي المؤنث "غُلامِش".
فأما بنو تميم فإنهم يُلحقون القاف باللَّهاة حَتَّى تَغْلظ جداً فيقولون: "القوم" فيكون بَيْنَ الكاف والقاف، وهذه لغة فيهم. قال الشاعر:
ولا أكُولُ لِكدرِ الكَوم قَدْ نضجت ولا أكولُ لبابِ الدَّار مَكْفولُ
وكذلك الياء تجعل جيماً فِي النَّسب. يقولون: "غُلامِجْ" أي "غلامي".
وكذلك الياء المشدَّدة تحوَّل جيماً فِي النَّسب. يقولون: "بَصرِجّ" و"كُوفِجّ" قال الرَّاجِز:
خالي عويفٌ وأبو عَلِجّ المُطْعِمَانِ اللحمَ بالعَشِجِّ
و بالغَداةَ فِلــــَقَ الْبرْنِجِّ
وكذلك مَا أشبهه من الحروف المرغوب عنها. كالكاف الَّتِي تُحوَّل شيناً.
قلنا: أما الَّذِي ذكره ابن دُرَيد فِي "بور" و"فور" فصحيح. وذلك أن بور لَيْسَ من كلام العرب، فلذلك يحتاج العربيّ عند تعريبه إياه أن يُصيّره فاءً. وأما سائر مَا ذكره فليس من باب الضرورة فِي شيء. وأيُّ ضرورة بالقائل إِلَى أن يقلب الكاف شيناً، وهي ليست فِي سجع ولا فاصلة? ولكن هَذِهِ لغات للقوم عَلَى مَا ذكرناه فِي باب اختلاف اللغات.
وأما من زعم أن ولدَ إسماعيل عَلَيْهِ السلام يُعيّرون وَلدَ قَحْطان أنهم ليسوا عرباً، ويحتجُّون عليهم بأنَّ لسانَهم الحِمْيريَّة وأنهم يُسَمُّون اللِّحية بغير اسمها –مع قول الله جلّ ثناؤه فِي قصة من قال: لا تأخذ بلِحْيتي ولا بِرَأْسي- وأنهم يُسمُّون الذّيب "القِلَّوْبَ" مع قوله: {وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ} ويسمون الأصابع "الشنَّاتر" وَقَدْ قال الله جلّ ثناؤه: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} وأنهم يسمّون الصَّديق "الخِلْمَ" والله جل ثناؤه يقول: {أَوْ صَدِيقِكُمْ} وَمَا أشبه هَذَا. فليس اختلافُ اللُّغات قادِحًا فِي الأنساب.
ونحن -وإن كنا نعلم أن القرآن نزل بأفصح اللغات- فلسنا نُنكر أن يكون لكلّ قوم لغة. مع أن قحطان تذكر أنهم العرَب العارِبة، وأن مَن سواهم العرَب المَتَعَرِّبة، وأن إسماعيل عَلَيْهِ السلام بلسانهم نَطق، ومن لغتِهم أخَذَ، وإنَّما كَانَتْ لغةُ أبيه r العِبرية وَلَيْسَ ذا موضعَ مفاخَرة فنَستَقصي"([5]) وتتفاوت هذه الأداءات , وهذه اللغات جودة ورداءة.
ومن الاختلاف في بنية الكلمة (الصرف) الاختلاف في صورة الجمع, نحو "أسرى وأسارى", والتفريع في نحو "عُفِيَ له وعُفْيَ له" . وكذا التفريع في أوزان الثلاثيّ عند تميم, ومجيء الفعل على وزني "فعل وأفعل", مثل "صدَدْتُ و أصددْتُ".
ومن الاختلاف في التركيب (النحو) الاختلاف في تحقيق حركة الإعراب واختلاسها, نحو: "يأمرُكم ويأمرْكم". والاختلاف في الوقف على هاء التأنيث, مثل "هذه أُمّهْ وهذه أمَّتْ". ومنه في التركيب طريقة التخلّص من التقاء الساكنين, إمّا بكسر الأوّل, أو ضمّه في نحو "اشتروُِا الضلالة". والاختلاف في التذكير والتأنيث, في نحو "هذه البقر, وهذا البقر", و"هذه النخيل وهذا النخيل". والاختلاف في الإعراب في نحو"ما زيدٌ قائمًا, وما زيد قائمٌ" بين قريش وتميم. ومثله "إن هذان, وإنّ هذين".
قال ابن فارس: "وكل هذه اللغات مسمّاة منسوبة إلى أصحابها, لكن هذا موضع اختصار, وهي وإن كانت لقومٍ دون قومٍ، فإنّها لمّا انتشرت تعاورها كلُّ".([6] )
ومن اختلاف الألفاظ ما يرجِع إلى معنى اللفظ بأن يكون له معنًى لدى طائفة من العرب يخالف المعنى عند آخرين، مثل ما ذكره ابن فارس في تفسير تصرُّفات "وثب" وكثير ممّا يسمّى المشترك اللفظيَّ, أو ينعت بالتضادِّ, هو من هذا الباب؛ إذ يكون للفظ معنًى عند قبيل, وله معنًى آخر عند قبيلة أخرى. كما أنّ من اختلاف الألفاظ رجع إلى اللفظ ذاته بأن يما يعبَّر عن المعنى بغير لفظٍ, فتعبِّر قبيلة بلفظٍ, وتعبِّر قبيلة أخرى بلفظٍ آخر, وهذا هو ما يسمّى بالمترادف.([7] )
فهل كان هذا الاختلاف في أداء اللغة, وفي بعض مكوِّناتها من صوتيّة, وصرفيّة, وتركيبية, ودلاليّة, مدعاة للإخلال بالانتماء؟ وهل كان هذا داعيًا للإخلال بهوِّيّة هؤلاء؟ وهل كان من لا يحسن ما يسمّى الفصحى, وهو يحسن الكلام بما تعوّده في حياته اليوميّة منقوص الانتماء, مختلَّ الهوِّيّة مضطربها؟ وهل هذا الاختلاف أمر طبيعيّ؟ أم أنّه أمر اختصت به العربية من بين اللغات وهل كان الذين وصفهم الهمدانيّ بأنّهم غُتْم, وأنّهم لا يكادون يبينون , أو أنّهم كانوا يرتضخون لكنة فارسيّة؟ أو أنّهم متأثِّرون بلغة الأحباش, أو الهنود؟ هل كان هؤلاء مسلوبي الانتماء إلى العربيّة, لا يصحّ نعت هوّيّتهم بالعربية؟ وهل كانت الوفود التي تفد إلى رسول الله r ويحادثونه بلغة لا يفهمها أصحابه ناقصي الهوّية, مسلوبي الانتماء، ليسوا بعرب؟ وهل كان من لا يحتجّ أهل العربية وعلماؤها بما روِي عنهم, وصحّ من كلامهم مسلوبي الانتماء, ناقصي الهوّيّة؟ وهل كان المخالطون للأعاجم في ديارهم كالمناذرة, واللخميين في العراق, والغساسنة في بلاد الشام, وبكر وتغلب في الجزيرة الفراتيّة, هل كان ثمّت شكُّ أو اختلاف في انتماء هؤلاء وهوّيّتهم؟أم أنّ دائرة العربية أوسع من ذلك, وأجلّ من أن تضيق بهؤلاء وغيرهم؟!
وهل المقصود بقول رسول الله r : ((إنّما العربيّة اللسان)). عربيّة ذات مستوًى عالٍ يقبله رواة العربيّة وأدباؤها؟ أم أنّ هذا يشمل مستوياتٍ متفاوتة, يتحقّق فيها الحدُّ الأدنى من العربيّة؟
اختلاف الألسن ليست عمليّة بلبلة وتشتيت للبشريّة, بل هي آية من آيات الله, قال ) Uوَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ( الروم ﴿٢٢﴾ والاختلاف درجات, ومستويات , وأنواع, فهناك من الاختلاف ما يكون تغايُرًا تامًّا, ومنه ما يكون تغايُرًا منقوصًا, ومنه ما لا يعدو تفاوت المستويات, ومنه ما يكون في نظام اللغة, ومنه ما يكون في أدائها, ومنه ما يكون في تحقيق نسبة من الجودة والجمال.
وبناءً عليه, فكلّ من تكلّم بشيءٍ من هذا اللسان, وانتمى إليه, فهو عربيّ, وعلينا أن نتّسع في الانتماء للعربية, بأن ندخِل فيه كلّ من يغلب على منطقه العربيّة, ولو كانت محرّفة مغيّرة معدّلة, بل لو كانت تمثِّل الحدّ الأدنى من التواصل, كما هو الحال حين يتحدّث مبجِّلو الإنكليزيّة, ويذكرون من يتحدّثها, وتعدادهم, وكثير منهم لا يجاوز الحدَّ الأدنى من التواصل, مع شيءٍ من الإخلال في أنظمة اللغة المختلفة (الصوت, البنية, التركيب, الدلالة).
*********
والخلاف في اللغة لا يقف عند هذا الحدِّ؛ فاللغة من مشتركات الحياة؛ إذ الناس بل مستعملوها فيها على درجة سواء من ناحية الإتاحة، ولكلٍّ منهم أن يتعلّم منها حسب حاجته، وأن يكتسب منها حسب طاقته، ولأهل اللغة كما لطلابها تلمّس الحاجة والطاقة، وفي اللغة ثلاثة مستويات، كما أسلفنا، وليس مستوًى واحدًا كما هو جارٍ في درس العربية :
المستوى الأوّل : مستوًى أدبيّ يوظّف اللغة توظيفًا خاصًّا ، ويجنح إلى التسامي فوق اللغة العاديّة، في أنظمتها المختلفة من بنية وتركيب، ومن خروج في معانيها عن مقتضى الظاهر. ومن خروج دلالة ألفاظها من حقلٍ دلالي إلى حقل دلالي آخر، ويتمثّل هذا المستوى في الشعر والخطابة، والكتابات الأدبية، وكلّ ما يقصد إلى الجمع بين جودة المعنى ، وجودة العبارة، ويوظف إمكانات اللغة والخيال، وقدرات أخرى.وهذا المستوى له طلابه ، وهم من نوعٍ خاصٍّ، وليسوا كلّ الأنواع والفئات، وهذا النوع أعلى المستويات وأرفعها، ولغة هذا المستوى قابلة للمراجعة والتصحيح والتنقيح، لتخرج بصورة تلائم مستواها التداولي.
المستوى الثاني: وهو مستوًى تداوليٌّ، لا يحتاج إلا أساسيات اللغة في مفرداتها التي توظّف في معانيها الوضعية غالبًا، كما لا يحتاج إلى كثير ممّا يرد في كتب النحو من قواعد فرعية، وخلاف، ومعانٍ، كما أن من يكتب بهذا المستوى أو يتحدّث ليس بحاجة لأن يوظِّف إمكانات اللغة التي تخرج عن القياس والمطّرد، وما تدعو إليه ضرورة الإبداع. وطلاّب هذا النوع لا بدَّ من تحديد حاجاتهم ، ولا بدَّ من الرأفة بهم، وعدم تكليفهم ما لا يحتاجون، والاكتفاء بالحدِّ الأدنى من الكفايات اللغويّة، ذات الصبغة العملية، وبإمكانهم توظيفها في استعمالهم اللغويِّ.ومن هذه الفئة طلاّب الأقسام في العلوم الطبيعية والطبية، والعلوم الأخرى.
المستوى الثالث: المستوى التواصلي الذي يقال في مقام خاص، ويؤدّي غرضًا آنيًّا محدودًا بالزمان والمكان وأطراف الخطاب، ولا يجري عليه التدوين في الغالب؛ لعدم الحاجة إلى تدوينه، ثم هو لا يصلح للتداول فيما بعد، وهو معظم كلام البشر وأكثره ، ولو قيل 99% من الكلام وما يدور من لغة وحديث وحوار هو من هذا المستوى، بل كلّ ما يجري على الألسنة من حديث المجالس والفكاهة والطرفة، بل لغة المدرِّس في فصله من هذا المستوى، ولا يرقى إلى المستوى التداولي، وهو بحكم آنيّته يتطلّب شيئًا من اليسر، والسهولة، والاقتصاد، ولا يلتزم بقواعد النحو القياسية بقدر ما يلتزمه من نجاح في الأداء والفائدة، ثم هو مستوًى يتميّز بالأخذ في الترخصات، وأن الكلام فيه تغلب عليه العفوية، ثمّ هو يمثِّل كلام الناس العفويَّ ، وكلامهم الفطريّ على سجيّتِهم، دون تكلُّف؛ فالمتكلّم يهمّه أن يتواصل مع الآخرين، وأن يفهم ما يريد، باقتصاد وجهدٍ قليلٍ، وبأخصر طريق، وأيسر سبيلٍ. وأن بعضه يؤدَّى بالصوت وبعضه يؤدّى بوسيلة دلالية أخرى غير لغويّة، مثل الإشارة وحركات العين، وأخيرًا هو مستوًى يراعي المقام، ولا يتكلّف كالمستوى التداوليّ، وقد أسلفنا الحديث عنه.
********
نزل القرآن والعرب مختلفون في لغاتهم, متمايزون في أدائهم, متشابهون في معانيهم, وحين نتحدّث عن اختلاف لغات العرب, لا نتحدّث عن اختلاف بين العربية في الجنوب والعربية في الشمال, بل نتحدّث عن لغاتهم حين نزول الوحي (القرآن) واختلاف أداء القبائل العربية, وإن كانت من عرب الشمال, فقد كانت الأعراب تفد إلى المدينة, ويكلّمون رسول الله r وينكر أصحابه ما يسمعونه منهم أو بعضه, حتّى إنّ الصحابة لا يكادون يفهمون لحونهم، أو يعسر عليهم إدراك ما يقوله هؤلاء الأعراب، حين يخاطبون رسول الله r, وهو عليه الصلاة والسلام يدرك معنى ما يقولون ومغزى ما يومئون إليه, ومرامي ما يقصدون إليه, وقد يسّر الله قرآنه على البشر كما في قوله )ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر( فأنزله على سبعة أحرف كلها شافٍ كافٍ, بحسب اختلاف القبائل, وطرائق أدائهم للكلام؛ تيسيرًا عليهم, ومجاراة لهم, حتّى لانت ألسنتهم للغة متقاربة, وأداءٍ متشابه, فتقاربت ألسنتهم من بعض, فاتحدت العرب في القراءة, وانتفت الحاجة لهذه الرخصة, ولم يبق من تلك الأحرف إلا حرفًا واحدًا, تنضوي تحته القراءات بأنواعها: المتواترة, والمشهورة, والشاذّة, بحكم عوامل كثيرة, منها زيادة اختلاط العرب بعضهم ببعض, من خلال معسكرات الجهاد, وكتائب الغزو, وجيوش الفاتحين, ومن خلال اختلاطهم في المدن العربية والأمصار التي بنِبت في الأقاليم المفتوحة, واشتغال العرب بالقرآن, والعلوم الإسلاميّة, وتسامي العرب إلى محاكاة لغة القرآن, ونظام الدولة الذي يدعو إلى الوحدة.
********
حين نقول: اللغة المنطوقة ، واللغة المكتوبة، لا نقصد النظر في قدرة وفاء الصورة الكتابية بأصوات اللغة، أو عدم وفائها، وإنما نريد اللغة التي يستعملها الناس في واقع حياتهم اليومي، وفي حركتهم المعاشية المتكررة، وما اعتادوا التعبير به عن أغراض ومطالب وشئون الحياة؛ وهذا شامل للغة حين تنطق، وللغة حين تكتب، ما دامت بهذا الوضع، وعلى تلك الحال .
كما نريد باللغة المكتوبة تلك التي اكتسبت صفة الثبات ، وتتابعت الأجيال على التزام كتابها ، وهذه تشمل ما ينطق من اللغة إذا اتسم بالتأنق والصنعة كما يفعل الخطباء .
والأولى هي لغة الخطاب، واللغة المنطوقة، واللغة المتكلمة، أو لغة التخاطب الحيّ، وهي لغة ينفك مستعملها من كثير من سمات اللغة الفصحى، كالإعراب، ونظام الجملة، واستعمال أدوات الربط، ويستعيض عنها بغيرها، ولا يحرص على تجنب اللحن، ويرسلها، دون تحضير أو تزوير .
وكل ما لا ينطبق عليه هذا الوصف فليس بلغة خطاب ، كالشعر والخطابة ، والتأليف ، مما يتعمَّل له الشاعر والخطيب والمؤلف ، ويبذل فيه شيئًا من الصنعة ، انتقاء واختيارًا وإحكامًا .
واللغة المنطوقة لغة متحولة سريعة التغير ، لا تكاد تثبت على حال ، بخلاف اللغة المكتوبة التي تقف في طريق التغير الذي يلحق لغة الكلام « بما فيها من صواب قد ضبطته معيارية دقيقة ، تقف في وجه التغير السريع الذي هو طبيعة اللغة المنطوقة ، ولها فائدة في تحسين وسائل الاتصال وصبغ اللغة المنطوقة بصبغة أدبية مشتركة »([8]) .
إن اللغة المنطوقة المتكلمة تختلف عنها اللغة المكتوبة في قواعدها ، واستعمالاتها، وميادينها؛ إذ اللغة المكتوبة تمثل عددًا من اللهجات واللغات المتكلمة داخل هذه اللغة، على حين تجنح المنطوقة إلى الابتعاد عن المثل الأعلى الذي تحتذيه اللغة المكتوبة ( المشتركة ) وهي - أي : اللغة المكتوبة - تتأثر باللغة المتكلمة من أوجه متعددة .
واللغة المتكلمة تعنى برءوس الأفكار ، دون أدوات الربط التي تربط بينها اكتفاءً بدلالات صوتية أخرى ، أو ذهنية ، أو أعمال أخرى كالإشارة .
وتمتاز اللغة المكتوبة بإمكانية توسيع رقعتها بخلاف المنطوقة التي لا يمكن نقلها إلا في نطاقٍ محدودٍ ، على حين تمتاز المنطوقة بالسهولة ؛ إذ تستخدم أبسط وسائل التعبير اللغوي في الأصوات ، والبنية ، والتراكيب ، ودلالة المفردات ، وتتخلى عن كثير من القواعد المنضبطة في ذلك كله .
كما تمتاز المكتوبة بإمكانية التنقية والتصحيح ، بخلاف اللغة المنطوقة التي لا يستطاع فيها ذلك ؛ لصعوبة الإحاطة بها .
ولن ندخل في جدلية تعريف اللغة واللهجة ، والعلاقة بينهما ، وإنما يهمُّنا في حديثنا وجود نمطين من لغة واحدة ، يتعايشان في أرض الواقع ، أحدهما أصل ، والآخر طارئ .
جاء الإسلام، ولدى العرب لغة أدبية سامية، تقصر دونها لغاتٌ منتشرة بين قبائل الجزيرة هي أشبه باللهجات المحلية، أو الإقليمية، يدير بها كل فئام شئونهم اليومية، ويتفاهمون من خلالها في حياتهم البيئية، غير أنهم إذا أرادوا لقولهم اتساع الرقعة، ولكلامهم أن يفهمه من كان من غير بيئتهم فزعوا إلى نمط من القول، ذي صفاتٍ خاصة في الأصوات، والبنى، والتراكيب؛ ليؤدُّوا به ما يرغبون فيه من أفكارٍ، ومشاعر، وتجربة. وهذا النمط ينظر إليه العربي على أنه نمطٌ عالٍ من القول، يخرجه من حدود بيئته الضيقة إلى سعة البيئة العربية، كما يحل له مشكلة الاختلاف اللغوي بينه وبين غيره في البيئات العربية الأخرى .
وقد كان هذا الواقع أمرًا ملموسًا لكل عربي ، وكانت لغة الشمال بل اللغة المضرية هي اللغة العربية التي يسمو بها الأدب ، ويتطلع إليها الأديب ، وهي التي نزل القرآن بها ، كما قال ابن فارس ؛ وإن لم يمنع هذا من ورود لغاتٍ لليمن من خلال مفرداتٍ معروفة ، وردت في القرآن .
وكان هذا الاختيار تأكيدًا لزعامة وجدارة لغة الشمال ، وتميزها عن لغات أطراف الجزيرة الأخرى ، بعد أن تأكدت أهليتها من خلال اللغة الأدبية في الشعر والخطابة والحكمة .
ثم جاء أهل العربية وعلماؤها - ولهم دوافع إسلامية - فنظروا في لغات العرب، وقر قرارهم على دراسة لغة القرآن، ولغة الشعر، لغة الأدب والبيان، التي لا يقصر العربي عن فهمها، ولا يأبى انتحالها، فجعلوها مجالًا للدرس ، وميدانًا للنظر والجمع ، ونموذجًا عاليًا يجب احتذاؤه ، وخشوا على هذا النموذج الانحراف والتغيير ، فسارعوا إلى عمل يؤصله، واستنباط قواعد تضبطه، وارتفعوا بدرسهم عن لغة الحواضر ، وما شاكلها من النواحي التي شاب لغتها شوبٌ من اللغات الأخرى بالمخالطة والجوار، وعمدوا إلى وسط الجزيرة موطن القبائل المضرية، وما جاورها من القبائل التي أخذت بلسانها، وانتحلت لغتها ، فجمعوا أشعارهم وأقوالهم، واستقرءوا أنماط كلامهم، فاستنبطوا قواعده الكلية، وضوابطه الأساسية، فخرجوا بعد ذلك بهذا النظام الرائع لقواعد اللغة في أصواتها، وبنيتها، وقواعدها، ثم أردفوه بعملٍ معجمي، استأنس بعضهم بعمله بلغاتٍ أخرى كاللغات اليمانية التي أورد منها الكثير ابن دريد في معجمه « الجمهرة » مقتصرًا في ذلك على الكلمة المفردة ، دون النظر إلى تركيبها مع غيرها ( أو أحكامها التركيبية ) .
وهكذا صار لزامًا على من يدرس اللغة العربية ، أو ينشد تعلمها ، ويرغب في إتقانها أن يتعلمها على هذه الصورة ، متجاوزًا كل ما خالفها من لغاتٍ لبعض القبائل خاصة .
وقد كان من الصعوبة بمكان أن يجمع اللسان العربي على هيئة واحدة بقرارٍ مهما كانت قوته ، وكان لابد من إيجاد فسحةٍ ، والتيسير على العرب حملة الرسالة ، فكان أن نزل القرآن على سبعة أحرف، كلها شافٍ كافٍ، أقرأ بها رسول الله ﷺ أصحابه على ما يلائم طبائعهم ، وتُلِيقُ ألسنتهم ، واعتادته سلائقهم ، وقد كان من الصعوبة بمكان - أيضًا - أن يتخلى العربي عما جبل عليه لسانه من الكلام ، وهي صورة تتكرر معنا إلى الوقت الحاضر ؛ إذ من العسير على من نشأ في البادية أن يغير من طريقة كلامه ، أو أن يحاكي غيره ، بخلاف من نشئوا في المدن ، وأكلوا الكواميخ([9]) ، فإن ذلك لا يعجزهم .
ولو تتبعنا قراءات القرآن لوجدنا فيها : قرأ رؤبة ، وقرأ بنو تميم ، وقرأ أهل الحجاز ، وهو أمرٌ واجهه أصحاب الشأن بما يليق به ، فكان عبد الله بن مسعود ( رضي الله عنه ) يستحب أن يكون الذي يكتبون المصاحف من مضر، وقال عمر ( رضي الله عنه ) : لا يملينَّ في مصاحفنا إلا غلمان قريشٍ وثقيفَ . وقال عثمان ( رضي الله عنه ) : اجعلوا المملي من هذيل ، والكاتب من ثقيف ، وهي قبائل مضرية ، وهم الذين قال فيهم أبو عمرو بن العلاء : أفصح العرب عليا هوازن ، وسفلى تميم([10]) .
هذه مقدمات ، أحببت أن أدخل من خلالها إلى ما أردت الحديث عنه ، فأقول : إن اللغة - كما يقرر علم اللغة الحديث ، وكما هو واقعها - ظاهرة متغيرة ومؤقتة ، وخاضعة لقوانين التطور ، مع اختلاف في الاستجابة لهذه القوانين بين اللغة المنطوقة واللغة المكتوبة ؛ إذ اللغة المكتوبة ثابتة جامدةٌ بطيئة التغير على حين ينطبق قانون التغير السريع على لغة الخطاب، وهي أوسع انتشارًا ، وأقدر على البقاء من اللغة المنطوقة ذات المدى القصير، والنطاق المحدود، والزوال السريع، التي تكتفي « بأبسط وسائل التعبير صوتًا ، وبنيةً، وتركيبًا ، ومفرداتٍ »([11]) إذ هي لغة قد تتخلى في كثير من أحوالها عن قواعد اللغة أو بعضها ، أو لا تلتزم بها في جوانبها الأربعة المتقدمة .
وهناك حقيقة قائمة ، وهي أن اللغة المنطوقة ذات حركة دائبة لا يمكن متابعتها وتنقيتها ، وتصحيحها ، ووضع القواعد المعمرة لها .
وهذا أمرٌ أدركه علماء العربية قبل أكثر من ألف عام ، فلم يصرفوا جهدًا تأليفيًا نحو تصحيح لسان العامة ، ولغة الخطاب اليومية التي يتكلمها الناس في الحواضر الإسلامية .
وقد يقول قائل: إننا رأيناهم يؤلفون في لحن العامة والخاصة، فما مرادهم بذلك ؟
فالجواب : أنهم ما أرادوا بالعامة عامة الناس ممن يستعمل اللغة في حياته اليومية خطابًا وتكلمًا ، ولو نظرنا في كتب لحن العامة لانتهينا إلى أنه « ليس المقصود بالعامة في إطلاقهم الدهماء وخشارة الناس ، والسقاط ، أو رجل الشارع » في اصطلاحنا الحديث ، وإنما يقصد بهم المثقفون الذين تسربت إلى لغتهم الفصحى أخطاء من لغة التخاطب والحياة اليومية حين يكتبون أو يتحدثون في مجالات العلم والأدب ، أو يقفون مواقف جدٍ مثل الخطابة ، والمناظر العلمية - وهذا ظاهر لمن تأمل الكتب المؤلفة ، والمصنفات المصنفة في هذا الفن ، وهو عين ما يسمى بلحن الخواص ، فالعوام والخواص لا تغير في المراد .
فهو إن سمي لحن العامة فباعتبار أنه جاء من لغة العامة . وإن سمي لحن الخاصة فباعتبار أنه وقع في لغتهم التي يستعملونها .
ومن المعروف بداهةً أن لغة العامة لغة التخاطب والحياة اليومية قد أقصيت عن نظر أهل اللغة من أول ما نشأ التأليف في علوم العربية، وإن كان فشو اللحن فيها هو الداعي إلى التأليف، ووضع المصنفات، حتى إذا ما رأوا أن لغة العامة من العسير تقويمها ، اكتفوا بجمع اللغة، وما تكلم به العرب، ووضع القوانين والقواعد التي تمكن من أجادها من محاكاة كلام العربي ، وتقيه الخطأ في القول، واللحن في الإعراب .
أما أن يعمد مؤلف إلى حصر أخطاء العامة اللغوية نحوًا وصرفًا ، وصوتًا ، ودلالة ، فهذا ما لا يمكن أن يطيقه عمل ؛ لأنَّ لغة العامة كثيرة التحول ، سريعة التغير ، وأنّى بمن يقدر على رصد شيءٍ من هذا, فضلًا عن الإحاطة به .
إن اللحن قد بدأ يظهر في لسان العرب في آخر عهد الخلفاء الراشدين، وقد أفزع الغُير على اللسان العربي، فهبوا ليتداركوا الأمرَ قبل أن يفشو ويصير ظاهرة يصعب الخلوص منها ، وكان هذا سببًا من الأسباب التي من أجلها أشار علي ( رضي الله عنه ) أو غيره على أبي الأسود أن يضع ما يصون اللسان من الزلل .
وكان من أثر ذلك أن بدءوا بوضع قوانين تستخلص من كلام العرب ، تكون عونًا لمن أراد محاكاة كلامهم ، وتذكرة يعصم بها اللسان من الخطأ .
ومن المعلوم أن الحياة في الحواضر الإسلامية كانت خليطًا من أجناسٍ وأعراق ، والعرب فيها جنسٌ وعرقٌ ، ولهم السلطة والسطوة ، والنفوذ ، لكن هذا كله غير كاف لتحويل الألسنة إلى اللسان العربي ، بل كانت الدواوين في بدايتها ذاتَ لغةٍ غير العربية ، ومن الطبيعي أن يتسرب إلى ألسنة العرب شيءٌ من كلامهم ؛ لطول الألفة ، وكثرة المخالطة ، والرغبة في إنجاح أمور الحياة اليومية ، وهو أمر شعر به العلماء بالعربية مما جعلهم يرتفعون عن لغة الحواضر ، ويعرضون عن النظر فيها ، وإن كانوا يجارون أهلها في شئون اللغة في الحياة اليومية ، فكان مطمحهم البادية ، حيث الفصاحة والسليقة ، خرجوا فجمعوا ما جمعوا ، ثم عادوا إلى حلقة درسهم ، واستقرءوا واستنبطوا قوانين وقواعد لغة العرب .
القوانين اللغوية تمنع القضاء على لغة البلاد المفتوحة بسهولة إلا بعد مرور زمن طويل، وممارسة شيءٍ من العسف والجور على تلك البلاد، غير أن هذا غير مانع تعايش لغتين في بيئة واحدة، وغير مانع تأثير لغة الفاتحين على لغة البلاد الأصلية، وقد اختلف أثر اللغة العربية على البلاد المفتوحة تبعًا لعوامل مختلفة؛ إذ ماتت لغة البلاد الأصلية في المناطق المجاورة أو القريبة من الجزيرة ، وهي مناطق كثر فيها العرب ، واختلطوا بسكانها من مثل العراق ، والشام ، ومصر ، كما أن قوة لغة البلاد ، ومكانتها الحضارية كان لها أثر في احتفاظ بعض الأقاليم بلغاتها مع تأثر باللغة العربية قوي ، لكن هذا لا يصل إلى درجة تتساوى فيها تلك الأقاليم بمراتع البيان ، ومهد الفصاحة : الجزيرة العربية ، فعاشت فترة من الأزدواج اللغوي بين لغتين : العربية وأخرى . ثم انتهت إلى عربية مسها كثير من التغيير والتصحيف ، والخروج عن المألوف من قواعدها . وهذه اللغة أو اللهجة التي درج عليها الناس في مخاطبتهم ، ولغة حديثهم اليومية غير مقصودة بكلام المقدسي في أحسن التقاسيم ؛ إذ مراده من لغة الأقاليم اللغة التي يتكلم بها المثقفون ، لا لغة الشعب الدارجة ، وقد ذكر أن أصح العربية ما يتكلم بها في المشرق ، أي في الإقليم اللغوي الفارسي ؛ لأنهم يتكلفونها تكلفًا ، ويتعلمونها تلقفًا([12]) » والظاهر من وصفه عربية العراق بأنها حسنة فاسدة أنه يقصد حسن وقعها في الأذن ، وإن لم تطابق قواعد النحو ؛ إذ يعد لهجة بغداد أجمل اللهجات العربية ، وأحسنها لسانًا على الرغم من اعترافه في موضع آخر بأنه طالما خجل من اللحن اللغوي على لسان قاضي ببغداد ، دون أن يرى أحدٌ في ذلك عيبًا([13]) .
ويتضح هذا من قصيدة أبي الطيب المتنبي ( 303 - 354هـ ) التي يمدح فيها عضد الدولة وولديه أبا الفوارس وأبا دلف ، ويذكر طريقه في شعب بوَّان ، ومطلعها :
مغاني الشعب طيبًا في المعاني |
|
بمنزلة الربيع من الزمان |
ولكن الفتى العربي فيها |
|
غريب الوجه واليد واللسان |
ملاعب جنة لو سار فيها |
|
فبعدت اللغة الدارجة ، لغة الخطاب اليومي ، والحياة اليومية ، عن أصلها الفصيح ، ولم يعد لها مكان إلا في بيئات خاصة ، حتى « صار الوزير يتكلم اللغة الدارجة ، فضلًا عن غيره ممن يعملون في القصر »([15]) وهذا لا ينفي وجود بيئات تعنى بالفصحى، وبطريقة التعبير اللغوي الصحيح، غير أنها في طريقها إلى الضعف، وفقدان التأثير .
وكان علماء اللغة بل أئمتها لا يلتزمون العربية الفصحى المعربة في مخاطباتهم اليومية ؛ إذ كانوا يجارون العامة ، ولا يرون في ذلك بأسًا ، ولا يتكلفون معهم ما يعلمونه من قواعد اللغة، حتّى « قال ابن داود ( أبو بكر محمد ) ( ت 297هـ ) : وإن قبيحًا مفرط القباحة بمن يعيب مالك بن أنس بأنه لحن في مخاطبة العامة بأن قال : مطرنا البارحة مطرًا أي مطرًا ، أن يرضى لنفسه هو أن يتكلم بمثل هذا ؛ لأن الناس لم يزالوا يلحنون ويتلاحنون فيما يخاطب به بعضهم بعضًا ؛ اتقاءً للخروج عن عادة العامة ، فلا يعيب ذلك من ينصفهم من الخاصة ، وإنما العيب على من غلط من جهة اللغة ، فيما يغير به حكم الشريعة. والله المستعان »([16]) .
ويتلاحنون ، ماضيه تلاحن ، ومعناه التظاهر والإيهام ، وهو أن يريك أنه في حالٍ ليس فيها ، كقولك « تغافلت » و « تعاميت » و « تناعست » و « تجاهلت » أي : أظهرت ذلك ، وإن لم أكن في الحقيقة موصوفًا بذلك ، قال :
إذا تخازرت وما بي من خزر
أي : أظهرت ذلك ، وقوله « وما بي من خزر ، يدل على ما قلناه من
الإيهام »([17]) . وعليه قول الشاعر :
ليس الغبي بسيدٍ في قومه |
|
لكن سيد قومه المتغابي |
هذا في لغة الخطاب ، أما لغة الكتابة فلهم فيها وضع آخر يصوره ابن فارس بقوله : « قد كان الناس قديمًا يجتنبون اللحن فيما يكتبونه أو يقرءونه اجتنابهم بعض الذنوب ، فأما الآن فقد تجوزوا ، حتى إن المحدث يحدث فيلحن ، والفقيه يؤلف فيلحن ، فإذا نبها قالا : ما ندري ما الإعراب ، وإنما نحن محدثون وفقهاء ، فهما يسران بما يساء به اللبيب »([18]) .
وتوضيح هذا بسوق بعض الأخبار والقصص :
« قيل لإبراهيم الحربي ( 198 - 285هـ ) : إن ثعلبًا يلحن في كلامه ! فقال : إيش يكون إذا لحن في كلامه ؟! كان هشام - يعني النحوي - يلحن في كلامه . وكان أبو إبراهيم يكلم صبيانه بالنبطية »([19]) . وروي نحوٌ من هذا عن الإمام أحمد ( 164 - 241هـ ) حين قيل له : إن هشيمًا لحانة .
وكان أبو العباس ثعلب ( 200 - 291هـ ) لا يتكلف الإعراب في كلامه ، كان يدخل المجلس فيقام له ، فيقول : أقعدوا أقعدوا بفتح الألف([20]) . « ولم يكن ثعلبٌ موصوفًا بالبلاغة ، وكان إذا كتب كتابًا إلى بعض إخوانه من أصحاب السلطان لم يخرج عن طبع العامة ، فإذا أخذته في الشعر والغريب ، ومذهب الفراء والكسائي رأيت من لا يفي به أحدٌ ، ولا يتهيأ له الطعن عليه »([21]) . ومع ذلك ألف كتابه « الفصيح » لدفع اللحن والخطأ عن اللغة ، وقد حكي وقوع اللحن عن علماء لغة آخرين مثل محمد بن الحسن الأحول ( ت 59هـ ) والأخفش الأصغر ( 235 - 315هـ ) بل تجاوز الأمر هذا ، فحكوا عن أبي عمرو بن العلاء ( ت 154هـ ) نحوًا من هذا . قال السبكي : « حكي أن أبا عمرو بن العلاء قصده طالب ليقرأ عليه ، فصادفه بكلّاء([22]) البصرة ، وهو مع العامة يتكلم بكلامهم ، لا يفرق بينه وبينهم ، فنقص من عينه ، ثم لما نجز أبو عمرو مما هو فيه تبعه الرجل إلى أن دخل الجامع ، فأخذ يخاطب الفقهاء بغير ذلك اللسان فعظم في عينه ، وعلم أنه كلم كل طائفة بما يناسبها من الألفاظ »([23]) .
قال السبكي ( ت 771هـ ) : وهذا هو الصواب ؛ فإن كل أحد يكلم على قدر فهمه ، ومن اجتنب اللحن ، وارتكب العالي من اللغة ، والغريب منها ، وتكلم بذلك مع كل أحدٍ عن قصدٍ ، فهو ناقص العقل ، وربما أتِيَ بعض هذه الطائفة من ملازمة هذا الفن ، بحيث اختلط بلحمهم ودمهم ، فسبق لسانهم إليه ، وإن كانوا يخاطبون من لا يفهمه ، ثم أورد طائفة من أخبار أهل اللغة ، وتكلفهم في خطابهم العامة ، ومن لا يفهم ما يقولون ، وعد من يتكلف هذا التكلف خسيف العقل ، ثم قال : ولا ينكر أنهم يأتون بالألفاظ الغريبة لكثرة استعمالهم لها ، وغلبتها على ألسنتهم ، ظنًا منهم أن كل أحدٍ يعرفها ، وإلا فكيف يذكرونها في وقت لا يظهر فيه لاستعمالها سببٌ غير ذلك »([24]) .
ثم قال : « واعلم أن الحكايات في هذا الباب تخرج عن حد الحصر ، وتقتضي الخروج من الجد إلى ضرب من الهزل ، والحاصل أن ما كان الحامل عليه غلبة هذه الصناعة مذمومٌ من جهة أن ذا الصناعة كان ينبغي أن يقوم قلبه ودينه قبل أن يقوم ألفاظه ، فاللحن في اللفظ ، ولا اللحن في الدين ، وقد غلب على كل ذوي فن فنهم »([25]) وعد « ما كان الحامل عليه مجرد التقعر في اللفظ رعونة »([26]) .
وما من شك أن مجاراة العامة خير من التقعير ، وأقرب للقبول ؛ لأن التقعير ، وتكلف الإعراب ، والتفيهق في النطق يجعل المتكلم هزأة وسخرية للناس ، كما يحكى عن عيسى بن عمر البصري ( ت 149هـ ) « وكان لا يدع الإعراب لشيءٍ »([27]) ، « وكان أفصح الناس، وكان صاحب تقعير في كلامه، واستعمال الغريب فيه وفي قراءته ، وضربه عمر بن هبيرة بالسياط ، وهو يقول : والله إن كانت إلا أثيّابًا في أسيفاط قبضها عشاروك »([28]) . وكان تقعر أبي زيد الأنصاري ( ت 214هـ ) مع العامة في بغداد موضع سخريتهم([29]) . وهذا شيء نلمسه في حياتنا حين يأتي طلاب العربية من غير أهلها ليتعلموها فيخرجون إلى الشارع والأسواق ، فيحادثون الناس بما لقنوه في قاعة الدرس ، فيقال لهم : أنتم تتكلمون بلغة الكتاب ، ذلك أن لغة الخطاب والحياة اليومية شيءٌ, ولغة الكتاب والتأليف شيءٌ آخر . ولو حاول محاول أن يلتزم جميع ما درسه من قواعد اللغة لا يخرج عنها قيد أنملة متناسيًا الواقع الذي يبثٌ فيه كلامه لأوقع نفسه في غاية الحرج ، وقد أمرنا أن نخاطب الناس بما تدركه عقولهم . وكان رسول الله ﷺ يخاطب كل قبيل بلغته . وقد تعرض بعض علماء اللغة للحصب والطرد والسب بسبب تقعرهم في استعمال اللغة ، ومخاطبة العامة بغير ما درجت عليه .
إننا لو نظرنا نظرة واقعية لوجدنا أنه لا يمكن القضاء على العاميات وإقصاؤها من الحياة العامة إلا بجهد خيالي فوق المعتاد ، ثم نحن بحاجة إلى جهد مضاعف للمحافظة على النتيجة التي نصل إليها ، ذلك أن هذه العاميات نتيجة تراكمات أربعة عشر قرنًا ، كانت اللغة الفصحى التي تتجلى في اللغة المدونة المكتوبة معزولة فيها عن مظاهر الحياة اليومية ، ولغة الخطاب الدارجة .
وقد تم التمايز بين العربية الفصحى لغة العلم والأدب ، والعربية المولدة الدارجة حوالي نهاية القرن الثالث في جميع الأوساط المثقفة([30]) . وهذه اللغة المولدة لغة تحررت من كثير من نظام العربية في تراكيبها ، وأبنيتها ، وأصواتها ، ودلالة مفرداتها ، وتراكيبها ، فتخلصت من الإعراب ، وقدمت ما حقه التأخير ، وأخرت ما حقه التصدير ، وتصرفت في الصيغ الصرفية ، ودلالة الألفاظ اللغوية ، ونظام التراكيب بجملة ، تصرفًا لا تزيده الأيام إلا تأكيدًا ورسوخًا ، حتى صارت البيئة العربية لا تعين العربي على تلقي العربية المسمّاة الفصيحة, ودرسها ، وصار العربي بحاجة إلى أن يتعلم العربية التي تسمّى الفصحى, ويصبر على تعلمها، غير أنه لا يتعلّم ولا يكتسب لغة أجنبيّة؛ إذ لا يقف عند الجوانب الصوتية والكتابية طويلًا ، وهو ملمٌّ بكثير من مفرداتها وألفاظها, عارف بدلالاتها, وتراكيبها ليست غريبة عنه, كما أنه يتذوّق العربية الجامعة, أو ما نسمِّيها الفصحى؛ لأنها لا تعدّ بالنسبة له لغة أجنبية, أو لغة ثانية.
إننا نستطيع أن نصور العلاقة بين اللغة الفصحى ، والدارجة بقانون « العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة من الأسواق » . وذلك لما في اللغة الدارجة من تخلص من كثير من ضوابط الفصحى ، ولأنها لغة الحياة اليومية التي سهل استخدامها بمرور الأيام .
والعلاقة بين اللغتين يفي هذا القانون بتصويرها ، كانت العاميات المرفوضة بقياس الفصحى لغات أو ظواهر في لغات في أطراف الجزيرة ولغتهم عربية ، ففي العراق المناذرة واللخميّون والعباديّون, وفي الشام : الغساسنة وغيرهم ، ولغتهم عربية، وكذا في عمان واليمن. وكان هناك لغة النبط في شمال الجزيرة، وهذه لغات أو لهجات يمكن أن نجعلها نظائر العاميات أو اللغات الدارجة في العصر الحاضر ، وكانت بمعزل عن اللغة البيانية العالية ، نزل القرآن بغيرها ، وارتفع عنها جامعو اللغة حين دونوها ، ولم يبن عليها أهل النحو نحوهم ؛ إذ يمموا شطر قلب الجزيرة العربية في الحجاز ونجد ، وقصدوا إلى اللغة المضرية، وما ضارعها من لغات العرب، فكانت هي اللغة الأم ، وما عداها فروع أصابها غير قليل من الوهن والعلة .
ثم إن هذه اللغات أغارت على العربية في الحواضر الإسلامية أولًا ، ثم في البادية أخيرًا حتى غلبت الفصحى ، وطردتها من ميدان الحياة اليومية ، والخطاب اليومي ، ويصور الحسن بن أحمد الهمداني ( 280 - 334هـ ) وضع اللغة في عصره في جزيرة العرب فيقول : « أهل الشحر والأسعاء ليسوا بفصحاء ، مهرة غتم يشاكلون العجم ، حضر موت ليسوا بفصحاء ، وربما كان فيهم الفصيح ، وأفصحهم كندة وهمدان ، وبعض الصدف ، سرو مَذحِج ومأرب وبيحان وحريب فصحاء ، ورديء اللغة منهم قليل ، سرو حمير وجعدة ليسوا بفصحاء ، وفي كلامهم شيء من التحمير([31]) ، ويجرون في كلامهم ويحذفون ، فيقولون : يا ابن معم في يا ابن العم ، وسمع في اسمع . لحج وأبين ودثينة أفصح ، والعامريون من كندة ، والأوديون أفصحهم . عدن لغتهم مولدة ردية ، وفي بعضهم نوك وحماقة إلا من تأدب . بنو مجيد وبنو واقد والأشعر لا بأس بلغتهم ، سافلة المعافر غتم ، وعاليتها أمثل ، والسكاسك وسط بلد الكلاع نجدية مثيل مع عسرة من اللسان الحميري ، سراتهم فيهم تعقد « سخلان وجيشان ووراخ وحضر والصهيب وبدر قريب من لغة سرو حمير ، ويحصب ، ورعين أفصح من جبلان ، وجبلان في لغتهم تعقد ، حقل قتاب فإلى ذمار الحميرية القحة المتعقدة ، سراة مَذْحِج مثل ردمان ، وقرن ، ونجدها مثل رداع ، وإسبيل ، وكرمان ، والحدا ، وقائفة ، ودقرار فصحاء ، خولان العالية قريب من ذلك ، سحمر وقرد والحبلة ومِلْح ولحج وحمض وعتمة ووتيح وسمح وألهان وسط وإلى اللكنة أقرب . حراز والأخروج ، وشم وماضخ والأحبوب ، والحجاوب ، وشرف أفيان ، والطرف وواضع ، والمعلل خليطي من متوسط بين الفصاحة واللكنة ، وبينها ما هو أدخل في الحميرية المتعقدة لا سيما الحضورية من هذه القبائل وبلد الأشعر وبلد عك ، وحكم بن سعد من بطن تهامة ، وحوازها لا بأس بلغتهم إلا من سكن منهم القرى ، همدان من كان في سراتها من حشاد خليطي من فصيح ثمل عذر وهنوم ، وحجور ، وعتم مثل بعض قدم وبعض الجبر ... والخشب عربي يخلط حميرية ظاهر همدان النجدي من فصيح ، ودون ذلك ، خيوان فصحاء ، وفيهم حميرية كثيرة إلى صعدة ، وبلد سفيان بن أرحب فصحاء إلا في مثل قولهم : أم رجل ، وقيد بعيراك . ورأيت أخواك ، ويشركهم في إبدال الميم من اللام في الرجل والبعير وما أشبهه ، الأشعر وعك وبعض حكم من أهل تهامة . صنعاء في أهلها بقايا من العربية المحضة ، ونبذ من كلام حمير ، ومدينة صنعاء مختلفة اللغات واللهجات ، لكل بقعة منهم لغة ، ومن يصاقب شعوب يخالف الجميع ، شبام أقيان والمصانع وتخلى حميرية محضة . خولان صعدة نجديها فصحاء ، وأهل قدها وغورها غتم . ثم الفصاحة من العرض في وادعة فجنب فيام فزبيد فبني الحارث مما اتصل ببلد شاكر من نجران إلى أرض يام ، فأرض يام ، فأرض سنحان ، فأرض نهد وبني أسامة ، فعنز ، فخثعم ، فهلال ، فعامر بن ربيعة ، فسراة الحجز ، فدوس ، فغامد ، فشكر ، ففهم ، فثقيف ، فبجيلة ، فبنو علي ، غير أن أسافل سروات هذه القبائل ما بين سراة خولان والطائف دون أعاليها في الفصاحة .
وأما العروض ففيها الفصاحة ما خلا قراها، وكذلك الحجاز، فنجد السفلى فإلى الشام، وإلى ديار مضر، وديار ربيعة فيها الفصاحة إلا في قراها، فهذه لغات الجزيرة على الجملة، دون التبعيض والتفنين»([32]).
كما وصف المقدسي محمد بن أحمد ( 336 - 380هـ ) حال اللغة في أقاليم الدولة الإسلامية: الجزيرة وغيرها، ووصف بدقة حال الازدواج اللغوي بين العربية والعاميات، وبين اللغة العربية وغيرها من اللغات الأعجمية، والازدواج الثلاثي بين الفصحى والعاميات واللغة الثالثة ( غير العربية ) ، فكان مما قاله :
1- « وسنتكلم في كل إقليم بلسانهم ، ونناظر على طريقتهم ، ونضرب من أمثالهم ، لتعرف لغتهم ، ورسوم فقهائهم ، فإن كنا في غير الأقاليم تكلمنا بلغة الشام ؛ لأنها إقليمي الذي به نشأت ، وناظرت على طريقة القاضي أبي الحسين القزويني ؛ لأنه أول إمام عليه درست ، ألا ترى إلى بلاغتنا في إقليم المشرق ؛ لأنهم أصح الناس عربية ؛ لأنهم تكلفوها تكلفًا ، وتعلموها تلقفًا([33]) . ثم إلى ركاكة كلامنا في مصر والمغرب ، وقبحه في ناحية البطائح ؛ لأنه لسان القوم ، لأن قصدنا في هذا الأصل الإنهاء والتعريف ، لا المبارزة والتشفيف »([34]) .
2- وفي وصف لغة الجزيرة العربية « أهل هذا الإقليم لغتهم العربية ، إلا بصحار ، فإن نداهم وكلامهم بالفارسية ، وأكثر أهل عدن وجدة فرس إلا أن اللغة عربية ، وبطرف الحميري قبيلة من العرب لا يفهم كلامهم ، وأهل عدن يقولون لرجليه : رجلينه ، وليديه : يدينه ، وقس عليه ، ويجعلون الجيم كافًا ، فيقولون لرجب ، ركب ولرجل : ركل ، وقد روي « أن النبي ﷺ أتى بروثة عند الاستجمار ، فألقاها ، وقال : هي ركس »([35]) وقد تعني الفقهاء هذا ، فيجوز ما قالوه ، ويجوز أن يكون استعمل هذه اللغة ، وجميع لغات موجودة في بوادي هذه الجزيرة إلا أن أصح [ اللغة ] بها لغة هذيل ، ثم النجدين ، ثم بقية الحجاز ، إلا الأحقاف ، فإن لسانهم وحش » ([36]) . وقال أيضًا : « أهل الأحقاف نواصب غتم »([37]) .
3- وفي وصف لغة العراق : « ولغاتهم مخلتفة ، أصحها الكوفية ؛ لقربهم من البادية ، وبعدهم عن النبط ، ثم هي بعد ذلك حسنة فاسدة ، بخاصة بغداد ، وأما البطائح فنبط لا لسان ولا عقل »([38]) . وقال أيضًا : « ولا أحسن لسانًا من أهل بغداد »([39]) . وقال : « وكنت إذا حضرت مجلس قاضي القضاة ببغداد أخجل من كثرة ما يلحن ، ولا يرون في ذلك عيبًا »([40]) .
4- وفي وصف لغة الجزيرة الفراتية وما حولها : « ولغتهم لغة حسنة ، أصح من لغة الشام ؛ لأنهم عرب ، أحسنها الموصلية .. وقد جمعت أكثر القبائل ، أكثرهم حارثيون »([41]) .
5- وفي وصف لغة أهل الشام « وإنما الكتبة به وبمصر نصارى ؛ لأنهم اتكلوا على لسانهم ، فلم يتكلفوا الأدب كالأعاجم ، وكنت إذا حضرت مجلس قاضي القضاة ببغداد أخجل من كثرة ما يلحن ، ولا يرون في ذلك عيبًا »([42]) .
6- وفي وصف لغة مصر : « لغتهم عربية ، غير أنها ركيكة رخوة ، وذمتهم يتحدثون بالقبطية »([43]) .
7- وفي وصف لغة أهل المغرب « ولغتهم عربية ، غير أنها منغلقة مخالفة لما ذكرنا في الأقاليم ، ولهم لسان آخر يقارب الرومي ، والغالب على بوادي هذا الإقليم البربر ... ولا يفهم لسانهم »([44]) .
8- وفي وصف لغة خوزستان ( الأهواز ) « وليس في أقاليم العجم أفصح من لسانهم ، وكثيرًا ما يمزجون فارسيتهم بالعربية ، ويقولون : أين كتاب وصلاكن ، وأين كار قطعاكن . وأحسن ما تراهم يتكلمون بالفارسية حين ينتقلون إلى العربية . وإذا تكلموا بأحد اللسانين ظننت أنهم لا يحسنون الآخر ، وفي كلامهم طنين ومد في آخره . وإذا قالوا : اسمع قالوا : ببخش . ويسمون الكبارخيال ... ولأهل هرمز لسان لا يفهم .. ثم أورد ما روي عن رسول الله ﷺ أنه قال « أبغض الكلام إلى الفارسية ، وكلام الشياطين الخوزية ، وكلام أهل النار البخارية . وكلام أهل الجنة العربية »([45]) .
9- ثم تحدث عن لغات الأقاليم العجمية ، ووصف ألسنتها ، فوصف لغة الديلم([46]) . ولغة الران وأرمينية وأذربيجان([47]) ، ولغة الري ، وهمذان ، وأصبهان وما حولها([48]) ، ولغة كرمان([49]) ، والسند([50]) ، ثم لغات إقليم المشرق ، وذكرها خمسًا حسب كورها ، وقد قارن بين تلك اللغات في الصفات العامة ، وذكر بعض خصائصها ، وميزة كل لغة على غيرها ، وما فيها من صفات تحمد أو تذم ، ولم أر نقل تفصيل وصفه ؛ لأنها لا تهم المحاضرة ؛ إذ هي لغات أعجمية ، وهي لغات الحياة اليومية ، والخطاب اليومي ؛ ولغة العلم هي اللغة العربية ، وهي المرادة بقول المقدسي « ألا ترى إلى بلاغتنا في إقليم المشرق ؛ لأنهم أصح الناس عربية ، لأنهم تكلفوها تكلفًا ، وتعلموها تلقفًا »([51]) .
ويؤيد ما ذكره الهمداني والمقدسي ما أورده ابن جني ( ت 392هـ ) في كتابه
« الخصائص » عن أبي حاتم سهل بن محمد السجستاني أنه قال : قرأ على أعرابي بالحرم : « طيبي لهم وحسن مآب » فقلت : طوبى . فقال : طيبي ، فأعدت . فقلت : طوبى ، فقال : طيبي ؛ فلما طال علي قلت : طوطو . قال : طي طي ، ثم قال ابن جني أفلا ترى إلى هذا الأعرابي ، وأنت تعتقده جافيًا كزًا لا دمثًا ولا طيعًا ، كيف نبا طبعه عن ثقل الواو إلى الياء ، فلم يؤثر فيه التلقين ، ولا ثنى طبعه عن التماس الخفة هز ولا تمرين ، وما ظنك به إذا خلي مع سومه ، وتساند إلى سليقيته ونجره .
وسألت يومًا أبا عبد الله محمد بن العساف العقيلي الجوثي التميمي - تميم جوثة - فقلت له : كيف تقول : ضربت أخوك ؟ فقال : أقول : ضربت أخاك ، فأدرته على الرفع ، فأبى . وقال : لا أقول : أخوك أبدًا ، قلت : فكيف تقول : ضربني أخوك ؟ فرفع . فقلت : ألست زعمت أنك لا تقول : أخوك أبدًا ؟ فقال أيشٍ هذا ؟! اختلفت جهتا الكلام »([52]) .
وهكذا استمر حال العاميات الدارجة مع الفصحى في زحف وتراجع ، زحف من العاميات الدارجة ، وتراجع من الفصحى ، حتى آل الأمر إلى طغيان اللغة الدارجة التي تحررت من كثير من ضوابط العربية ، وسماتها المميزة على لغة الخطاب اليومي في جميع الأقاليم الإسلامية ، وانحصرت الفصحى في مجال الدرس والعلم والأدب ، وهي لغة أهل العلم والمثقفين ، وهي المرادة في قول المقدسي في أحسن التقاسيم : « إن أصح العربية يتكلم بها في المشرق ، أي : في الإقليم اللغوي الفارسي ؛ لأنهم يتكلفونها تكلفًا ، ويتعلمون تلقفًا »([53]) .
ويصف عربية العراق بأنها حسنة فاسدة، والظاهر أن مراده أنها حسنة الوقع في الأذن، وإن لم تطابق قواعد النحو ، بل هو يعد لهجة بغداد أجمل اللهجات العربية ، وأحسنها لسانًا ، على الرغم من اعترافه في موضع آخر بأنه طالما خجل من اللحن اللغوي على لسان قاضي القضاة ببغداد، دون أن يرى أحدٌ في ذلك عيبًا »([54]) .
ومن المعروف أن العامية كانت لها السيطرة على لغة الحياة اليومية ، والخطاب اليومي منذ القرنين الثاني والثالث ، إلا ما ذكر في القاموس وشرحه عن جبل عكاد قرب زَبيد ، وأن أهله باقية على اللغة الفصحى إلى الآن ، ولا يقيم الغريب عندهم أكثر من ثلاث ليال خوفًا على لسانهم([55]) .
هذا هو حال اللغة في العصور الإسلامية ، وهذا هو موقف علماء اللغة من لغة الحياة اليومية ، فهل وقف الأمر عند هذا الحد ؟ وعند مجاراة العامة في لحونهم ؟ أم كان وراء ذلك شيء آخر ؛ إنهم أوجبوا أو استحسنوا اللحن في مقامات وأحوال غير مجاراة العامة ، منها :
1- سياق النكات والنوادر عن العامة والبلديين ، يقول الجاحظ : « فإذا سمعت بنادرة من نوادر العامة ، وملحة من ملح الحشوة والطغام ، فإياك وأن تستعمل فيها الإعراب ، أو تتخير لها لفظًا حسنًا ، وتجعل لها من فيك مخرجًا سريًا ، فإن ذلك يفسد الإمتاع بها ، ويخرج من صورتها ، ومن الذي أريدت له ، ويذهب استطابتهم إياه ، واستملاحهم لها »([56]) .
ويقول قدامة : « ولفظ السخيف موضع آخر لا يجوز أن يستعمل فيه غيره ، وهو حكاية النوادر ، والمضاحك ، وألفاظ السخفاء والسفهاء ؛ فإنه متى حكاها الإنسان على غير ما قالوا ، خرجت عن معنى ما أريد بها ، وبردت عند مستعمليها ، وإذا حكاها كما سمعها ، وعلى لفظ قائلها ، وقعت موقعها ، وبلغت غاية ما أريد بها([57]) .
وقد جرى الجاحظ على هذا النهج في إيراد ما أورده من نوادر في كتاب « البخلاء » وغيره .
2- كلام الجواري والإماء ومن في حكمهن ، يقول قدامة : « إن اللحن قد يستملح من الجواري والإماء ، وذوات الحداثة من النساء ؛ لأنه يجري مجرى الغرار منهن وقلة التجربة »([58]) . ويقول الجاحظ : « واللحن من الجواري الظراف ، ومن الكواعب النواهد ، ومن الشواب الملاح ، ومن ذوات الخدور الغرائر أيسر ، وربما استملح الرجل ذلك منهن ما لم تكن الجارية صاحبة تكلف ، ولكن إذا كان اللحن على سجية سكان البلد ، وكما يستملحون اللثغاء إذا كانت حديثة السنّ ، ومقدودة مجدولة ، فإذا أسنت واكتهلت تغير ذلك الاستملاح »([59]) .
3- مجاراة ذوي السلطان، وهو ذو صلة بمجاراة العامة، غير أنه خص لخفائه وأهميته، وقد عدّ قدامة من الطبيعي أن يستعمل اللحن ويتعمد له عند الرؤساء والملوك الذين يلحنون ولا يعربون ؛ فإن الرئيس والملك لا يجب أن يرى أحدًا من أتباعه فوقه ، ومتى رأى أن أحدًا منهم قد فضله في حال من الأحوال نافسه، وعاداه، وأحب أن يضع منه، كما صوب قدامه رأي رجل تكلم في مجلس بعض الخلفاء الذين كانوا يلحنون ، فلحن فعوتب على ذلك. فقال: لو كان الإعراب فضلًا لكان أمير المؤمنين إليه أسبق »([60]) .
وفي مراتب النحويين لأبي الطيب اللغوي ( ت 351هـ ) « عن أبي حاتم السجستاني أنه قال : « جاء رجل إلى أبي عبيدة يسأله كتاب وسيلة إلى بعض الملوك ، فقال لي : يا أبا حاتم ، اكتب له عني ، والحن في الكتاب ، فإن النحو محدود »([61]) .
« وحدث محمد بن الجهم ( السِّمَّريّ ) قال : حدثني ابن المستنير قطرب قال : دخل الفراء على هارون الرشيد ، فتكلم بكلام لحن فيه مرات ، قال جعفر بن يحيى - يعني : البرمكي - إنه لحن يا أمير المؤمنين ، فقال الرشيد للفراء : أتلحن ؟ قال : يا أمير المؤمنين ، إن طباع أهل البدو الإعراب ، وطباع أهل الحضر اللحن ، فإذا تحفظت لم ألحن ، وإذا رجعت إلى الطبع لحنت ، فاستحسن الرشيد قوله »([62]) .
4- كتابة الإقرارات ، والإدلاء بالشهادات ، يحسن أن يكون ذلك كله بلفظ المتكلم ( المقر أو الشاهد ) ؛ لأنه أدق في دلالته على مراده ، والعرف قادر على تفسير مالا تطيق اللغة تفسيره ، ولهذا يقدم الفقهاء الاحتكام إلى العرف والعادة ، وإلى ما يتداوله الناس من كلام وألفاظ وتفسيرهم على ما استقر لدى علماء العربية ، فلا يدين الشخص إلا بما يلزمه حسب لفظه وكلامه ، ومقصده ، وإن خالف اللغة .
وفيما عدا هذا من مقامات « يتحرى الكاتب تجنب اللحن ، وترك مجاراة العامة فيما لا يغتفر فيه اللحن من اللفظ المكتوب ؛ لأن الطرف يتكرر فيه ، والروية تجول في إصلاحه ، وليس كمثل الكلام الملفوظ الذي يجري أكثره على غير روية ولا فكرة([63]) ، ويغتفر فيه بوجه عام مالا يغتفر في غيره من الكلام ، خاصة إذا كثر الخطأ في النحو ، وانتشر اللحن والفساد في لسان العامة والخاصة([64]) .
ومن مقامات الأسلوب الجزل الصلات بين الخاصة والعامة ، والعرب الفصحاء ، والكتاب ، والأدباء([65]) ، وأهل العلم ، وذوي الزعامة ، والقيادة ، والمسئولية عن الأمة ، ففي هذه المقامات لا يحسن إلا الكلام المعرب ، المبين ، الذي يجري على سنن الفصاحة ، ومثله مقام الخطابة ، وما في حكمه ، مما ليس مكتوبًا ، فلا يحسن فيه إلا كلام على طريقة العرب الفصحاء . « وهو يتعلم بمجالسة الأدباء ومعاشرة الخطباء ، وحفظ أشعار العرب ، ومناقلاتهم ، والمختار من رسائل المولدين والأدباء ومكاتباتهم ، وللمران على ذلك ينبغي التبكير بتعليم الأولاد كتابة الرسائل ، ورواية أشعار القدماء ، وحفظ القرآن »([66]) وممارسة ذلك ، والمران عليه ، ليرتاض من المرء لسانه ، وينطلق بيانه .
وبعد :
إن اللغات العامية ليست إلا وليدًا ممسوخًا مشوهًا للغة العربية الفصحى ، وليس هناك مضارة من تعايشهما ؛ لأن كلا منهما تصح في مجالها ، ولا يضير ما في العاميات من اختلاف ؛ لأن الخلاف بينهما ظاهرة طبيعية ، تميز الأفراد والبلاد والشعوب بعضها من بعض ، وقد ظلت هذه الظاهرة قرونًا طوالًا ، ولم يهدد ذلك سلامة اللغة ، فمنذ القرون الأولى كان الناس يميزون بين أهل العراق ، وأهل الشام ، وأهل مصر ، وأهل المغرب ، وأهل البادية بلهجاتهم وطريقة أدائهم ، وكانوا يفهمون عن بعضهم ما يريدون ، وإذا عسر فهمهم باللغات المحلية أداروا ألسنتهم إلى العربية الفصحى ، لغة العلم والأدب ، والجد ، دون أن يمنع فهمهم ما في الكلام من صفات ثانوية ، أو فوقها ، كالنبر والتنغيم ، والتزمين ، والتلوين ، ما تمسكوا باستعمال الفصحى في مختلف المجالات العامية ، والأنشطة الثقافية ، يجري العمل على خلافه في كثير أو بعض من تلك المناشط .. وسوف ينتج عن الالتزام بها ، واعتياد الناس سماعها أن يتأثروا بكلماتها وأساليبها ، فتصبح أكثر شيوعًا في لهجاتهم ، وأحاديثهم اليومية . وبذلك يصبح لدينا مركز موحد يشد ما ندّ وشذّ وتفرق من اللهجات إليه ، فيقترب بعضها من بعض باقترابها من هذا المركز الموحد([67]) .
تدين اللغة العربية بخلودها ، وسعة رقعتها للإسلام ؛ إذ أعان على بقاء العربية لغة قوية على الرغم من سقوط حكم العرب وسلطتهم ، وتقلب الأوضاع ، وانتقالها إلى أعراق أخرى « إن لغة القرآن قد صارت في شعور كل مسلم أيًا كانت لغته الأصلية جزءًا من حقيقة الإسلام ، حتى إن الفرس الذين باشروا الحكم إذْ ذاك لم يكونوا يستطيعون التفكير في رفع إحدى اللهجات الإيرانية لتكون لغة الدولة »([68]) .
وقد قامت اللغة العربية في جميع البلدان العربية ، وما عداها من الأقاليم الداخلة في المحيط الإسلامي رمزًا لغويًا لوحدة العالم الإسلامي في الثقافة والمدنية »([69]) .
وقد أعانها هذا على الصمود أمام حركات حاولت إقصاء العربية ، أو الغضَّ من شأنها في الحياة الإسلامية ، خاصة التي تراعي اللهجة المحلية كما سيمكنها من الاحتفاظ بهذه المكانة في المستقبل »([70]) .
واللغة العربية الفصحى لا يضارها كثيرًا قيام لهجات محلية أو لغة خطاب يومي دارجة ، يتداولها العامة ، وتقضي بها شئون الحياة اليومية ، يقول د. محمد محمد حسين: « وكل دارس للغات والمجتمعات يعرف أن ما يسمونه ( الازدواج ) في المراوحة بين استعمال الفصحى والعامية الذي يزعمونه ظاهرة فريدة خصت به اللغة العربية دون اللغات ، وهو ظاهرة بشرية ، تشمل كل اللغات : قديمها وحديثها ، لهما جميعًا لغة متأنقة دقيقة للفكر وللأدب ، ولها لغة أخرى أقل دقة وجمالًا ، وأدنى درجة ووقارًا ، للتعامل اليومي ، وهي لغة متحولة متغيرة ، لم تحظ بعناية العلماء والأدباء إلا في أيامنا هذه ، التي كثر فيها التهريج في التمسح باسم الشعب ، والتشدق بالفنون الشعبية »([71]) . وفي تصوري أنه لا يبعد حال من يجنح إلى استعمال العاميات في الأدب ، والعلم ، والفكر عن حال ابن المقفع وبشار فيما لو نزعا إلى لغتهما الأصلية ، وكتبا ما كتبا، وهما من هما في نزعتهما الشعوبية، غير أنهما لم يحاولا استخدام لغتهما الأصلية لغة أدبية »([72]) .
إن الدعوات التي تصطنع العداوة مع العاميات و تدعو إلى طمس اللهجات الدارجة من الخارطة - مع يقيني بحسن وصحة نيات أصحابها - دعوات تنقصها الواقعية ، وأنها أقرب لأن تكون شبيهة بجمهورية أفلاطون ( 428 - 347 ق.م ) أو مدينة الفارابي الفاضلة ( 259 - 339هـ ) أو أمنية كأمنية أصحاب الفلسفية المثالية .
قد كتب كثير من ذوي الحماسة للعربية عن الدعوة إلى القضاء على الازدواجية في واقعنا اللغوي ، وأعظموا الموضوع ، وبالغوا في تأثيره ، حتى خيلوا لغيرهم أن هذه الازدواجية عقبة كأداء في سبيل تحقيق العربية الفصحى على أرض الواقع .
يمكن للباحث أن يوافقهم على ضرورة إنهاء الازدواجية فيما تتحتم فيه الفصحى من المجالات والميادين ، على نحو ممَّا بيناه ، لكن أن نقول بإلغاء العامية من الوجود غير مقبول . وغير ممكن واقعًا .
إن البعض يحلم بأن يكون للعربية بيئة كبيئتها الأولى يتلقى فيها مريد اللغة من خلال المحاكاة والتقليد ، والمشافهة ، كما كان الحال في العصر الجاهلي ، وفي العصور الإسلامية . وهذا لا أظنه ممكنًا . وكل ما يمكن عمله هو الترقي بلغة الحياة اليومية ، وتقريبها من الفصحى ، وتقليل التجاوزات والمخالفات في الأصوات ، والبنية ، والتراكيب ، والدلالة ، لتكون قريبة من الفصحى ، وإن لم تكن كذلك .
وهذا العمل بحاجة إلى تضافر الجهود العلمية ، مع القرارات السياسية ، والتوجهات الإعلامية ، والمناشط الإدارية . . ومهما بذلنا من جهد فلن نصل إلى مستوى يضارع ما كان عليه الحال في العصور الإسلامية الزاهية .
هذا من ناحية ، ومن ناحية أخرى سيئول الأمر إلى دورة زمنية تعود فيها العربية المنطوقة نموذجًا ، ثم يخرج الناس عنه قليلًا قليلًا ، وهكذا إلى أن تعود الحال كما كانت ، فنبدأ حركة لغوية جديدة في الحفاظ على اللسان العربي ، ورد اللحن ، وتصحيح الخطأ ، والذين يظنون غير ذلك لا يبعد تفكيرهم عن تفكير أصحاب الفلسفة المثالية الذين أوقفوا حركة التاريخ على الصورة الشيوعية التي يتساوى بها أفراد المجتمع في الكفاية والغنى ، وبذلك يسود العدل في نظر أصحاب الفلسفة تلك ، وقد أكذبهم الواقع ، فانهارت الشيوعية في وقت لم يكونوا يتوقعونه .
ومن الواقعية أن نقرر أن كلًا من الفصحى والعاميات الدارجة تصح في مجالها ، فغير مقبول تكلف الفصحى في مجالات العامية ، كما أنه من غير المقبول إقحام العامية في مجالات لغة الأدب والعلوم ، والخاصة من العلماء والمسئولين ، وذوي الفكر والنباهة ، والمكانة الاجتماعية .
إن اللغة العربية الفصحى في السابق كانت تدل على مكانة المتكلم الاجتماعية ، وكانت مطمح كثير من الموالي ، يتسامون بها ويتعالون ، وكان هذا العامل الاجتماعي معينًا على تغلب الفصحى ونشرها بالتربية والتعليم ، ومن الملحوظ أنه « كلما أخذت سلامة اللغة تصير أمرًا من أمور التربية والتعليم قويت آمال غير العرب أن يستبدلوا بالصبر والدأب عربية فصحى من عربية اللهجة الدارجة في محيطهم ، حتى فاق بعض الموالي العرب ، واحتج علماء العربية بكلامهم ، من أمثال الحسن البصري ( ت 110هـ ) وبشار بن برد ( 95 - 167هـ ) وزياد الأعجم ( ت نحو 100هـ ) ([73]) .
ويكفي قدحًا في اللغات الدارجة أنها لغة فئة قصرت أداتها عن الفصحى وما تستطيع ذلك، ولا تقدر عليه؛ لأن الفصحى لا يقدر عليه إلا الفئات المنتسبة إلى أنماط العلوم المختلفة، فهي التي تقدر على إقامة نظامها، وإحكام بنائها ، والوفاء بأغراضها ، والميز بين مقامات الكلام فيها، ومراعاة تلك المقامات. أما الدارجة فهي لغة، أقل ما يقال فيها: إن منتحليها ومتخذيها وسيلة للبيان والتعبير ليس لهم بالعلم صلة، فهم فئة حيل بينهم وبينه، أو عجزت هممهم عنه ، أو قصرت أداتهم عن الوصول إليه، ويكفي هذا تشنيعًا، على خلاف الفصحى التي هي عنوان العلم، وسمة أهله الفارقة، وعلامتهم المميزة، وإنك بمجرد أن تسمع المتكلم تحكم عليه بالعلم أو خلافه، من طريقة حديثه وبيانه، وكل يختار من اللغتين ما يلائمه, ويقدر عليه .
ثم إن اللغة الدارجة ( العاميات ) لغة فئة محدودة بالزمان والمكان، ومن أراد لعلمه الخلود فعليه أن يكتبه بالفصحى التي كتب لها الخلود والبقاء ما بقي في هذه الأرض دين الله وكتابه؛ وذلك لطبيعة اللغات الدارجة التي تتميز بسرعة الحركة والتغيير فيها، والتي ليس لها كتاب ضابط ترجع إليه، وليس لها قواعد تحكمها، فهي في كل جيل تأخذ وضعًا، وفي كل بيئة تنتحل شكلًا، وفي كل مصر ترتدي سمتًا. وأنى لمثل هذه اللغة أن تقدر على حمل العلم ونقله، وتجاوز الحدود التاريخية والجغرافية، مع قولنا: إن كل لغةٍ تصح في مجالها، فهل تدوين العلم من مجالات العاميات ، أو اللغات الدارجة ؟!
وليس يقف الأمر على مجرد التعايش بين نمطين من لغة واحدة ؛ إذ يمكن للفصحي أن تفيد من الدارجة في وضع الألفاظ أو المصطلحات ، وفي تقديري أن هذا المتولد أو المولد الذي أنشأته العامية أولى من إقحام الأعجمي ، وإن مسه التغيير حتى يتلاءم مع نظام العربية في أصواتها وأبنيتها ، خاصة أبناء البادية . يقول خير الدين الزركلي : « لا تزال في عرب البادية خاصة القدرة على وضع الأسماء لكل ما يرونه ارتجالًا ، وقد كنت أعجب من قصة سليمان البستاني مع الأعرابية في بادية العراق حين أرادت الاستغاثة به ، ورأت على عينيه نظارتين ، فصاحت به : يا أبا المناظر أدركني !
وبينما أنا جالس يومًا للطعام بمكة، وحولي رجال من البادية لم ينزلوا الحواضر إلا قليلًا، عرفت ذلك من هيئاتهم ونظراتهم، واستغرابهم كل ما يرونه، إذ جيء باللحم والأرز، فأكلوا بأيديهم ما شاءوا، وهم يحسبونها كل شيء ، فقال لهم عارف بهم: إننا - معاشر الحضر - لا نأتي بالطعام دفعة واحدة ، بل نجعله أنواعًا، ونجلبه شيئًا فشيئًا، فرفعوا أيديهم عما أمامهم، وجيء بالصحن الثاني ، فالثالث، فقال أحدهم: وي، تجلبون الطعام دَلَف ! يريد: تباعًا، قالها من دون أن يفكر، أو يتأمل، وأراها لفظة يحسن بنا أن نجعلها بدلًا من الكلمة التركية الشائعة بيننا « قالدر». وشتان ماهما. والدَّلَف في المشي : أن تمشي مشيَ المقيَّد .
وعرب الحجاز منذ عرفوا البرقية ( التلغراف ) سموها السلك على اسم السلك الذي يحملها ، فهم يقولون : « جاءني اليوم سلك من فلان » وهو كقول العرب الأقدمين « جرى النهر » يريدون ماء النهر ، وأنبت الربيع البقل ، ويسمون قلم الرصاص « المرقم » ، وهذه التسمية أفضل وأجمل ، وهنك كلمات وأسماء كثيرة غير هذه »([74]) .
*********
وأخيرًا: يمكن لنا أن نخرج بنتيجة, مفادها أنّ اللغة ذات مستويات, ومن يتكلّم أيَّ منه هو يتكلّم بالعربيّة, وانتماؤه للعربيّة, وهوِّيَّته العربيّة؛ ذلك أنّ العربيّة الموحَّدة, والعربيّات الدارجة مرجعها واحد, ومن يتكلّم الدارجة يملك أهمّ مزايا المتكلّم باللغة الأمِّ, وهي القدرة على تذوُّق العربية الراقية الموحِّدة.
وعلينا أن لا نناصب الدارجة العداء؛ فإنّ متكلِّمها إنّما يتكلّمها في مقامات التواصل, ولا يطمح أن يجعلها لغة تداول, وهذا هو الميدان الذي يجب قصره على العربيّة الموحَّدة؛ فكلّ من أراد الخلود لعمله, لا يمكن أن يفكِّر بالكتابة في العربيّة الموحَّدة, ولا يمكن لمن أراد أن يتسامى بعمله؛ ليكون مقروءًا لدى الفئات المثقَّفة, والمتَّصلين بالعلم بسببٍ لا يعدِل بالعربيّة الموحَّـِدة الفصيحة بديلا.
وحين نستمع إلى بعض المتحدِّثين الذين يزعِجهم ما يسمّونه الازدواج اللغويّ اللغويّ بين الفصيحة والعاميّات الدارجة يصاب بالإحباط بسبب ما يوحيه من افتعال العداوة بينهما، فهل العامية غير العربية، أو أنها مستوًى من مستوياتها, وهل التغاير لو وجِد تغير تامٌّ أم تغاير ناقص؟!
إن الإفراط في المحافظة, والغلوَّ والتشدُّد بشأنها- وحالها مع ما يسمَّى الفصحى – كما أوردناه بهذا العمل يضرّ باللغة العربيّة, وعلينا أن نبني علاقة واقعيّة، بأن تصحَّحَ كلّ لغةٍ في مجالها وميدانها, وما الدارجة لم تتجاوز قدرها, وبقيت في مكانها المناسب لها, ولم يُدْعَ إلى إحلالها محلَّ اللغة الموحِّـَدة العالية, ما دام الأمر كذلك فالأمر طبيعيّ في العربية وغيرها من اللغات. تمّ, والحمد لله ربِّ العالمين.
---------------------------
الحواشي:
([31]) ذكر ياقوت في معجم البلدان 3 / 217 نحوًا من هذا فقال : « والسرو : قريةً كبيرة مما يلي مكة ، وإلى هذه السروات ينسب القوم الذين يحضرون مكة يجلبون الميرة ، وهو قومٌ غُتْمٌ ، بالوحش أشبه شيء » وذكر قبلها : « ... وهو منازل حمير بأرض اليمن ... » وعليه تكون السروات حميرية اللغة ، وهذا وصفٌ قريب من وصف الهمداني .
([33]) يقصد اللغة التي تكون في مجالات العلم والدرس دون اللغة التي يتكلمها الناس في حياتهم ؛ فإنهم يتكلمون لغات مختلفة ، وهم شعوب مختلفة ، فصَّل القول في لغاتهم ص 334 ص 336 ذكر خمسة ألسنة أو أكثر ، فليراجع خبرها هناك .
([35]) البخاري ( الجامع الصحيح ) كتاب الوضوء ، باب لا يستنجي بروث ، رقم الحديث : 156 ، 1 / 256 ، والترمذي ( السنن ) كتاب الطهارة ، باب ما جاء في الاستنجاء بالحجرين ، رقم الحديث : 87 ، 1/ 25 ، والنسائي ( السنن ) كتاب الطهارة ، باب الرخصة في الاستطابة بالحجرين 1 / 39 - 41 ، والإمام أحمد ( المسند ) 1 / 388 ، 418 ، 427 ، 450 ، 465 .
([45])ص 418 والحديث لم أقف عليه في دواوين السنة ، والله أعلم بصحته ، وإن كانت علائم الوضع عليه بادية .
([62]) الزبيدي, طبقات النحاة واللغويين ص131 وبعد القصة كلام لثعلب يحسن النظر فيه؛ لأنه يبين مابنى عليه الفراء فهمه للنحو.
([67])محمد محمد حسين / مقالة "فقه اللغة بين الأصالة والتغريب" مجلة كلية اللغة العربية بالرياض / عدد 11 سنة 1401هـ - 1981م جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ، مقالة عن فقه اللغة بين الأصالة والتغريب ص 213
([74]) الزركلي . ما رأيت وما سمعت ص 197 ص 198
-------------------------------
المصادر والمراجع:
- أحمد بن فارس (ت395هـ)
- الصاحبي/ تحقيق السيد أحمد صقر/ الناشر عيسى الحلبي/ 1977م
- الإشبيلي: ابن عصفور (ت 669هـ)
- الممتع ، تحقيق د. فخر الدين قباوة، ط الثالثة 1393هـ - 1973م . دار القلم - حلب .
- التنوخي المفضل بن محمد بن مسعر المعري ( ت 442هـ )
- تاريخ العلماء النحويين من البصريين والكوفيين وغيرهم تحقيق د. عبد الفتاح محمد الحلو 1401هـ . جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - الرياض .
- الجاحظ أبو عثمان عمرو بن بحر ( ت 255هـ )
- البخلاء . تحقيق طه الحاجري، ط السادسة، دار المعارف - مصر .
- البيان والتبيين . ، تحقيق عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي - مصر 1975م .
- ابن جني أبو الفتح عثمان ( ت 392هـ )
- الخصائص . تحقيق محمد علي النجار ، دار الهدى - بيروت ، صورة عن الطبعة المصرية .
- الحملاوي أحمد
- شذا العرف في فن الصرف . دار القلم - بيروت .
- الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي ( ت 463هـ )
- تاريخ بغداد . المكتبة السلفية بالمدينة المنورة ، صورة .
- الرافعي أحمد بن محمد بن علي المقري الفيومي ( ت 770هـ )
- المصباح المنير في غريب الشرح الكبير تصحيح مصطفى السقا ، الناشر مصطفى الحلبي - مصر .
- الزُّبيدي أبو بكر محمد بن الحسن الأندلسي ( ت 379هـ )
طبقات النحويين واللغويين. تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار المعارف - مصر 1973م
- الزركلي خير الدين
- ما رأيت وما سمعت . تقديم وتعليق عبد الرزاق كمال ، مكتبة المعارف - الطائف .
- سيبويه عمرو بن عثمان(ت180)
- الكتاب، تحقيق عبد السلام هارون/ ط ثالثة 1408 هـ - 1988 م مكتبة الخانجي, القاهرة.
- الطيب أبو الطيب اللغوي ( 351هـ )
- مراتب النحويين . تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار نهضة مصر - القاهرة .
- ماريو باي
- أسس علم اللغة، ترجمة د. أحمد مختار عمر، جامعة طرابلس، كلية التربية 1973م .
- المقدسي محمد بن أحمد
- أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم ، مكتبة خياط ، بيروت، صورت عن طبعة أوربا .
- الموسى نهاد
- قضية التحول إلى الفصحى في العالم العربي الحديث . دار الفكر - عمان ، ط أولى 1987م .
- الهمداني الحسن بن أحمد ( ت بعد سنة 344هـ )
- صفة جزيرة العرب . مركز الدراسات والبحوث اليمني - صنعاء ، ط ثالثة 1403هـ .
- اليماني عبد الباقي بن عبد المجيد ( ت 743هـ )
- إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين . تحقيق عبد المجيد دياب، مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية.
- يوهان فك
-العربية / دراسات في اللغة واللهجات والأساليب / ترجمة د. رمضان عبد التواب ، مكتبة الخانجي - مصر 1400هـ .