والمزاوجة بين النحو والمعنى ليسـت بدعًا ابتدعه باحثونا المحدثون ، إنَّما هو عودةٌ إلى ما قرَّره علماء النحو الأوائل من أهـمِّيَّة المعنى للنحو ، وارتباطهما على نحوٍ لا يمكن معه فصلهما إلاَّ بخسارةٍ بيِّنةٍ لكليهما .
ومن العبارات الجامعة في بيان أهمِّيَّة المعنى قول المبرِّد : ” فكلُّ ما صلح به المعنى فهو جيِّد ، وكلُّ ما فسـد به المعنى فهو مردود ” ، وهي عبارةٌ صريحةٌ في جعل المعنى معيارًا للحكم النحويِّ .
ومن الأصول الَّتي رفعت من قيمة المعنى قول ابن جنِّي :” وذلك أنَّك تجد في كـثيرٍ من المنثور والمنظوم الإعـراب والمعنى متجاذبَيْن ، هذا يدعوك إلى أمرٍ، وهذا يمنعك منه ، فمتى اعتورا كلامًا ما أمسكتَ بعروة المعنى ، وارتحتَ لتصحيح الإعراب ” ، وهو بهذه العبارة ” أمسكتَ بعروة المعنى ” يجعل المعنى هو الغاية الأولى ، وقد أرجع ابن جنِّي أكثر الآراء المختلفة والأقوال المسـتشنعة إلى مراعاة ظواهر التراكـيب دون البحث عن سـرِّ معانيها ومعاقد أغراضها ، وهذا ليس غريبًا منه ؛ فهو الَّذي أكَّـد ” غلبة المعنى للَّفظ وكون اللفظ خادمًا له” بناءً على علمه بلغة العرب الَّتي وجدها في بعض الأحيان ” تحمل على ألفاظها لمعانيها حتَّى تُفسِد الإعراب لصحَّة المعنى ” .
ولم يكن ابن جنِّي آخر من دعا إلى الاهتمام بالمعنى ، فهذا ابن هشام حين ذكر الجهات الَّتي يدخل الاعتراض على المعرب من جـهتها جعل أوَّلها : أن يُراعي ما يقتضيه ظاهر الصـناعة ولا يُراعي المعـنى ، وجعل أوَّل واجبٍ على المعرِب أن يفهم معـنى ما يُعـرِبه ، فكم زلَّت الأقدام بسـبب هذا الفصـل بين صنعة النحو والمعنى .
لا جدال إذن في أهمِّيَّة دراسـة النحو على أساس المعنى ؛ فهي ضرورةٌ فوق كلِّ ضرورة ، وهي تُكسِـب موضوعات النحو جِدَّةً وطرافة ، وتُبرز مزايا اللغة العربيَّة الدافقة بالحـيويَّة ، الحافلة بالمعاني الدقيقة الجميلة ، وتجعلنا نرى النحو على حقيقته ، ” على أنَّه تحصيل الخبرات المتنوِّعة بأساليب العربيَّة وتراكيبها ، لا على أنَّه التمييز بين صحَّة الكلام وخطئه فحسب ” .
وتكمن أهمِّيَّة المعنى في أنَّه قوام اللغة ، فاللغة أصـواتٌ ، إلاَّ إذا عبَّرت عن معنى فحينئذٍ تكون لغة ، ولا انفصـام بين الشـكل والمحتوى ؛ لأنَّه لا وجود لأيٍّ منهما بدون الآخـر ، وانتزاع أحدهما من الآخر قتلٌ للاثنين ؛ إذ لا يظلُّ شيءٌ من شـكل القصيدة ولا بنيتها العروضـيَّة ولا علاقاتها الإيقاعيَّة عندما تُفصَل عمَّا تحتويه من معنى .
والمعنى الَّذي تهتمُّ به الدراسـات اللغويَّة الحديثة تدعو الحاجة المنهـجيَّة إلى جعله ثلاثة معانٍ فرعيَّة :
أحدها : المعنى الوظيفيّ ، وهو وظيفة الجزيء التحليليّ في النظام أو في السـياق على حدٍّ سواء .
والثاني : المعنى المعجميّ للكـلمة ، وكـلاهما – الأوَّل والثاني – متعدِّدٌ ومحتملٌ خارج السياق ، وواحدٌ فقط في السياق .
والثالث : المعنى الاجتماعيّ ، أو معنى المقام ، وهو أشمل من سابقَيْه ويتَّصل بهما على طريق المكامنة ؛ لأنَّه يشملهما ليكون بهما وبالمقام معبِّرًا عن معنى السياق في إطار الحياة الاجتماعيَّة .
ومن أهمِّ الوسـائل الَّتي يقترحها الباحثون لدراسة النحو على أساس المعنى : الربط بينه وبين علم المعاني ، بل إنَّ الأستاذ الدكتور تمَّام حسَّان يستحسـن ” أن يكون علم المعاني قمَّة الدراسات النحويَّة أو فلسفتها إن صحَّ التعبير ” ، فبهذه الطريقة يصبح للنحو ( مضمون ) ، ويتجاوز الضعف الَّذي لحقه بسبب فصله عن المعنى ، وهو يتنبَّأ بأنَّ هذا الجمع والمزج بين معطيات علم النحو ومعطيات علم المعاني سوف يوصل إلى ” تنظيم دراسـة الفصـحى على أسـاسٍ جـديدٍ لم يخطـر ببال سـيبويه ولا ببال عبد القاهر ” .
إنَّ علوم العربيَّة يجب أن تتكـامل وتجتمع لتقوم بوظـائفها الحيويَّة كـأجزاء مؤثِّرة وفعَّالة في البناء الكلِّيِّ ، وخاصَّةً في دراسـة النصوص ؛ فالنصُّ لا يُكتشَف بوسائل متشرذمة ، والنظرة الضيِّقة إليه من منطلق تخصُّصٍ واحد تُضيعه ، وتفقده فعاليَّته وروحه ، فلا يبقى منه شيء .
هذا ، ويؤكِّـد النقَّاد على أهمِّيَّة اللغـويَّات الهائلة في دراسـة الأدب ، وعلى صلتها الوثيقة بالدراسـات الأسـلوبيَّة للنصوص ؛ فالنحـو من أهمِّ أدوات الفهم الأدبيّ ، وهو مدخلٌ صحيحٌ لفهم النصوص وتفسيرها ، وإذا كانت كلّ دراسة لغويَّة لها غايةٌ واحدةٌ هي فهم النصّ وتجليته وكشفه ، ” وكلّ عمل يجعل النصَّ نفسـه مجالاً له عملٌ مثمر ” فهذا يعني شـيئًا واحدًا هو أهمِّيَّة العـودة بالدرس النحويّ إلى النصوص اللغويَّة الحيَّة والعمل من خلالها على شـرح المعنى النحويِّ الدلاليِّ فيها ، فمن شأن هذا أن يعود بأعظم النتائج على النحو والأدب معًا ، وعلى متعلِّمي العربيَّة والراغبين فيها .
الشِّعر من الأنواع الأدبيَّة المتميِّزة ؛ لما له من نظامٍ لغويٍّ خاصٍّ داخل النظام اللغويِّ العامّ ، والشـاعر في سـبيل وصوله إلى تجربةٍ خاصَّةٍ مع اللغة تحمل بصْمَتَه فإنَّه يقوم بعددٍ من التجاوزات – أو العدول – عن المسـتوى المعياريّ – أو النموذجيّ – للاستعمال اللغويّ .
والشـعراء إنَّما يرتكبون هذه التجاوزات والمخالفات لأنَّهم يستخدمون القواعد النحويَّة بوصـفها نقطة انطلاق ، ينطلقون منها يوتِّـرونها ويحاولون عن طـريقها الحصول على أكثر الطرق فاعليَّةً وتأثيرًا لقول ما يريدون .
وما برح النحاة من مبدإ التصنيف في هذا العلم يردِّدون ما يُشعِر باختلاف لغة الشـعر في بعض مناحيها عن اللغة المألوفة في الكلام ، كقول سيبويه : ” اعلم أنَّه يجوز في الشِّعر ما لا يجوز في الكلام ” ، وقول ابن جنِّي : ” والشِّـعر موضع اضطرار وموقف اعتذار ، وكثيرًا ما يُحرَّف فيه الكلم عن أبنيته ، وتُحال فيه المُثُل عن أوضاع صـيغها لأجله ” ، وقول ابن عصـفور : ” اعلم أنَّ الشِّعر لمَّا كان موزونًا يخرجه الزيـادة فيه والنقـص منه عن صـحَّة الوزن ويحـيله عن طريق الشِّـعر ، أجازت العـرب فيه ما لا يجوز في الكـلام ، اضـطرُّوا إلى ذلك أو لم يضطرُّوا إليه ؛ لأنَّه موضعٌ أُلِفتْ فيه الضرائر ” .
في الشِّـعر إذن خروجٌ عن اللغة المألوفة في حـياة المتكلِّمين ، وفيه من الظواهر النحويَّة ما هو موافقٌ للقواعد وما هو مخـالفٌ لها ، وتبدو المخالفات فيه وكأنَّها تنبيهٌ مستمرٌّ متَّصلٌ للأذهان لاستكشاف دور الاسـتعمال المأنوس الَّذي يُفقِد إلفُه والاعتيادُ عليه الإحسـاسَ به والتنبُّهَ له ، واستكشـاف الظواهر وتفسـيرها وظيفة النحو ، فتحليل العمل الفنِّيّ في الدراسات الوصفيَّة والأسلوبيَّة ، والملاحظة ، والتصنيف ، وتحديد المميِّزات ، كلُّ هذا من النحو غير بعيد .
وأوَّل ما يهمُّ علم النحو في دراسـاته هو ذلك الارتباط بين المفردات والنظام النحويّ ، ومراعاة التفاعل بين الوظيفة النحويَّة والمفرد الَّذي يشـغلها هو ما سُمِّي في الحـديث ( المعنى النحـويّ الدلاليّ ) ، وعبَّر عنه – قديمًا – عبد القـاهر الجرجاني ﺒ( النظم ) ، وأفاض في شـرحه وبيان جـوانبه ، ومن عباراته في ذلك قوله : ” والألفاظ لا تفيد حتَّى تؤلَّف ضربًا خاصًّا من التأليف ، ويُعمَد بها إلى وجهٍ دون وجه من التركـيب والترتيب ” ، وقوله : ” واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علمًا لا يعترضه الشكُّ أنْ لا نظم في الكلم ولا ترتيب حتى يُعلَّق بعضها ببعض ويُبنى بعضها على بعض وتُجعل هذه بسبب من تلك ، هذا ما لا يجهله عاقل ولا يخفى على أحدٍ من الناس ” ، وقـوله : ” … لا يُتصـوَّر أن تعـرف للفظ موضعًا من غير أن تعرف معناه ، ولا أن تتوخَّى في الألفاظ من حـيث هي ألفاظ ترتيبًا ونظما ، وأنَّك تتوخَّى الترتيب في المعاني وتُعمل الفكر هناك ، فإذا تمَّ لك ذلك أتبعتها الألفاظ وقـفوت بها آثارها ، وأنَّك إذا فرغـت من ترتيب المعاني في نفسك لم تحتج إلى أن تسـتأنف فكرًا في ترتيب الألفاظ ، بل تجدها تترتَّب لك بحكم أنها خدمٌ للمعـاني وتابعةٌ لها ولاحقةٌ بها ، وأنَّ العلم بمواقع المعاني في النفس علمٌ بمواقع الألفاظ الدالَّة عليها في النطق ” .
وما زالت نظريَّة عبد القاهر تجد أصـداء لها حتَّى في غير النقد العربيّ ، فالناقد الفرنسيّ فاليري يؤكِّد على الشكل بمعنى الترتيب ، أي على الكـلمات وقـد اتَّخذت لها تـرتيبًا معيَّنًا ، ويقـول الناقد الإنجليزي أ. أ. ريتشاردز : ” إنَّ كمِّيَّة الألفاظ الَّتي في متناول الشاعر لا تحدِّد منزلته بين الشعراء ، وإنَّما الَّذي يحـدِّد مكانته الطريقة الَّتي يستخدم بها هذه الألفاظ ، فالمهمّ هو مدى إحساس الشاعر بطاقة الألفـاظ على تعديل بعضـها البعض ، وعلى تجميع تأثيراتها المنفصلة في العقـل واتِّخاذها موضعها المناسب في الاستجابة ككلّ ” .
كلُّ هذا غايته واحدة ، وهي بيان أنَّ المعنى مؤسَّـسٌ على أمرين : الاخـتيار الدقيق للكلمات ، ورصفها بعنايةٍ في نظامها النحويّ ، ولهذا فإنَّ وصف النظام التركيبيّ للشعر أو تحديد البناء النحويّ للجمل فيه لا يمكن أن يتمَّ على نحوٍ مفيد دون أن يرتبط بما تؤدِّيه التراكيب والجمل من دلالة ؛ لأنَّ عزل النظام النحويّ عن الشِّـعر لا معنى له ، فالتعاون الوثيق بين الشـكل والمعنى هو ” سرُّ الأسلوب الأكبر في الشِّـعر ” ، وإظهار صور هذا التعاون وفوائده هو مقصـد الدراسات النحويّة الدلاليّة .