المدارس النحوية - النشأة والخلاف في المفهوم والوجود

النشأة :
سيقودنا الحديث عن نشأة هذا المصطلح إلى الحديث عن مناهج النحويين واختلاف آرائهم في الأصول والفروع وهل يرقى هذا الاختلاف لتتميز منه مذاهب ومدارس لها حدود واضحة المعالم أم إن الخلاف يقف عند الفروع لا يتجاوزها فلا يستحق أن يطلع عليها مدرسة أم إنه أقل من ذلك فهو مذهب واحد وطريقة ؟ واحدة تختلف بعض فروعها اختلافا يسيرا داخل نطاق المنهج ولا يخرج عنه .

وقبل التفصيل في هذه المسائل ينبغي أن نعرف إجمالا أن موضوع التقسيم مر بثلاث مراحل هي :

الأولى : تسمية العلماء بأمصارهم وبلدانهم مما يوحي بوجود مذهب خاص بهم أو لا يوحي بذلك .
الثانية : تقسيم مناهجهم وطرقهم وتسميتها بـ " مذهب " وهي مرحلة تالية للمرحلة السابقة .
الثالثة : إطلاق اسم " مدرسة " على المذهب أو على أهل الأمصار وهذه التسمية أطلقت حديثا في الوقت المعاصر.
و بيان ذلك على النحو التالي :

أولا :
"يتضح لنا من عرض مناهج الذين أرخوا للنحو والنحاة من القدماء أنهم اتبعوا في ترتيبهم نسبتهم للبلد الذي ظهروا فيه وتعلموا نحوه ودرسوه أو درّسوه فهم بصريون وكوفيون وأهل بغداد"(1).
"وأول من يلقنا من القدماء محمد بن سلام الجمحي ( 139-231هـ) الذي قال :" وكان لأهل البصرة في العربية قدامة وبالنحو ولغات العرب والغريب عناية "(2).
وترجم لأبي الأسود الدؤلي وعدّه مؤسس علم العربية وليحيى بن يعمر ولعبدالله بن إسحاق الحضرمي ولأبي عمرو بن العلاء وانتهى بالخليل بن أحمد الفراهيدي ولم ينسبهم إلى مدرسة وإنما عدهم من أهل البصرة (3).
وأعقبه أبو محمد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ( 213 – 276 هـ ) الذي عقد في كتابه "المعارف" بحثا لرواة الشعر وأصحاب الغريب والنحو وترجم بإيجاز لمعظم من اشتهر بهذه العلوم من البصريين والكوفيين ... ويلاحظ في ترجمته لهم أنه لم يذكرهم مقسمين إلى بصريين وكوفيين معتمدا على شهرتهم ولم يسمهم بمذهب أو مدرسة (4).
وجاء بعدهما أبو الطيب عبدالواحد بن علي اللغوي الحلبي ( ت 351هـ ) وألف كتاب "مراتب النحويين" ورتبه حسب الزمن مبتدئا بالبصريين لأن النحو في البصرة كان أقدم نشوءا منه في الكوفة ... وكانت أول إشارة إلى الكوفة عند ترجمته لأبي جعفر الرؤاسي حيث قال : وممن أخذ عن أبي عمرو أبو جعفر الرؤاسي عالم الكوفة (5).
والدليل على أنهم كانوا ينسبون النحاة إلى البلد ويذكرونه في ترجمتهم بحسب البلدان أن أبا الطيب ختم كتابه بعد الانتهاء من ذكر البصريين والكوفيين بقوله :" ولا علم للعرب إلا في هاتين المدينتين "(6).

ثانيا :
كان أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي ( ت 379هـ ) أول من استخدم كلمة " مذهب " عندما ترجم لأصحاب ثعلب فقال عن أبي موسى الحامض : " كان بارعا في اللغة والنحو على مذهب الكوفيين "(7)
"وقال عن ابن كيسان وكان بصريا كوفيا يحفظ القولين ويعرف المذهبين وكان أخذ عن ثعلب والمبرد وكان ميله إلى مذهب البصريين أكثر ... وكان أبو بكر ابن الأنباري شديد التعصب على ابن كيسان والتنقص له وكان يقول : خلط فلم يضبط مذهب الكوفيين ولا مذهب البصريين"(8).

ومن هنا يتضح أن الزبيدي كان أول من قسم النحاة إلى مجموعات بحسب البلدان التي عرفوا بها وكان أول من استخدم عبارات "مذهب الكوفيين" و "مذهب البصريين" و "المذهبين" ويريد بذلك أن النحو متابع
لآراء نحاة الكوفة أو لآراء نحاة البصرة أو لنحاة المدينتين(9).
وجاء بعده ابن النديم· (ت 385 هـ ) واتبع التقسيم نفسه إلا أنه سمى نحاة بغداد " من خلط المذهبين " (10).
وبعدهما جاء أبو البركات الأنباري ( ت 577 هـ ) فقد اتبع في كتابه "نزهة الألباء في طبقات الأدباء" التسلسل الزمني ولم يذكر كلمة مذهب إلى مع البغداديين في الغالب كقوله : " وكان يخلط المذهبين " أو " وكان قيما بمذهب البصريين والكوفيين "(11).

ثالثا :
استحسن الباحثون المحدثون مصطلح "المدرسة" بمعنى المذهب النحوي وقد كانوا في ذلك متأثرين بالغربيين الذين شاع عندهم هذا المصطلح بهذا المفهوم ونجاحه في الدراسات الأدبية فكان عندهم المدرسة الكلاسيكية في الأدب والفن والمدرسة الرومانتيكية والمدرسة الرمزية(12).
وكان من أوائل من استخدم هذا المصطلح "جوتولد فايل" الذي سماهما المدرسة البصرية والمدرسة الكوفية وتبعه في ذلك "بروكلمان" الذي قال : " وقد قسم علماء العربية مذاهب النحو إلى ثلاث مدارس : البصريين والكوفيين ومن مزجوا المذهبين من علماء بغداد "(13).
واستخدم المحدثون الكلمة نفسها ولعل الدكتور مهدي المخزومي أول من تبنى هذه التسمية فسمى أحد كتبه "مدرسة الكوفة ومنهجها في دراسة اللغة والنحو" وألف الدكتور شوقي ضيف كتابا سماه "المدارس النحوية" وألف الدكتور عبدالرحمن السيد كتابا سماه "مدرسة البصرة النحوية (14).

مفهوم المذهب والمدرسة :
1 - مفهوم المذهب النحوي :
المذهب مصطلح فقهي في بداية نشأته فيقال مذهب الإمام الشافعي أو الإمام مالك أو مذهب شيخنا ... وانتقل إلى اللغة حيث أصبح يعبر عن مجموعة مبادئ وآراء متصلة ومنسقة لمفكر ما أو لاتجاه ما .
وفي التعريف النحوي الدقيق هو : طائفة من أولي العلم الواحد تعتنق مذهبا نحويا وتقول برأي نحوي مشترك وتجمعهم وحدة أصوله ومناهج البحث فيه وإن تعددت أوطانهم واختلفت أجناسهم ومهما تنوعت شخصياتهم وتباعدت آراؤهم في الفروع (15).

2 - مفهوم المدرسة النحوية :
بعد الحديث عن تطور مسمى المناهج النحوية وطرق النحويين لعل الوقت قد حان للحديث عن مفهوم المدرسة عند المتأخرين .
فقد عرف المعجم الوسيط مصطلح المدرسة - بهذا المفهوم الجديد - بقوله :" المدرسة جماعة من الفلاسفة والمفكرين أو الباحثين تعتنق مذهبا معينا أو تقول برأي مشترك "(16).
وعند المتأخرين تعريفات كثيرة للمدرسة وكلها تدور حول هذا المعنى وسنستعرض فيما يلي بعضها .
عرف "جوتولد فايل" المدرس بأنها : "الاشتراك في وجهة النظر الذي يؤلف الجبهة العلمية ويربط العلماء بعضهم ببعض على رأي واحد "(17).
والأستاذ على النجدي ناصف يعرف المدرسة بقوله :" المدرسة طائفة من أولي العلم الواحد أو الفن الواحد تجمعهم وحدة أصوله ومناهج البحث فيه وإن تعددت أوطانهم واختلفت أجناسهم ومهما تنوعت شخصياتهم العلمية وتباعدت آراؤهم في الفروع والتفاصيل ".
وعرفها الدكتور أحمد مكي الأنصاري بقوله :" اتجاه له خصائص مميزة ينادي بها فرد أو جماعة من الناس ثم ينادي بها آخرون ".
على حين يعرفها الدكتور مهدي الخزمومي بقوله :" فليست المدرسة إلا أستاذا مؤثرا وتلاميذ متأثرين وقد اجتمعوا على تحقيق غرض موحد نهجوا للوصول إليه منهاجا "(18).
قال ذلك في مدرسة الكوفة عند كلامه على الكسائي إذ قال :" إن الكسائي بمنهاجه وأساليب دراسته مدرسة لها خصائصها ومناهجها فليست المدرسة إلا ..." ثم ساق التعريف .
وقريب من هذا التعريف ما انتهى إليه الدكتور أحمد مختار عمر وهو قوله :" وجود جماعة من النحاة يصل بينهم رابط من وحدة الفكر والمنهج في دراسة النحو ولابد أن يكون هناك الرائد الذي يرسم الخطة ويحدد المنهج والتابعون أو المريدون الذين يعتنقون خطاه ويتبنون منهجه ويعملون على تطويره والدفاع عنه (19).
وقد أخذ محمد حسين آل ياسين في كتاب "الدراسات اللغوية" بتعريف "جوتولد فايل" حيث يقول:" المدرسة في المصطلح العلمي لفظ يطلع على جماعة من الدارسين تشترك في وجهة النظر ويكون لها نهج خاص يؤلف منها جبهة علمية ويربط أفرادها برابط الرأي الموحد "(20).
وقد حاول الدكتور صالح بلعيد الجمع بين التعريفات السابقة فقال إن المدرسة :" كلمة معاصرة تعني الجماعة الذي يشكلون درسا واحدا في بيئة معينة أو بيئات معينة متعددة ويجمعهم نهج واحد أو الاشتراك في وجهة النظر التي تؤلف جبهة علمية واحدة ووجود الجماعة الذي يصل بينهم رابط من وحدة الفكر والمنهج ويكون اتفاقهم على الأصول لا الفروع وعلى رأس المدرسة من يرسم الخطة ويحدد والمنهج وهو الشيخ أو الرئيس والمريدون الذي يعتنقون خطاه ويعملون على تطويرها الدفاع عنه "(21).
ونلاحظ أن هذا إلى التوصيف أقرب منه إلى التعريف حيث جمع ما في التعريفات الأخرى وضمنها هذا التوصيف .
ونخلص مما سبق إلى أن هذه التعريفات تتفق على وجود جماعة من الناس يعتنقون منهجا محددا ذا خصائص ومميزات يؤمنون به ويدافعون عنه وإن لم تجمعهم وحدة جغرافية ولا يشترط الاتفاق على الفروع بل يكفي اتفاقهم على أصول المنهج .
والتعريفات السابقة بهذا المعنى أو قريبة منه جدا ، ولذا نلاحظ أنها بدأت بـ :" جماعة " أو " طائفة " وبدأت أحيانا بـ :" الاشتراك في وجهة نظر " أو " اتجاه له خصائص " وهما – الجماعة والمنهج – الركنان الأساسيان في التعريفات السابقة .
هل توجد مذاهب نحوية أو مدارس نحوية ؟
أولا : المذاهب النحوية
جرى الأقدمون على أن هناك مذهبا في النحو يسمى المذهب البصري ومذهبا آخر في النحو يسمى المذهب الكوفي كما ذكرت بعض مؤلفات الأقدمين أن هناك نحاة مصريين ونحاة أندلسيين (22).

ثانيا : المدارس النحوية
تعددت آراء الباحثين المحدثين في المدارس النحوية بين الإثبات والرفض على ما يأتي :

الرأي الأول :
أنه لا توجد مدارس نحوية إطلاقا وإنما هي تجمعات جغرافية ولا يوجد مدارس نحوية تتميز كل منها بأسلوبها الخاص ومنهاجها الذاتي وتطبق هذه المجموعات أصولا واحدة وإن اختلفت في الفروع وممن قال بهذا الرأي الأستاذ سعيد الأفغاني والأستاذ على أبو المكارم (23).

الرأي الثاني :
أنه لا توجد إلا مدرسة نحوية واحدة هي مدرسة البصرة فقط وأنكر هذا الفريق وجود مدرسة الكوفة وممن قال بهذا الرأي الأستاذ الدكتور إبراهيم السامرائي وقد سبقه إلى القول بهذا "جوتولد فايل" (24).

الرأي الثالث :
أثبت فريق ثالث من النحويين وجود مدرستين بصرية وكوفية وتردد في القبول بوجود مدرسة بغدادية ويمثل هذا القول الدكتور مهدي المخزومي ، وقد تابعوا في ذلك الزبيدي في طبقاته حيث نظم أفراد المدرسة البغدادية مع رجال المدرسة البصرية والكوفية على حسب اتجاهه وميوله(25).
وما قيل في المدرسة البغدادية ينطبق على بقية المدارس كالأندلسية والمصرية.

الترجيح بين الآراء :
إذا دققنا النظر في الأوصاف التي يطلقها القدماء على الدراسات النحوية غير البصرية والكوفية وجدناها لا تخرج عن وصف هذه الدراسات أو الدارسين لأنهم خلطوا المذهبين أو النحوين أو مزجوا بينهما وهذا يدعونا إلى أنه ليس هناك خلاف بين هذا النحو والنحوين الآخرين خلافا لما نراه من الفروق بين منهجي البصرة والكوفة .
وهذا ينتهي بنا إلى القول بأنه ليس في النحو العربي إلا مدرستان أو مذهبان فقط هما البصرة والكوفة (26).
------------
(1)· المدارس النحوية د. خديجة الحديثي ص / 13 بتصرف .
(2)· نقلته عن : طبقات فحول الشعراء 1 / 12
(3)· المدارس النحوية د. خديجة الحديثي· ص / 7 بتصرف .
(4)· المرجع السابق· ص / 8
(5)· المرجع السابق· ص / 8
(6)· المرجع السابق· ص / 10
(7)· نقلته عنه : طبقات النحويين واللغويين· ص / 170
(8)· نلقته عن : طبقات النحويين واللغويين· ص / 170-171
(9)· المدارس النحوية د. خديجة الحديثي· ص / 11
(10)· المرجع السابق· ص / 11
(11)· المرجع السابق· ص / 12
(12)· مراحل تطور الدرس النحوي د. عبدالله الخثران· ص / 148
(13)· نقلته عن : تاريخ الأدب العربي· 2 / 124 – 125
(14)· المدارس النحوية د. خديجة الحديثي· ص / 13
(15)· في أصول النحو· د. صالح بلعيد· ص / 144
(16)· مراحل تطور الدرس النحوي· د. عبدالله الخثران· ص / 148
(17) المدارس النحوية· د. خديجة الحديثي· ص / 14
(18)· مراحل تطور الدرس النحوي· د. عبدالله الخثران· ص / 149
(19)· المدارس النحوية· د. خديجة الحديثي· ص / 14
(20)· مراحل تطور الدرس النحوي د. عبدالله الخثران· ص / 149
(21)· المرجع السابق· ص / 149 – 150
(22)· في أصول النحو· د. صالح بلعيد· ص / 145
(23)· مراحل تطور الدرس النحوي· د. عبدالله الخثران· ص / 151 نقله عن طبقات الزبيدي· ص / 213 – 253
(24)· أنظر مراحل تطور الدرس النحوي د.عبدالله الخثران والمدارس النحوي د. خديجة الحديثي .
(25)· المرجعان السابقان والمدارس النحوية أسطورة وواقع د. إبراهيم السامرائي ص / 139 – 141
(26)· المدارس النحوية· د. خديجة الحديثي· ص / 16
------------
أحمد بن محمد مجرشي
طالب ماجستير قسم النحو والصرف وفقه اللغة

Off-White Shoes

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: