سؤال ما النقد سؤال قديم، بل هو سؤال كل فترة تاريخية كبرى لارتباطه بثقافتها وأهم اتجاهاتها الاجتماعية والذوقية، ومستوى ما أصاب هذه الفترة أو تلك من تطور علمي وعقلي ترك صداه سلبا أو إيجابا على طبقة أو جماعة المبدعين من الشعراء والكتاب والفنانين عامة وعلى جماعة المتلقين بمقدار اتساعها وتباينها من عصر إلى عصر في ملامح البناء الاجتماعي والذوقي والاقتصادي، وما يتركه كل ذلك من تأثير في مفهوم الأدب أو الفن من عصر إلى عصر.
ومع قدم السؤال وصيرورته، وما أصابه من تحولات هي نفسها التحولات التي تمثل تاريخ النقد الأدبي في العالم وليس في منطقة بعينها أو حضارة معينة كحضارتنا العربية الإسلامية، فإن النقد الأدبي تبقى فيه عناصر اتصال ممتدة من زمن إلى زمن تتبلور حول النص الأدبي وما يكتنفه من تباين الأساليب، وما ينشأ حوله من إشكالات أخلاقية أو فكرية تهدف إلى البحث عن القيمة. ويدخل في هذه العناصر الممتدة ما نسميه بالذوق الذي هو أساس النقد. وكلمة الذوق تنصرف إلى الذوق المدرب المثقف لا الذوق العفوي الغفل
وبناء على ما تقدم يتاح لنا أن نقول إن النقد الأدبي هو علم دراسة النص الأدبي الذي يصيبه دائما تغير جوهري مرده شبكة العلاقات المعرفية التي تخص كل مبدع، وشبكة معارف كل عصرأو فترة تاريخية ومدى تفاعلها مع ما سبقها من فترات. وعلى هذا فالنقد نشاط عقلي إنساني يتبلور في القدرة على تحليل النص الأدبي ومحاولة الحكم على قيمته، وهو معنى لابد له من أن يتركز على قدر من التذوق الفطري للجمال الفني بصفة عامة وللجمال اللغوي بصفة خاصة، مع تنمية هذا القدر الفطري بألوان من المعرفة تتعدد درجاتها تختلف من عصر إلى عصر وصقله من خلال الدربة والمران طموحا في النهاية إلى الرقي بمستوى المنتج الأدبي عبر الحوار الفردي والجماعي.
والنقد الأدبي على هذا النحو ليس نشاطا علميا مغلقا في وجه المعارف الأخرى. فإذا كان النص الأدبي أسبق ظهورا من التقد، فإن النص النقدي ليس تابعا طفيليا للأدب بكل ألوانه ، والعلاقة بين الطرفين لم تتبلور إلا في مراحل متأخرة نسبيا إذ ظل النقد مرتبطا بالأدب ومرد ذلك أن ازدهار النقد وتطوره واستقلاله يحتاج إلى بنية تتطور فيها العلوم العقلية مثل الفلسفة وعلوم اللغة ومناهج البحث والمنطق، وتتطور فيها نظم الحياة الاجتماعية وأنماط الذوق ولا يحتاج الأدب إلى كل ذلك حتى ينمو ويتطور ويزدهر. فالعرب في جاهليتهم كانوا في معظمهم مترحلين، لاينعمون بحياة اجتماعية مستقرة ولم تزدهر عندهم العلوم ومناهجها ومع ذلك كان أدبهم في تلك الفترة ناضجا وقويا.
غير أننا نلحظ علاقة أخرى بين بين النقد والأدب في هذه الفترة التي لم يستقل فيها النقد عن الأدب. فأي إنتاج أدبي عظيم، قبل رقي النقد الأدبي وازدهاره، يرجع إلى الملكة النقدية التي يفترض وجودها عند الكبار من الشعراء في أدبنا أو أدب غيرنا. مثل أوس بن حجر وزهير بن أبي سلمى في العربية قبل الإسلام، ذلك أن الشاعر حين يقدم على تعديل إنتاجه أو حذف جزء منه إنما يمارس عملية نقد ذاتي. فالنابغة كان يمارس النقد الأدبي على نحو ذاتي، ونقلت روايات دلت على أن النقد الأدبي لازم الخلق الأدبي منذ القدم. وفي غير العربية، نجد الشاعر اليوناني الساخر(أريستوفان) قبل الميلاد في مسرحية (الضفادع) يوازن نقديا بين الشاعرين المسرحيين(إيسخيلوس)و(يوربيدس)
وقد استعان النقد الأدبي بالعلوم الأخرى لتحقيق التميز والاستقلال وكانت الفلسفة في مقدمة هذه العلوم ووجدنا أول صياغة لنظرية نقدية هي المحاكاة صاغها أرسطو ظل معتمدا على الفلسفة حتى مطلع العصور الحديثة ونضوج علوم اللغة بنضوج العلوم الاجتماعية مثل التاريخ والاجتماع وعلم النفس، ومازالت تحولات النقد الأدبي لم تنتهسؤال