سبحان الذي علَّمنا منطق الألحان، وأنعم علينا بمتعة السماع...وبعد، فما زال للموسيقا سحرٌ خاص يفتن، ونشوة غامضة تننتشي لأجلها الروح، ولقد مرَّ حديثُ الموشحات الأندلسية على كثيرٍ منّا في أثناء دراسة الأدب العربي، وما بقي في النفس من ذلك الحديث خلاصة : أن الموشحات تجديد شعري وغنائي وموسيقي ابتدعه أهل الأندلس في القرن الرابع الهجري استجابة لظروف خاصة بهم زمانياً ومكانياً. وقد وجدنا أصداء هذا التجديد الأندلسي العبقري تتردد في المشرق العربي، حين انتقل ذلك الفن إلى هناك، وأصبح مَعْلَمةً لا تُنكر في صرح الموسيقا العربية.
لكن الذي ما فتئ يخطر في البال منذ أقدمتُ – بحكم المهنة- على تدريس بعض الموشحات الأندلسية هو: لماذا لا نُدَرِّسُ تلك الموشحات مسموعة؟! فماذا تنفعنا تلك الصفحات الملأى بأنواع الموشحات وأقسامها وأوزانـها...وغير ذلك من قضايا، إزاء دقائق معدودة نقضيها في الاستماع إلى الموشحات مغنّاةٍ بصوت عذب ترافقه الألحان الأندلسية المتميزة الإيقاعات؟
كنتُ أنفق حصة كاملة أقتطعها من جدول زمني يكاد لا يكفي لتدريس منهج اللغة العربية على النحو المطلوب؛ لأجعل طلبتي يستمعون - قبل الشروع في تدريس موضوع الموشحات- إلى بضع مقطوعات موسيقية عثرتُ بها على إحدى المحطات الإذاعية العربية التي تبث من باريس، وقُدِّمت في الإذاعة على أنها نماذج مستوحاة من موسيقا زرياب الأندلسية، فقمتُ بتسجيلها وتقديمها للطلبة.
ولم أفهم وأنا أخوض التجربة كيف أن أساتذتنا، على ما لهم في قلوبنا من منـزلة واحترام، كيف قاموا بتدريسنا موضوعاً كمثل الموشحات الأندلسية دون أن يفكر أحدهم في أن يُسْمِعنا شيئاً من الموشحات والأزجال الأندلسية المؤداة على نحوٍ مخصوص على أنغام الموسيقا الأندلسية؟؟ ربما يكون ذلك من باب ركونهم إلى ما شاع بين أهل المشرق وعرفوه مما غَـنَّت فيروز من ألحان الرحابنة وغنّاه غيرها من المطربين من الموشحات الأندلسية، وأشهرها "يا زمان الوصل بالأندلس".
وبحكم الإقامة في المشرق العربي لم أزل بعيدة عن معرفة التراث الأندلسي الغنائي الذي ما زال حياً، والذي يحافظ عليه حتى اليوم عشاقُ الطرب الأندلسي في بلاد المغرب، ويتناقلونه جيلاً فجيلا، إلى أن حانت فرصة معرفة هذا الفن على نحو آخر حين أتاح تقدم وسائل الاتصال والإعلام -كالقنوات الفضائية مثلاً- في مشارق الأرض ومغاربها أمام الجمهور عرض الثقافات والفنون المتنوعة للأمم والشعوب، كان منها عرض مجالس غنائية للطرب الأندلسي على التلفزة المغربية تحديداً، وقد أثارت هذه المجالس إعجابي وكانت فاتحة عهد جديد لي مع الموشحات والأزجال الأندلسية، جعلتْني أراها كما لو أنني أسمع بها للمرة الأولى.
وازداد تعلقي بهذا الفن حين عَرَضت الوسائطُ الأخرى –كالإنترنت- تلك المجالسَ عرضاً جديداً لما كنا نسمع به، ولما كنا نقرؤه وندرسه مما يسمى الموشحات الأندلسية، وكانت شيئاً غير ما ألِفَه أهلُ المشرق من موشحات أندلسية أدّاها المغنّون المشارقة؛ فالموشحات المغنّاة في المشرق كانت توقَّع على أنغام وألحان لا تشبه تلك الألحان التي ابتدعها الأندلسيون خصيصا لتلك الموشحات، ولم تتشابه الإيقاعات المشرقية في أداء هذا الفن مع الموسيقا الأندلسية بإيقاعاتها وألحانها وآلاتها ومجالسها...التي كان قد وضع أسسها الأولى عبقري الأندلس زرياب - من أهل القرن الثالث الهجري- الذي طبقت شهرته الآفاق، وما زال تجديده الموسيقي هو سر هذا الفن الفريد؛ فقد "أورث [زرياب] بالأندلس من صناعة الغناء ما تناقلوه إلى أزمان ملوك الطوائف، وطما منها بإشبيلية بحر زاخر.."، على حد قول ابن خلدون في (فصل صناعة الغناء).
فالموشحات المؤداة في المشرق تختلف اختلافاً واضحاً عما يؤدَّى في المغرب في هذا الباب؛ إذ تمتاز مجالس الطرب الأندلسي في المغرب بأن الموشحات فيها تؤدَّى بمرافقة الألحان المحفوظة والمتوارثة لدى أجيال أحفاد الأندلسيين ومن سار على خطاهم في حب هذا الفن، وهي تمتاز كذلك بأجواء خاصة ليس لأهل المشرق عهد بها: فأجواء مجالس الطرب الأندلسي خاصةٌ ومميزة، ابتداء بالمكان وليس انتهاء بأدق التفاصيل لدى المؤدّين والمؤديات من المغنين والعازفين والمردّدين جميعا: إذ يظهر أفراد الجوق (المجموعة الغنائية) بملابسهم المغربية التقليدية: الجلابة والطربوش والبلغة (الخُفّ) للرجال، و(التكشيطة) والقفطان الحريري للسيدات، وهذا تقليد متّبع حتى اليوم لكون هذا النوع من الغناء ارتبط سابقاً بأهل التصوف الذين كان منهم بعض العلماء والفقهاء والأدباء.. مـمّن تعاطوا غناء الموشحات الدينية، فظلّ طابع الوقار يلفّ مظهر مَنْ يغني الموشحات والأزجال الأندلسية حتى اليوم، وإن كانت كلماتها أحياناً بعيدة بعداً كبيراً عن مظهر مَنْ يغنّـيها!
ويجلس الجوق الغنائي في قاعة فسيحة تزدان فضاءاتها بالزخارف الفنية ذات الطابع الأندلسي الرفيع، وتمتد أمامهم السجاجيد الحمراء ذات النقوش الخاصة، المنتشرة في المجالس التقليدية المغربية، وربما تترقرق المياه في نافورة واسعة تناثرت على صفحاتها أوراق الورد. ويجلس أعضاء الجوق الغنائي جميعاً على مقاعد تُصّفُّ على نحوٍ معين، يحمل كلٌّ منهم آلته الموسيقية بيديه، الآلات الوترية منها والإيقاعية، ومنها: الكمان الذي يوضع على الفخذ على هيئة مخصوصة لا على الكتف، مخالفين بذلك ما اعتاده أهل المشرق .
وتستوقف عينَ الملاحِظ لهذه المجالس أن أعضاء الجوق يكونون عادة متفاوتين في أعمارهم: فتجد فيهم الطفل والشاب والرجل والكهل والعجوز والفتاة المليحة والمرأة الحسناء والمرأة العجوز، يجمعهم - على اختلاف مقاديرهم من الحياة- حبُّ الموسيقا الأندلسية وروعة الموشحات والأزجال.
كما أن جمهور حفلات الطرب الأندلسي التي يبثها التلفاز يستحق هو الآخر وقفة؛ فالناظر إلى جمهور تلك المجالس الطربية يلمس بعينيه مدى تفاعل هؤلاء مع تلك النغمات الرائعات والأصوات العذبة الشجية والأداء الساحر الذي يأخذ بالألباب، يرددون على قلب رجل واحد كلمات الموشحات المغناة على طولها بلا كلل، حتى لتكاد قلوبهم تطير من نشوة الطرب، فترى عياناً ما كنتَ تقرؤه في الصفحات الكثيرات عن شيوع مجالس الطرب في بلاد الأندلس واعتياد الناس ارتيادها، ودَوْر ذلك في ازدهار فن الموشح والزجل الأندلسي وانتشارهما على كل صعيد بين الخاصة والعامة؛ كالقصة المعروفة التي تُروى عن ابن تِيفَلْويت "ملك سرقسطة" وممدوح الفيلسوف وصاحب التلاحين ابن باجة، إذ حضر ابنُ باجة مجلسَ ابن تِيفَلْوِيت، فغنَّت إحدى قيناته موشحة ابن باجة:
"جرر الذيل أيما جرِّ وصل الشكر منك بالشكر"
فطرب الممدوح لذلك لما ختمها الشاعر بقوله :
"عقد الله راية النصر لأمير العلا أبي بكر".
فلما طرق ذلك التلحين سمْعَ ابن تيفلويت صاح :واطرباه، وشقَّ ثيابه، وقال: ما أحسن ما بدأت وما ختمت، وحلفَ بالأَيْمان المغلَّظة لا يمشي ابن باجة إلى داره إلا على الذهب. فخاف الحكيم ابن باجة سوء العاقبة فاحتال بأن جعل ذهباً في نعله ومشى عليه.
وتجدر الإشارة إلى أن بعض الناس في عصرنا الحديث ربما فاتته لسبب أو لآخر فرصة أن يشنف آذانه بأصوات المغنين في مجلس حقيقي، ليس عن طريق الاستماع إلى تسجيلات إذاعية كانت أو تلفازية، فللأصوات الغنائية وللأنغام الموسيقية مذاق ساحر إذا سمعتْها الأذنُ دون مكبرات الصوت أو غيرها من أدوات التوصيل الإذاعي أو الفضائي، وهي تُحدِث في النفس أثراً يفوق بمرات ما يُحدِثه الاستماع إلى الأنغام والألحان والأصوات نفسها بالوسائط الإعلامية المتنوعة.
وقد يكون هذا من جملة الأسباب التي تقف وراء تلك القصص التي رُويت عن أهل الأندلس وعن مبلغ تأثرهم بالموشحات الأندلسية حين تُغَنَّى، وهي التي ما نشأت إلا لحاجةٍ غنائية اقتضتْها ظروف الغناء في الأندلس وأجوائه والحاجة إلى تنويع القوافي والألحان والأوزان..وهو الجانب الأحرى أن ينال الاهتمام حين تدرَّس الموشحات الأندلسية، لذا فلا مناص من دراسة الموشحات والأزجال الأندلسية مسموعة لا مقروءة فقط، لأجل الوقوف على جماليات هذا الفن الفريد، وتنمية الذائقة الموسيقية، وتحقيق المتعة مجسَّمة في ألحان وكلمات وإيقاعات تمتلك الوجدان. فقد أسرف الباحثون في دراستهم الموشحات الأندلسية على أنه فن شعري حين حاولوا أن يُجروا عليه ما يجري على الشعر الموزون من ضوابط، فما نفع ذلك تماماً في حسم مسائل عديدة حول ذلك الفن ما زالت محل خلاف بين المهتمين، وربما كان للمسألة وجه آخر لو أنهم أعاروا مسألة غناء الموشحات وألحانها قسطاً من عنايتهم، فالموشح ببساطة أغنية، والأغاني تُسمع بالدرجة الأولى ولا تُقرَأ فقط!
ومما يعزز هذا أن ابن سناء المُلْك - من أهل القرن السابع الهجري - الشاعر المصري الذي أخذت منه الموشحات كل مأخذ وملكت عليه حياته وجنانه، الذي أقدم رائداً على تقعيد هذا الفن حين أهمل ذكرَه الأندلسيون، فوضع كتابه "دار الطراز في عمل الموشحات"، إن ابن سناء هذا -وإن لم يكن قد صرَّح أو اعترف في كتابه أنه حضر مجالس الموشحات الأندلسية التي هام بها، إلا أن الناظر في "دار الطراز" وفي محاولته تقعيد هذا الفن ومحاكاته- لا يمكن إلا أن يقول إن ابن سناء قد سمع الموشحات الأندلسية مغناة، وليس فقط أنه قرأها في دواوين أصحابها وفي الكتب التي أتت على ذكرها. فقد أُغرم ابنُ سناء بهذا الفن حين كان صغيراً؛ إذ يقول في مقدمة كتابه: "...فكنتُ في طليعة العمر وفي رعيل السن قد هِـمْتُ بها [الموشحات] عشقاً، وشُغِفْتُ بها حباً، وصاحَـبْـتُها سَماعاً، وعاشرتُها حفظاً...ولبثتُ فيها من عمري سنين..". (ص30).
ولو قُدِّر لابن سناء أن يعيش في عصرنا هذا، عصر التسجيلات المتعددة الوسائط مرئية ومسموعة، لكان استمتع بسماع الموشحات في كل حين؛ وذلك لأننا نشعر بالحسرة في كلماته حين اعتذر لقارئه عن أي نقص قد يصيب كتابه : "...فاعذر أخاك فإنه لم يولد بالأندلس، ولا نشأ بالمغرب، ولا سكَنَ إشبيلية، ولا أرسى على مرسية، ولا عبر على مكناسة، ولا سمع الأرغن....ولا وجد شيخاً أخذ عنه هذا العلم، ولا مصنَّفاً تعلَّم منه هذا الفن..." (ص53). وهذا يعني أن الموشحات الأندلسية خُلقت لتُغَنّى أولاً، على الرغم من أن إنشاءها يأتي قبل غنائها.
ويعزز هذا أيضاً أن ابن بشري الأغرناطي - من أهل القرن الثامن الهجري- الذي جمع مجموعة موشحات أندلسية تناهز ثلاثمائة موشح، حفظتْها لنا يد الزمان في كتابه "عُدَّة الجليس ومؤانسة الوزير والرئيس"، قال في الخطبة القصيرة التي صدَّر بها كتابه عندما تحدث عن دوافعه لجمع الموشحات الأندلسية: "...فإني لم تزل تتوق هِـمَّتي وتستدعيني على طول المدى عزيمتي إلى تصنيفِ تأليفٍ يشتمل على ما استعذَبَـتْه المسامع، وإنْ أرهف الأفئدة وأسالَ المدامع، من مختار ما سمحتْ به قرائحُ أرباب الأذواق من مهذِّبي الطِّباع الطيّـبـي الأخلاق، من التوشيحات التي تصبو لها الألباب، وتفتح على باب السرور كل باب، وتستلب من أعماق الأفئدة كلَّ همٍّ كمَن، وتصقل عنها كلَّ صدى [كذا] استحكم أو درن، بلفظٍ أوْقَعَ في الآذان من الزلال البارد للظمآن..."، بما لا يدع مجالاً للارتياب في أن ارتباط الموشح بالموسيقا والألحان وثيق جداً، وأن وظيفة الموشح الأساسية التي خُلِق من أجلها هي الغناء والسماع، فالموشح أغنية قبل أن يكون شيئاً آخر.
--------------------
منشورة في الملحق الثقافي جريدة الدستور (الأردن) يوم الجمعة 23/4/2010 صفحة· 3
·د. رشأ الخطيب /· أبوظبي