يحاول هذا التقرير أن يقف على جانب من جوانب التفكير النحويّ عند النحاة العرب , وهو ملامح التبويب في مؤلفات النحاة . وقد اخترتُ كتاب الجمُـَل للزجاجيّ (ت 340 ه) أنموذجاً ؛فهو يمثل مرحلة متوسطة بين النحاة , فقد عاش في القرن الرابع الهجريّ.
ولكي يخرج التقرير بتصوّر واضح حول منهج التبويب في كتاب الجُمَل – وهو بدوره يمثل مرحلة من مراحل التأليف – عمدتُ إلى مقارنته بكتاب المُفَصّل للزمخشريّ (ت 538 ه) .
هذا,وقد ضمّ الكتاب سبعة وأربعين ومائة باب ,تناول أبواب النحو, والصرف , والأصوات , والتأريخ , والضرورة الشعريّة . فهو إذاً كتاب جامع لمعظم علوم اللغة, إلى جانب ذلك يمثل منهجاً جديداً في التأليف , ينئ عن التعليلات المنطقية , والأمثلة الجافة , والعبارات المعقدة .
وقد ظهر لي – وأنا أنظر في أبواب الكتاب – افتقار الكتاب إلى خطّة في تبويب الموضوعات ؛ إذ لا تسير الأبواب في تسلسل منطقي . بل نجد اختلاط الموضوعات النحويّة , والصرفيّة , والأصواتيّة بعضها ببعض . فمثلاً يتحدث في الباب الأول عن الإعراب وعلامات الإعراب , ثمّ ينتقل إلى الحديث في الباب الرابع عن التثنية والجمع , وهو باب صرفي , ثم يعود إلى الحديث عن التوابع ,ثمّ ينتقل إلى الأفعال المتعدية وغير المتعديّة .. وهكذا دواليك .
ويُلمَح هذا التشتت ليس بين الموضوعات العامّة فحسب . وإنّما في الموضوع الواحد. فعلى سبيل المثال نجده في باب النحو يعرض الموضوعات مرتبة على النحو الآتي :
الأفعال , الفاعل والمفعول به , التوابع , الابتداء , اشتغال الفعل عن المفعول بضميره , الحروف التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار , الحروف التي تنصب الاسم وترفع الخبر, حروف الخفض ,"حتّى " في الأسماء , القسم وحروفه ... وهلم جرا .
وممّا يُؤخذ على أبواب الكتاب , أنّها لم تراعِ التدرج في طرح الموضوعات , بحيث يبدأ بالكليات, ثمّ ينتهي منها إلى الجزئيّات . فمثلاً باب المعرفة والنكرة جاء ترتيبه الثاني والخمسين, وباب المعرب والمبني كان في الباب السادس والثمانين . ولك أن تتصور كم من الأبواب يتفرع من هذين البابين الرئيسين . و كم كان مفيداً تعليميّاً لو أنّه أخذ بهذه المنهجيّة في تقسيم الأبواب .
إنّ من يقف على أبواب الكتاب , يدرك بما لا يبعث على الشكّ أنّ منهج التبويب عند المؤلف لم يكن ناضجاً على النحو الذي نراه مثلا عند الزمخشري . فعلى نحو نراه في باب النداء يعرض الموضوعات بصورة مرتبة فيبدأ بـباب النداء , ثمّ باب الاسمين اللذين لفظهما واحد والآخر مضاف منهما , ثم باب إضافة المنادى إلى ياء المتكلم , ثم باب ما لا يجوز فيه إلا إثبات الياء , ثم باب ما لا يقع إلا في النداء خاصة ولا يستعمل في غيره , ثم باب الاستغاثة , ثم باب الترخيم , ثم باب ما رخمت الشعراء في غير الشعر اضطراراً , ثم باب الندبة . وقل مثل ذلك في باب التصغير , وباب الهجاء , وباب المذكر والمؤنث ...إلخ .
فإذا كان هذا سبيله في مثل هذه الأبواب , فإننا نقف على صورة مغايرة في أبواب أُخر , فنجد على سبيل المثال باب الابتداء ,ثم باب اشتغال الفعل عن المفعول بضميره , وهو باب أقرب إلى درْس الفعل وعمله , ثم يتحدث عن الحروف التي ترفع الأسماء وتنصب الأخبار , ثم باب الحروف التي تنصب الاسم وترفع الخبر , ثم باب الفرق بين (إنّ) و (أنّ) , ثم باب حروف الخفض , ثم باب (حتّى) في الأسماء ,ثم باب القسم وحروفه , ثم باب ما لم يُسمّ فاعله , هنا ندرك الفجوة في الأبواب بين الفاعل والمفعول , وقد جاءا في الباب الخامس , ونائب الفاعل الذي جاء في الباب الحادي والعشرين , ثم باب من مسائل ما لم يُسمّ فاعله , ثم باب اسم الفاعل , ثم باب الأمثلة التي تعمل عمل اسم الفاعل , ثم باب الصفة المشبهة باسم الفاعل فيما تعمل فيه , ثم باب التعجب , ثم باب (ما) , وهي ما العاملة عمل ليس , وهنا أيضاً نجد فجوة أخرى بين الحروف التي ترفع الاسم وتنصب الأخبار وبين (ما) العاملة عمل ليس .وعلى هذا النحو يمكن نقول في باب مذ ومنذ , فهذا الباب لا يرتبط بما قبله وهو باب (كم) , ولا بما بعده , وهو باب الجمع بين ( أنّ وكان ) ,وباب ضمير الفصل .
وعلى حين نجد دقّة في توصيف عنوان الباب , وانسجامه مع المضمون - وهو الصورة العامة في معظم الأبواب- نجد بعض الغموض في بعض العنوانات , من حيث عدم اختيار اللفظ المناسب للباب . فمثلاً باب الحروف التي تنصب الاسم وترفع الخبر , فالعنوان لا يُلبس على القارئ بصورة عامة , ولكنّ إطلاق مسمّى الحروف على الأفعال الناسخة ,في باب الحروف التي ترفع الاسم وتنصب الأخبار , أشعر أنّه فيه لَبْس , فالقارئ المبتدئ سيتساءل وقتئذٍ , هل هي حروف أم أفعال؟ ومثل ذلك يمكن القول في باب الحروف التي يَرتفع ما بعدها بالابتداء والخبر , وهذا عنوان لا لبس فيه . لكنّ اللبس يتأتى من تعقيبه عليه بقوله : وتُسمّى حروف الرفع . وهذا يُشعر القارئ بتناقض , هل العمل للابتداء والخبر أم للحروف ؟ فأول العنوان يُظهر أنّ هذه الحروف غير عامله , بيد أنّ تسمية الحروفِ حروفَ الرفع يُشعر بأنّها عاملة , مثلها مثل حروف النصب , وحروف الخفض . فهذه الحروف تعمل فيما بعدها ؛ ولذلك سُميت حروف النصب؛ لأنها تنصب . وسُميت حروف الخفض ؛ لأنها تجرّ ما بعدها .
ومن الأمور التي تستوقف الباحث تقديم ما حقّه التأخير: كالتوابع , والتعجب , والقسم وحروفه, وحروف الخفض . وتأخير ما حقّه التقديم : كالمعرفة والنكرة , والمعرب والمبني , والصلات , والابتداء , وأفعال المقاربة . والذي يظهر لي أنّ فكرة تقسيم موضوعات النحو في مجال التأليف إلى : مرفوعات , ومنصوبات , ومجرورات, لم تنضج بَعْد عند النحاة , وإن كانت حاضرة في أذهانهم ومناقشاتهم .
تُرى هل كان للمؤلِّف منهجيّة محددة في تبويب الكتاب ؟ يقول الدكتور علي الحمد معلقا على أبواب الكتاب :" فبعد أن بدأ ببعض التقسيمات الصرفية تناول مجموعة من الأبواب النحوية , يظهر في ترتيبها احتفاله بالعامل " [1], ونظرية العامل هذه هي أحد أهم الأسس التي ابتنى عليها النحاة تفكيرهم النحويّ , حتى الكتاب كتاب سيبويه كان محتفلاً بنظرية العامل بشكل واضح .
وعليه فإنه يمكن القول : إنّ التبويب في المؤلفات المتقدّمة كانت تراعي في منهجيتها نظرية العامل , وربّما كانت هي الأساس التي أُلفت عليه الكتب , مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ كلّ عَالِـم وطريقته في عرض الأبواب . لكنّ هذا لا يعني أنّ عدم انتظام أبواب النحو كان مبعثه نظرية العامل , إذ نظرية العامل كانت أيضاً أساساً في تأليف كتب النحو المتأخرة , مثل : المفصّل , واللمع , وغيرهما من كتب النحو الكثيرة .
ومَن ينظر في كتاب المُفَصّل للزمخشريّ سيكتشف مدى التطوّر الذي شهدته منهجية التبويب عند النحاة . فنحن أمام كتاب مبوّب تبويباً منسقاً يبدأ بكليات النحو ثم بالجزئيات . فهو - كما يصفه صاحبه- " كتاب في الإعراب , محيط بكافة الأبواب , مرتب ترتيباً يبلغ بهم الأمد البعيد بأقرب السعي , ويملأ سجالهم بأهون السقي "[2]. ثم إنّ الهدف من وراء تأليفه كان تعليميّاً , فهو يقول :" ولقد ندبني ما بالمسلمين من الأرب إلى معرفة كلام العرب , وما بي من الشفقة والحدب على أشياعي من حفدة الأدب "[3].
أما عن تقسيم الكتاب فنجد في خطبة الكتاب أنّه قسم الكتاب أربعة أقسام : الأسماء , والأفعال, والحروف , والمشترك من أحوالها . ثم ينضمّ إلى كلّ قسم منها جملة من الموضوعات الرئيسة . فالأسماء تتفرع إلى مرفوعات , ومنصوبات , ومجرورات . وكلّ غصن منها يتشعب إلى جملة من أغصان عديدة . أما الأفعال فسبيلها كسبيل الأسماء تتوزع تبعاً للزمان , والتعدية واللزوم , والمعلوم والمجهول , والمجرد والمزيد. فإذا تمّ له ذلك واستوى , توجه تلقاء الحروف . فسنّ فيها سنّة ما قبله . فقسّمها بحسب وظائفها , كحروف العطف , والنفي , والندبة .
وأما القسم المشترك من أحوالها , فقد تناول فيه الأصوات , هو أمر يجمع بين الأقسام الثلاثة السالفة , كالإمالة , والإدغام , والوقف , وغير ذلك .
والحقّ أنّ الكتابين لم يختلفا في الموضوعات أو الهدف . لكنّ المنهجية في تبويب الكتابين كانت متباينة بصورة تبدو ملامح التطوير فيها بارزة . وهذا يعكس المجهود الفكري الذي استغرقه النحاة في إنضاج النحو العربي , وإتاحته مائدة سائغة يطيب أُكُلُها , وأَكْلها للنشء المتعلّمين .
------------------------