فعل اللغة ومقاصد السياسة
هذه الرحلة الوجيزة نركب فيها متن اللغة لنجول بين منعطفات السياسة، وعلى حاشية لغتها ومعجم ألفاظها. فاللغة هي أداة مطلقة، وفي السياسة قيمة مقيدة، وفي الإعلام وظيفة متحكمة، وكيف وظفت محاضرة البابا في شهر سبتمبر الماضي سياسياً وإعلامياً ضد المسلمين، فالناس يهتمون عادة بالحدث السياسي، دون أن ينتبهوا للصياغة اللغوية لذلك الحدث. وبذلك تراهم أحيانا يخلطون بين الحدث السياسي والخبر السياسي، الذي عادة لا تنحشر فيه مقاصد صانعه حين يصنعه، وهذا راجع إلى أننا لم نتشبع بعد بنواميس استراتيجيات الخطاب عامة، وبقوانين استراتيجيات الخطاب السياسي خاصة.
قد يدفعنا حدث "مهاترة" البابا إلى الوقوف برهة على اللغة، وقد نشهد ونحن نبحث اللغة التي جاءت بلسانها المحاضرة تقاطعا في الظاهرتين، ولكننا لم نعهد من قبل هذا التقاطع بين الظاهرتين مجالا للأخذ والرد، ولا أريد أن أتوقف على هذا أكثر مما ذكرناه، فمن شاء أن يدون لتلك الحادثة لا بد له أن يتصفح دفاتر السياسة على ضفاف اللغة، ولن يكون له غنى عن التأمل مليا في آليات إنتاج الألقاب وأدوات صنعها، فلو سألت الناس عن الاسم الحقيقي للبابا لما أجابك إلا نزر قليل، فهم يعرفونه ب (البابا بنديكت السادس عشر) أو (البابا الفيلسوف)... وما تبتكره الألفاظ من دلالة وإيحاء يخبوا وهجه بمرور الزمن فيندرج ضمن رصيد اللغة الطبيعي، ويغدوا حقيقة عرفية جديدة.
قصة السياسة مع التسمية ليست جديدة، وشيء غير قليل منها يعود إلى قصة التسمية مع آليات الشهرة، ويضل من المقطوع به – حدسا أو رصدا – أن هذا التحول من تاريخ الحدث إلى ذات الحدث، ثم من تعيين الحدث إلى ما يرمز إليه النطق باسم الحدث انخراطا داخل سياج الدلالة، كواشنطن تلك المدينة التي تمت نسبتها إلى صاحبها، والذي تحقق في نمط آخر من اللغات تعتمد التركيب المزجي كما في إسلاماباد وحيدرباد، فيصبح صاحبها ملك عام، وهذه كتلك تصنع صنعا، وتدار لها آليات محددة لإنتاجها، والذي يعنينا من ذلك هو اللغة. فتبدأ قصة "الرمز" في مجال عالم الفكر والثقافة والإبداع والقناعات… فمن قال عميد الأدب العربي لا يحتاج إلى إضافة طه حسين، والذي يتحدث عن أمير الشعراء يستغني عن ذكر أحمد شوقي.
وقد لا يكون الأمر على نفس الدرجة من البداهة عند الجمهور الواسع، لو تحدثنا عن علي أحمد سعيد ولم نرد فه باسمه الشائع أدونيس، الذي اختاره بنفسه لنفسه. إذن لا مجال لدرس موضوع الأسماء والمسميات في عالم السياسة، دون ذكر الشهرة باعتبارها من ميادين الشهرة المتجلية في الأداء اللغوي العام. فلو سألت عن عبد الرحمان القدوة الحسيني من يكون؟ لا تجد من يعرفه في غالب الأحيان رغم أنك تتحدث عن ياسر عرفات، الذي عرف النضال وخاض غمار المقاومة، وكان لزاما عليه أن يتخذ اسما حركيا، فاختار لنفسه (ياسر) وألحق به اسم جده، حتى غدا طقسا من طقوس المراسم السياسية. وكثر تداول كلمة (الرايس) عل حسني مبارك والتي أطلقتها عليه في الأول الصحافة الإيطالية، ثم أصبحت موضة واسمة عند الصحافة العربية. أما في الغرب تجد الذي تخرج من المؤسسة العسكرية فخورا بانتمائه إليها، ك(الجنرال ديغول) و(الماريشال تيتو) أو (الجنرال شوارسكوف) حتى ليكاد الاسم ليقترن بالصفة.
لا تنفك قصة السياسة والألقاب تشوق راصدها وتروقه ففيها تقبع من وراء أصواتها ومقاطعها، منهم من ينسدل عليه اللقب كبرنس يهبه إليه الآخرون فيستريح إليه مستشعرا أنه على مقاسه، وليس من شأن الناس أن يشكوا إن كان هو الذي أوحى به إليهم، أم هم الذين زرعوا في نفسه حبه. فللألقاب والمسميات سحرها لأنها تختزل الزمن والأحداث، وقد تختزل في اللقب بحروفه المعدودة صفحات من أدبيات الفكر والجدل والسياسة وفي كثير من الأحيان الصراع، فعبد القدير خان، قالوا عنه - وقد صدقوا – (أبو القنبلة الذرية الإسلامية). فهو فخر عظيم من جهة وبلاء من جهة أخرى، ومن من جموع العرب يتذكر أن أشهر الشعراء في تاريخ أدبنا، ذاك هو المتنبي، هذا الاسم اللامع لم يكن اسما له ولكن كنية ينادى بها على سبيل المجاز والدعابة، لسلاسة لسانه في الشعر، فاسمه الحقيقي (أبو الطيب) وكفى.
مغرية جدا هي قصة الأسماء، وأكثر إغراء منها استقراء تاريخ الثقافة من خلال نشأة الأسماء، ثم تطورها وتقلبها، على حين انسلاخها أو توالدها. فالتسمية في السياسة وصف ناعت يشيع فيطرد ويتواتر حتى يستقر اسما على مسماه. لما شاخت الإمبراطورية العثمانية شاع عنها أنها كالرجل المريض، ثم لما قضت الإمبراطورية كرس خطاب المؤرخين شرعية الاسم، وأصبحت عبارة (الرجل المريض) خزانة التفاصيل التاريخية. وقد يصنفها بعض العلماء حقيقة لغوية جديدة بعد أن كان استعارة بلاغية.
قد لا يكون خطر ببال المختصين بالعلوم السياسية أن يفردوا لسلطة اللغة بابًا في جدول علمهم، ولا حتى بابا للبلاغة السياسية التي من ضمنها سياسة البلاغة، فحين خاض "بر لسكوني" أول انتخابات له سنة 94 لقب ب(الفارس) رغم أن هذا الاسم اقترن به قبل ذلك الوقت ولكنه لما برز كمنقذ لإيطاليا ترتب عنها آليات جديدة للتلقي في مجال البلاغة السياسية، فأصبحت مرآة كاشفة، تبلغ أحيانا طاقة المرايا السينية في التشخيص الطبي، وإذا بضفتي اللغة والسياسة تقودنا إلى تأسيس ثقافة جديدة هي ثقافة الألقاب والمسميات. وكل من اهتدى إلى منافذها الخلفية استطلع من كوامنها ما لا يستطلعه لا السياسي إذا لم يتسلح بمعرفة اللغة ولا اللغوي إذا لم يتدرع بالوعي السياسي؟
سنضع تصورا مبدئيا نسوقه على وجه المناورة المنهجية دون أن نعلق ثمرة البحث على خليلته: كلما جاء الاسم لاحقا للمسمى في الزمن، كان ذلك من مشمولات التاريخ، وكلما صيغ الاسم قبل ميلاد المسمى كالوقائع والمعارك الحربية كما سنسوقها لاحقا، كان ذلك من فعل السياسة.
ومهما يكن جوابنا عن السؤال السالف واللاحق: أيهما الحقيقة وأيهما المجاز، تسمية الكائنات الحية أم تسمية الأشياء والواقعات؟ فإن السمة السياسية تطبع فعل التسمية حين يأتي بسابق تدبير وصوب مقاصد على مقدس الغايات المضمرة، فالصراع الحربي أو المعارك الميدانية، والتي سنركز عليها اهتمامنا بعض الشيء لأن فعل التسمية هنا حمال دلالات أكثر مما سبق، ولكن صوغه اللغوي جلاب غوايات. فمن شأنها أن تجعل الرؤية مزدوجة، تقوم على توطين المفاهيم التي ترافق آلة الحرب في بيئة المكان.
إنها سلطة اللغة داخل شباك السياسة، وإنها سلطة السياسة داخل قلعة اللغة، وما نتصارع من أجله اليوم له اسم، ولكل طرف من أطراف الصراع اسمه الخاص به. فيصبح الاسم دالا على حيثياته، وزمانه، ومكانه. غير أن ما تعارفناه في كتب التاريخ هو أن الصراع ينشأ ثم بعد ذلك يطلق عليه صانعوه اسما، وربما أطلق عليه الطرف الآخر اسما مخالفا لذلك الطرف.
وبناء على ذلك كانت تسمى المعارك بأسماء الأماكن التي تجري فيها وقائعها: معركة بدر - معركة أحد.. - معركة بنزرت - معركة السويس…لم تتقيد بزمن النشأة لأن التسمية أتت لاحقة على وقت الحدث، ثم تطورت ظاهرة الإصطلاح بالاسم لتنفذ إلى نواميس اللغة داخل مكنونها، فتعيد ترتيبها بنسق عجيب من الإصطلاح المتضاعف، ولكنه مع خروجه عن نسق اللغة، يخفى على الحس فيغدو كأنه نسيج طبيعي. والعالم قد أصبح يعيش الأحداث وهي متحينة في زمنها الطبيعي، بفضل القفزة المذهلة التي أنجزتها تكنولوجيا البث الإعلامي الجامع بين الصورة والصوت، حولت الأسماء إلى منظومة من الفعل الإرادي توازي منظومة القرارات الإجرائية النافذة، مشكلة لحظة الإنقلاب الجذري مع ظهور قناة الجزيرة.
لقد بدأت تشتغل الآلات الجديدة الضخمة بداية من أزمة الخليج الكبرى سنة 90 - الآلة الإعلامية - الآلة النفسية والآلة العسكرية، واستقر الأمر على وضع مستحدث جديد لم يسبق له مثيل يناظره ولم يقم بعده بديل يقايضه، وكان فعل التسمية الأقوى في انقلاب المشهد، حين أطلق الأمريكيين على تلك العملية اسما هو ( درع الصحراء )، بعدما أقنعوا السعوديين بأن النظام العراقي يضمر الهجوم عليهم، وكان يكفي الواحد من الناس أن يجد نفسه أمام لفظ ( الدرع ) فيقرن الاسم بحماية المملكة.
مغرور من توهم أن الأسماء مرتجلة، وما من شك في أن فعل التسمية هو جزء مندمج من الخطة العسكرية، في (الدرع) تنصيص على الفعل الوقائي، ولكن المغالطة واقعة في مغزاه لأن الدرع ليس سلاحا دفاعيا كما نظن، بل سلاح هجومي بالأساس يلبسه من اعتزم اقتحام المعارك مبتدءا ومباغتا. ثم كان الإضمار على أشده في العنصر الثاني (الصحراء) دال صريح على أن الحرب وليدة المنطقة وليس مجلوبة إليها من الخارج.
إن الذين أطلقوا الاسم يعرفون ما المقصود بالصحراء، الاسم يشي بالمقارنة بين تلك البلاد والصحراء! ثم إنهم يعرفون أن السعودية سبق لها أن خاضت حربا مع جارتها اليمن انتهت يوم ( 27 /6 /34 ) أطلقوا عليها اسم (حرب الصحراء) . إن لفظ الصحراء أضحى كالبديل الموضوعي الذي يختزل صورة الجزيرة العربية انطلاقا من اختزاله صورة البلاد العربية عامة، وتطورت حتى أصبحت محورية في أدبيات الفكر الغربي عموما، فعلا سبيل المثال كتب أحد الصحافيين الإيطاليين المهتمين بالآثار يوما مقالا بعنوان: " توأم الكوليسييو في صحراء الجم " رغم أن الجم مدينة تونسية قائمة المعالم، فلا فرق عندهم فالبلاد العربية كلها صحاري بالنسبة لهم. فعبارة درع الصحراء تأتي صدى للتاريخ ولكنه صدى مغشوش، ولو سألت عامة الناس من سماها؟ لما عثرت على جواب جازم، (فدرع الصحراء) وما سنتلوه من الأسامي قد تمت صياغته بقرار إرادي معلن قبل زمن الحدوث.
لئن ضل الذهن على ضمإ وهو يتأول اسم (درع الصحراء) بحثا عما يشار به إلى: هل هو الجزيرة العربية أم الأمة العربية بأكملها، فإن (عاصفة الصحراء) تخاتلنا لتثبت في اللاوعي الجمعي مداره أن الأحداث نابعة من الأرض العربية وراجعة إليها. وأن اسم الصحراء رمز ميسم نهائي لا يتماهى إلا مع الأرض العربية… هي الصحراء كما يراد ربطها في اللاوعي العالمي بالعنصر العربي، هي القفز، هي القفار والحرب وهي التاريخ يتباطأ عن ركب الحضارة كما جاهر به "برلسكوني" يوم 26 /9 /2001 . إنه الصوغ اللغوي الذي يعبق بفائض دلالي يقترن بهامات الحياكة البلاغية. إننا على أرض من التحليل تتكاثف فيه الخلاصات منضدة منضدة، فاللاحق يفسر السابق ويتفسر به.
مغرية جدا هي رحلة الكشف عن منابع الأسماء، والأكثر إغراء فيها التقاط سلك التناسل بين الأجزاء قبل اكتمالها في معناها الكلي، فكل جزء قصة في التداول، وكل معنى ظاهر تاريخ، يظهر ويحتجب. والذي لا مفر من الإقرار به هو أن صناع السياسة الدولية الكبرى على أتم الوعي بالأبعاد الرمزية داخل النفس من خلال اللغة. ولكن هلا دفعنا بالكشف الاستقرائي خطوة أخرى إلى الأمام. إن حرص هؤلاء على إحكام استراتيجية الأسماء أصبح علم يدرسه الإعلاميون والسياسيون معا، ويتخصص فيه البعض فيصبحوا مستشارين أو راسمي سياسة، بقرارات تحاك لها الخطط ذات الدقة المتناهية.
وتمضي الأيام وتأتي عملية (ثعلب الصحراء) ، فأي صحراء؟ لا شيء سوى الثبات على ما سبقت المصادرة عليه في إصرار تتيه معه مقاصد الإدراك، لفرط ذوبان المعنى في عتمات السياق، فاللغة في قفص السياسة، والسياسة في قفص المصالح الدولية المتعاظمة، ليس شيء مقطوع به إلا تواتر لفظ الصحراء. إن استراتيجية الحرب اللغوية لا تحيد عن مدارها حيال مسالك الصراع العسكري، فيسخر لها كل الطاقات المتاحة وخاصة الإعلامية منها، وكيف حتى أن حزب الله في لبنان استعمل هذا السلاح في حربه ضد العدو الصهيوني الأخيرة واستنبط الأسماء للمعارك حتى وإن كانت مناوشات، ولم تتوقف قناة المنار عن التوعية والبث إلا دقيقتين رغم تدمير مقرها. ويوم استفحل صراع القوات الأمريكية سنة 2003 مع المقاومة العراقية في الفلوجة تم الإعلان عن عملية (عقرب الصحراء) ، التي سويت فيها ديار الفلوجة بالأرض. وهاهو الإصرار يزيل من الأذهان القائلة بالبراءة والطاعنة في عقلية المؤامرة آخر حفنة من بقايا الشك.
إن السياسة تشتغل على جبهتين متوازيتين: جبهة الأحداث وهي تطبخ على نار حامية، وجبهة التأثير الاستدراجي وهي تطهى على جمار الفحم الهادئة. فهاهي (الصحراء) كالعمود الفقري تلتف شرايين الدلالة صادرة عنه وأوردة الإضمار عائدة إليه: الدرع والعاصفة والثعلب والعقرب، كل واحد منها هو المتغير في معادلة الصيغة الثنائية ذات العنصر الصحراوي القار. فمع الدرع تقرع اللغة منافذ الذهن على ساحة الحرب بلا تردد وبلا استئذان، ولكن العاصفة تضعنا أمام سلطة المكان بمفازاته ورماله ورياحه المدوية، على أن فكرة العاصفة من المكونات الذهنية الأثيرة في نفوس العرب، وعند أقوام أخرى أثيرة إذا ارتبطت بالبحر. ولذا تأتي عبارة (عاصفة الصحراء) مصرة على توطين المفهوم في بيئة أصحاب الشأن في هذا النزاع العربي… ثم تلتها بعد ذلك عمليات أخرى في العراق، مثل (المطرقة الحديدية) قامت بها فرقة مشاة من البحرية الأمريكية، فاقدة فيها كثير من عناصرها. و (الوعد الحديدي) و (الستار الفولاذي) على الحدود السورية، جلبت لهاته العملية فرقة خاصة من كاليفورنيا مقتبسة اسمها من الفولاذ لشدتها وقدرتها على التصدي وعمليات التهريب، لمنع تسلل المجاهدين العرب إلى العراق، دون نتائج تذكر. و(عملية البرق) وهي الأولى مع القوات العراقية آملين في إطفاء جذوة المقاومة في المثلث السني دون جدوى، ثم عملية ( القمر المنير ) بقيادة القوات العراقية لأول مرة. وتلفتك في هذه الأخيرة أن الصيغة من الشعرية والإبداع، تدفع بك إلى أعماق البيئة العربية بكل أحمالها التراثية، ثم تحثك على مزيد من الاستكشاف دون هاد أو دليل، وإذا بك تنتبه أن تاريخ العملية يصادف ليلة الرابع عشر من الشهر القمري. هذه الأسماء ليست صدفة أو غير مخطط لها، إنها فن الحرب الخفية.
إن كثافة حضور الكائنات الحيوانية في أفعال التسمية في ما سبق ذكره حين يكون موضوعها الحرب، يؤكد أننا بحضرة قصد إرادي من الدرجة العليا، وهو الإصرار على توطين المفاهيم المرومة، ودفعها إلى أن تقبع في اللاوعي الجماعي عبر الحامل اللغوي، فهي تطويق إرادة المتلقي مهما يكن موقعه أو انتمائه. وإطلاق الاسم على الفعل الحربي عند اعتزام إنجازه، يجعل التسمية جزءا ملتحما بالأداء العسكري، ويؤكد أسبقية الإضمار. نعود إلى ما قبل احتلال العراق والدوافع إلى ذلك، ففي يوم 17 /9 /2001 أعلنت أمريكا عن قرارها بأخذ الثأر مما حل بها، فأشهرت على أفغانستان والقاعدة حربا وهبتها اسم (النسر النبيل) فإذا بنا من جديد على درب استدعاء الكائنات الحيوانية للإشادة بنزعة الإنسان العدوانية، وما يعتبره الفلاسفة الغربيين بقايا الغريزة الحيوانية في بني آدم.
فمع النسر نحن في أعلى مستويات الرمز السياسي لأمريكا، هو شعارها الوطني، ولنتذكر "ريغن" في الثمانينات كيف غير رسم النسر الذي كان متجها برأسه ناحية اليسار ليلتفت ناحية اليمين بقرارات تنفيذية تشرح أن أمريكا يجب أن تعرض كليا عن الإيديولوجية اليسارية. ثم غيروا تسمية الحرب على أفغانستان من (النسر النبيل) إلى (العدالة المطلقة) حتى لا تكون حرب أمريكية خالصة، وتقحم فيها دول التحالف، فوقعوا فيما هو أشنع لأنهم بذلك أثاروا النعرة الدينية، والتي جلبت سخطا وضجة داخل العالم العربي والإسلامي وخارجه، عندئذ أقلع أصحاب التدبير عن إضمار اتهم الأولى وجنحوا إلى (عدالة بلا حدود) ، وإذا بحرب الأسماء تتكشف عن محياها بعد إنزال اللثام الحريري فتغدوا حافزا لاستلهام خطاب سياسي غربي مصلحي يدمج فيه جل الطبقات سواء كانت حاكمة أو معارضة، وخطاب عربي مقاوم رافضا للاستعمار الجديد اتحد فيه جميع فئات الشعب.
أفترى من من قادة العرب كان يقرأ المشهد الخلاب؟ ومن كان منهم من يستنصح بين مستشاريه من يقرأ له؟… ولن يفتأ صناع القرار في أمريكا يلحون على توظيب معركة الأسماء في رؤية مزدوجة تقوم على توطين المفاهيم في بيئة المكان، وتهدف إلى تطويق الأذهان بما يحجب عنها مكائد التخطيط الاستراتيجي. يوم 13 /1/ 2004 أطلقت القوات الأمريكية اسم (عاصفة الجبل الثلجية) على العملية العسكرية على الحدود الباكستانية بحثا عن عناصر طالبان والقاعدة لم تفلح، فأطلقوا اسم (عاصفة الجبل) على عملية ثانية بعد أيام من الأولى في نفس المناطق لم تنجح حتى هي.
يوم 16 /2 /2005 بعد اختفاء الصحفية الإيطالية "جيوليانة زقْرينة" ظهرت جماعة مسلحة في العراق تبنت اختطاف الصحفية الإيطالية في شريط أرسل إلى الجزيرة سمت نفسها (مجاهدو بلا حدود) ، اسم شيق يغمز بأجفان اللغة دون سكب الدموع، أول جماعة في العالم تطلق على نفسها مثل هذه الأسماء التي كنا نظنها حكرا على غيرها، استعملوا نفس السلاح الذي تمرس عليه عدوهم من قبل، ثم غيروا بعد ذلك إلى اسم (شهداء بلا حدود) ، يومها بدأت تسري بين كواليس الشارع والخطاب العربي طلقة لغوية جديدة، تمعن في مصارعة الكيد اللغوي المستعمل ضده بالإغاظة في الخطاب إذا تم زرع العبارة على العبارة، وإدخال الاسم منطقة السياسة ليؤدي وظيفة الإخبار ويؤسس منظومة من التراسل عبر الرموز المشفرة حينا والمكشوفة حينا آخر.
إن إطلاق الأسماء آلة فعالة في الحرب النفسية، ومن أجل ذلك نراه كاللوحة الكاشفة عند استقراء كل إسقاط نفسي، فبين المقاصد والإفضاء باللغة جسور معقدة المسالك، فإسرائيل حين انطلقت بعملياتها العسكرية ضد المقاومة في غزة يوم 27 /10 /2005 أطلقت عليها اسم (اقتلاع العصب) مستوحا من القاموس الطبي في جراحة الأسنان، لأن الضرس عند تسوسه والتهابه يقتلع عصبه حتى يخف الوجع.
يوم 25 /6 /2006 اندفع الجيش الصهيوني لينتقم من الشعب الفلسطيني في محاولة فاشلة لإفتكاك الجندي الأسير بينما يقبع آلاف من الأسرى في سجونه، فسمى تلك العملية (أمطار الصيف)… وعند كل محطة من محطات صناعة الخطاب تتبين الخيوط الرقيقة في هذه الآلة التي تتحرك بثلاثة أذرع: ذراع على ساحة الوغى، وذراع بين جدران الورشة السياسية، وذراع على صفحات المتون اللغوية.
وعلى شطرنج الأحداث تكتوي اللغة بنيران السياسة، ويسْلم من بعض الأذى من يأخذ الأشياء على ظاهرها، ويلوذ بالسلامة من يقف عند الخبر ثم يتناساه قبل أن يطرق بابه الخبر الجديد. أما من كان من أقداره أن يتابع، وأن يرصد، وأن يجمع الأشتات، ويكتب بين خفايا السطور، فأوجاعه باللغة أشد وأشقى، ويزداد ذهنه تشردا إذا اكتشف أن الصورة البلاغية قد صيغت على مقاس محدد: في السياق الزمني أولا، وطبقا للمتحدث عنه ثانيا.