جامعة سطيف - الجزائر
1- توطئة:
لعل أهم ما ميّز القرن الماضي في مجال العلوم الإنسانية ظهور ثلاثة علوم متزامنة، هي: علم الاجتماع، علم اللسان وعلم النفس، على يد الأعلام الثلاثة المولودين تباعا (1): (دوركايم)، (دي سوسير) و(فرويد).
ولم تكن هذه العلوم مستقلة فيما يبدو، مع أن كلا من الأعلام الثلاثة قدّم مدونة شاملة لمجال معرفته، أوضح فيها أسس العلم ومذاهبه ومجاله وقضاياه، ولكنها تفيد جميعا من المعطيات المعرفية المميزة لتلك الفترة؛ فلم يكن علم الاجتماع –مثلا- مستقلا عن المقولات اللسانية، ولا علم اللسان –في المقابل- مستقلا عن المقولات الاجتماعية، بل اِن من أهم مبادئه آنــذاك، أن اللــغة ظاهرة اجنماعية.
وكانت هذه العلوم فتحا جديدا على معرفة العلوم الإنسانية في القرن العشرين، إذ قَدّمت –لأول مرة- في تاريخ الفكر الغربي نماذجَ من العلوم المؤسَّسة، القائمة على معطيات علمية ومنهجية بـيّنة.
ووقفتُنا هذه مع (علم اللسان) أو (اللسانيات) التي أسسها (فردينان دي سوسير) من خلال محاضراته القيمة التي قدمها لطلابه بجامعة جنيف بسويسرا قبيل وفاته في 1913، ونشرها بعض طلابه بعد ذلك في 1916، لتكون حينها، نموذجا فريدا يُحتذى في دراسة اللغة، ما يزال تأثيره إلى اليوم.
وللإشارة، فقد توفرت لدى دي سوسير جملة عوامل أسهمت في نجاح درس اللسانيات لديها، أهمها:
- أتت أفكاره دعما للرؤى التي كان ينهجها النحاة الشبان، والتي عارضوا بها كثيرا من الآراء السابقة في اللغة وقضاياها.
- جنح باللسانيات لتكونَ علما مستقلا، شأنُه شأنُ العلوم الأخرى، بعدما كانت دراسة اللغة في عمومها، مكمِّـلةً لدراسات ومعارف غير لغوية.
- إستطاع أن يحدّد للسانيات موضوعها (دراسة اللغة)، ومنهجها (الآني والتاريخي، مع إعطاء الأولوية للآني)، وهدفها (معرفة اللغة في ذاتها).
- لم يكن الدرس اللساني لديه مدوّنة مغلقة، بل اِنّ به كثيرا من آرائه وإشاراته إلى ضرورة تناول موضوعات أخرى مجانبة وعلى التماسّ مع اللسانيات، منها:
* إشارتُه إلى الصلة بين اللغة وأنماط الإشارة الأخرى ( الأزياء، الآداب، السلوك ...)، ودعوتُه لضرورة تأسيس علم جديد (السيميولوجيا)، وحصل ذلك فيما بعدُ، مما ضمن حياة أطول للدرس اللساني عموما.
*وصفُه اللغةَ بأنها منظومة، وكان ذلك سببا في شيوع مفهوم البنية، واللسانيات البنيوية.
* ركز على العوامل الجغرافية في اللغة، وكان ذلك سببا في رقيّ اللسانيات الجغرافية.
- لم يجعل اللسانيات مرتبطة بلغة معينة، بل اِنّها علم إنساني عالمي، يتوخى دراسةَ القواعد الأساسية التي تميز اللغات البشرية. وبذلك، فإن كثيرا من الخصائص اللسانية تشترك فيها كل اللغات.
- لم ينظر إلى اللغة – نحو ما فعل عدد من سابقيه في الغرب وفي أمريكا، في بدايات الدرس اللغوي- على أنها موضوع فلسفي، ذهني أو نفسي، بل هي حقيقة، وواقعة اجتماعية... وبذلك فهي أكثر ارتباطا بالتفكير الإنساني المتجدد، الحامل لرؤاه وأفكاره وعاداته وأفعاله.
ويمكن أن نجمع أهمّ مقولات الدرس اللساني عند (دي سوسير)، في خلاصة عاجلة لكتابه "محاضرات في اللسانيات العامة"، فيما يلي:
يقع الكتاب في مقدمة وخمسة أجزاء فيما يقارب 300 صفحة من القطع المتوسط، تناول في المقدّمة قضايا هامة تتعلق بتاريخ اللسانيات ومادّتها وعناصر اللغة، ومبادئ علم الأصوات، ومفهوم الفونيم.
وفي الجزء الأول يتناول طبيعة العلامة واللسانيات الآنية واللسانيات التطورية. وفي الجزء الثاني يبحث اللسانيات التزامنية. ويخصّص الجزء الثالث لدراسة اللسانيات التزامنية، والتغيرات الصوتية والتأثيل. وفي الجزء الرابع تناول اللسانيات الجغرافية والتنوعَ اللغوي وبواعثَه. وأفرد الجزءَ الخامس والأخير لمسائلَ في اللسانيات الاستعاديّة، وقضايا اللغة الأكثر قدْماً، وشهادة اللغة على الأنتربولوجيا وما قبل التاريخ.
2- من المفاهيم الأساسية في اللسانيات السوسيرية:
لعلّ من أهمّ المفاهيم التي أسّس عليها (دي سوسير) مفهوم (علم اللسان) عنده، تمييزَه بين اللغة، اللسان والكلام:
أ- اللسان: يتساءل (دي سوسير) عن اللسان، قائلا: "ولكن ما اللسان؟ ففي نظرنا لا بد من التمييز وعدم الخلط بينه وبين اللغة. وصحيح أن اللسان ليس سوى جزء جوهري محدَّد منها، وهو في وقت واحد نتاج اجتماعيّ لملكة اللغة، وتواضعات ملحّة ولازمة يتبناها الجسم الاجتماعيّ لتسهيل ممارسة هذه الملكة لدى الأفراد"
فماهية اللغة أول ما عرض إليه (دي سوسير) في محاضراته، وحدّد ضمن ذلك ثلاثة مستويات؛ اللغة بعدِّها ظاهرةً إنسانية طبيعية، فطرية، تشترك فيها كل الأجناس البشرية: اللغة / langage. واللغة بعدِّها ظاهرةً اجتماعية مكتسبة، يدخلها العُرف، وتُميّز مجتمعا عن آخر: اللسان / langue. واللغة بعدّها خصائصَ أدائيةً تميز فردا عن آخر، وإن كانا ينتميان إلى نظام لغويّ مشترك: الكلام/ parole.
ومن خلال النصّ، يبدو أن (دي سوسير) يلحّ على ضرورة التمييز بين المستوى الإنسانيّ في اللغة (اللغة) والمستوى الاجتماعيّ (اللسان)؛ إذ الجانب الاجتماعيّ جزءٌ من الجانب الإنساني. فاللسان ظاهرة اجتماعية أخصّ من اللغة (ظاهرة إنسانية)، التي تملك أشكالا كثيرة تنتج من الملكة اللسانية.
وخلاصة ذلك:
- ليس اللسان هو اللغة ؛ إذِ اللغة ملكة بشرية، أما هو فتواضع.
- اللسان مؤسسة اجتماعية، وهو نظام قائم بذاته، وأداة للتواصل.
- اللغة/ Langage: ظاهرة إنسانية لها أشكال متعددة تنتج من الملكة اللغوية.
- اللسان/ Langue : جزء معين، متحقق من اللغة بمعناها الإنسانيّ الواسع، وهو اجتماعي، عرفي، مكتسب. ويشكل نظاما متعارفا عليه داخل جماعة إنسانية محددة مثال ذلك : اللسان العربي، الانجليزي، الفرنسي،...
- الكلام/ Parole : مفهوم فردي ينتمي إلى اللسان، ويشمل ما يعتري أداءَ الفرد للسان من ملامحَ فردية.
ولأن اللسانيات منظومة اجتماعية، فإنه دعا إلى دراسة اللسان لأنه اجتماعي، ولم يجعل اللغة ولا الكلام ضمن موضوع اللسانيات.
ب- البنية: يؤكد (دي سوسير) قبل أن يتساءل عن مفهوم اللسان، منهجَ دراسته، فيقول: "يجب أن يكون الانطلاق للوهلة الأولى من اللغة، واتخاذُها معيارا للظواهر اللغوية الأخرى كافّـة" .
والبنية في الواقع، مفهوم عامّ وضروري للتمييز بين الموجودات، بل اِنها مفهوم أساس للتفكير. وتحديد اللسان عند (دي سوسير) بأنه موضوعٌ للدراسة في مطلع القرن العشرين، يقتضي أن يتناول هذه المستويات متكاملةً دون تمييز ولا تفاضُل. وبذلك يكون قد رفض كثيرا من تصورات سابقيه القائمة على اتخاذ معايير خارجة عن اللسانيات ذاتها (نحو المسوّغات النظرية، أو المبادئ التفسيرية)، وبهذا الرفض أسّس ما يُعرف باللسانيات الداخلية أو بنية اللغة.
جـ - النظام: يذهب (دي سوسير) إلى أن اللسان منظومة لا تُعرَّف، ولا تعترف إلا بترتيبها الخاص, فيقول:"إن اللسان منظومة لا قيمة لمكوناتها؛ أي لعلاماتها اللغوية، إلا بالعلاقات القائمة فيما بينها، وبالتالي لا يمكن للألسنيّ اعتبار مفردات لسان ما كيانات مستقلة، بل عليه وصف العلاقات التي تربط هذه المفردات." . ويتحدّد مفهوم النظام من هذا النصّ في مجموع القوانين التي تقوم عليها هذه المنظومة، ومختلف العلاقات القائمة بين المفردات والتراكيب. وعلى الذي ينظر في اللسان أن يعتدّ بهذه العلاقات، وتكاملِ الوحدات اللغوية فيما بينها.
هذه مفاهيمُ أولى لـ (علم اللسان) عند دي سوسير، تصدّرت محاضراته، وبـنى عليها جملة من المفاهيم الأخرى، نحو: العلامة اللسانية ووجهاها الدال والمدلول، ومحورا الاستبدال والتوزيع اللذان يميزان اللسان أثناء التعبير، والمنهجان الآني والتطوري، ... وغيرهما.
وبقيت آثار أفكار دي سوسير هذه وبصماته واضحةً ومهيمنة لأزيدَ من نصف قرن تقريبا، في الدرس اللغوي العالمي غربا وشرقا، حظي خلالها كتابه بشروح كثيرة ومعارضات عديدة وانتقادات أيضا، مما أسهم في إيضاحها وتطويرها. وأفرز للعالم رؤىً لسانية مختلفة، ووجهات نظر ثرية في دراسة اللسان، مثّلتها المدارس اللسانية المنتشرة في كل أصقاع العالم، بداية بجماعة "براغ"، في نهاية الربع الأول من القرن العشرين، وهي أول مدرسة تتلقى أفكار (دي سوسير) وتتأثر بها، إلى المدرسة الوظيفية، الجلوسيماتيكية، التوليدية التحويلية،.... ولكل هذه المدارس وغيرها، علاقةٌ بصورة أو بأخرى ؛ نقدا أو شرحا أو تطويرا لبعض ما ورد في محاضراته.
وقبل انقضاء نصف قرن، وتحديدا في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، بدأت محاولات الفلاسفة الألمان، وبعض الباحثين في بريطانيا، تتضح في إعادة البحث اللغوي إلى حضيرة الفلسفة؛ الفلسفة التحليلية على الأقلّ. بعدما كان (دي سوسير) قد اجتهد في عزل الدرس اللغوي عن الفلسفة والعلوم الأخرى.
وبعدها بسنوات قليلة، زادت رؤية (نعوم تشومسكي) مجالَ اللسانيات اتساعا حين أعادت الاعتبار إلى المتكلم الذي كان مقصىً في التحليل اللساني السوسيري، ثم إلى الكلام فيما بعد.. وهكذا عرفت اللسانيات انعطافا جديدا لم تعد فيه أفكار (دي سوسير) هي المهيمنة وحدَها، بعد أن سادت العالمَ قرابة نصف قرن تقريبا، بآرائها اللغوية، وأفكارها المتجددة من فترة إلى أخرى.
وقد كان الدرس اللساني العربي الحديث خلال هذه الفترة متلقيا للمقولة اللسانية الغربية، ومُسقِطا كثيرا من مفاهيمها على اللغة العربية، وكشف خلال ذلك عددا من المطابقات بين المقول اللساني الغربي، والمقول العربي القديم. كما وقف على عدد من الاختلافات في مواضعَ أخرى. ويعجبني في هذا الصّدد قول (عبد العزيز حمودة) في (المرايا المقعرة): "... إنّ كل معطيات علم اللغة كما طوّره سوسير لم تكن فتحا جديدا، وكان يجب أن تكون كذلك بالنسبة للمثقف العربي، لو أنه في حماسه للتحديث وانبهاره بمنجزات العقل الغربي لم يتجاهل تراثه العربي."
3- "علم اللسـان" في المفهوم الغربي، قراءة في مدوّنة اصطلاحية:
لعل ما لا تختلف فيه المعاجم المتخصّصة في اللسانيات أنها الدراسة العلمية للغة. ولقد عرّفتها المعاجم وكتب الدارسين تعريفات عديدة، من زوايا متباينة، دون أن يشكل ذلك تناقضا -في تقديري- في صياغة مفهومها العام؛ و فيما يلي عددٌ من التعريفات المتداولة، ومن بيئات زمانية مختلفة:
أ- عرّفها دي سوسير بقوله: "هي دراسة اللسان في ذاته و من أجله "
يقوم هذا التعريف على تقديم مادة اللسانيات (في ذاته) وهدفها (من أجله):
- و تعني (في ذاته) أن اللسانيات تدرس اللسان في مادّته، ظواهرِه الصوتية، الصرفية، النحوية والدلالية، وتُنعت باللسانيات الداخلية. ولقد حدّد (دي سوسير) ذلك، لأن دراسة اللغة من قبله لدى الغريبين، لم تكن تنظر إلى اللغة بعدِّها موضوعا مستقلا جديرا بعلم مستقل أيضا، بل كانت تُتناول ضمن منظومات معرفية أخرى (التاريخ، الفلسفة...).
- و تعني (من أجله) أن اللسانيات تدرس اللسانَ لغرض معرفته في ذاته، وتحديد طبيعة النظام الذي يميز وحداته، ومختلف العلاقات القائمة بينها، وذلك لأن هذا الهدف لم يكن متوخّىً من قبله؛ حيث كانت تدرس اللغة خدمةً لعلومٍ ومعارفَ أخرى، لا معرفتها في ذاتها.
ب- و عرّفها معجم (ديبوا وآخرين) بقوله "يمكن أن نحدّد مفهوم اللسانيات عموما بعدِّها دراسةً علمية للسان، فقد تحقق بعد نشر م.ل .ع. لـ: ف.د. سوسير في 1916م، وابتداء من هذا التاريخ، فإن كل دراسة لسانية ستُعرّف اعتدادا بما وضعه دي سوسير"
في هذا التعريف عدّة قيم أهمّها، أنه -وإن كان معجما متأخرا كثيرا عن مرحلة دي سوسير- فهو يُقرّ بالتعريف السائد للسانيات (دراسة علمية للغة) والذي يرجع إليه. ويحدد البداية الفعلية لاعتماد هذا التعريف وشيوعه وهي 1916؛ تاريخ نشر محاضرات دي سوسير. ثم يشير إلى مسألة أساسية في تاريخ اللسانيات الحديثة، وهي أن أي دراسة للغة بعد هذا التاريخ -وإن تعددت مذاهبها، وتنوعت مدارسها- ترتبط بشكل أو بآخر بما يقدمه دي سوسير في محاضراته؛ شرحا وتطويرا، أو نقدا واعتراضا.
جـ- و عرفها (جورج مونان) في معجمه، بأنها "هي علم اللسان، وهي دراسة هادفة، واصفة وشارحة للبنية، وللاستخدام (اللسانيات الآنية)، ولتغيرها في الزمن (اللسانيات التطورية). كل ذلك يخص اللغات البشرية" .
يقدّم هذا التعريف -على قصره- عدة قيم أساسية في مفهوم اللسانيات، هي:
- يقر بأنّ اللسانيات علمٌ موضوعُه اللغة.
- خصائص الدراسة اللسانية: محددةُ الهدف (معرفة اللسان في ذاته)، واصفةٌ (تصف العلاقات بين الوحدات اللسانية)، شارحةٌ لأحوال البنية: خصائص نظام اللغة في لحظة زمنية محددة، و هي اللسانيات الآنية. كما قد تتبّع ما يحصل في الظاهرة اللسانية من تغيرات في أزمنة متوالية: الدراسة التاريخية.
- موضوع الدراسة اللسانية: هو اللغة البشرية.
د- وذكرها (جان بيرو) في (la linguistique) بقوله: "لقد مُهّد للسانيات العامة من خلال النحو العام في ق 17م و18 م، والذي كان يبحث في وصف قواعد اللغة انطلاقا من القوانين العالمية للفكر البشري." .
في هذا التعريف إشارة أساسية إلى الدرس اللغوي الغربي قبل ظهور دي سوسير، و تمثله الدراسات التاريخية والمقارنة التي ميزت القرنين 17 و 18، ويطلق عليها (النحو العام) الذي يبحث في قواعد اللغة، انطلاقا من القوانين العالمية للفكر البشري، وهو لا يختلف في هذا المبدإ عما قدمه دي سوسير.
وللإشارة، فإن استخدام مصطلح (النحو) هو ما يميز الدراسات اللغوية القديمة؛ عند الغربيين في القرنين المذكورين، وعند العرب أيضا في العلوم اللغوية التي عرفتها القرون الأولى؛ حيث كان النحو الذي قدمه سيبويه في (الكتاب) مثلا، نحوا شاملا لقوانين الظاهرة اللغوية، خلافا لـ(علم الصرف) الذي فُصِل عنه فيما بعد، أو (لعلم اللغة) الذي كان يطلق آنذاك على الإلمام بالثروة اللفظية و دلالاتها.
والمصطلح نفسُه كان قائما لدى الهنود القدماء فيما قدّمه (بانيني) مثلا، من خلال كتابه (المثمن) وما اشتمل عليه من ( حِكَم نحوية)، وذكر فيه ما يقارب سبعين نحويا سبقوه؛ فـ (النحو) إذاً، اصطلاح ميّز الدراسة اللغوية القديمة عموما، ويكاد يقابل مصطلح (اللسانيات) عندنا اليوم.
وخلاصة هذه التعريفات أن اللسانيات التي أسسها (دي سوسير)، أفادت من الدراسات التاريخية والمقارنة التي سبقتها عند الغربيين، وموضوعها اللغة؛ حيث تدرس خصائص نظامها (لسانيات آنية)، أو تبحث في تغيّرات الظاهرة اللغوية عبر الزمن (لسانيات تاريخية)، وهو دراسة تهدف إلى معرفة اللغة في ذاتها.
4 - "علم اللسان" في المفهوم العربي، قراءة في نصّيـن تراثيـّين:
ستستند هذه المقاربة إلى نصّين من التراث العربي، لكل من الفارابي وابن خلدون، وستقف من خلالهما على تداول مصطلح (علم اللسان) في التراث العربي، وعلى مدلوله. وتجتهد في التقريب بينه و بين المفهوم الغربي الحديث الذي مرّ بنا في المبحث السابق.
أ- النص الأول:
ذكر الفارابي في (إحصاء العلوم) قوله: "علم اللسان ضربان: أحدهما حفظ الألفاظ الدالة عند أمة ما وعلى ما يدل عليه شيء منها. والثاني قوانين تلك الألفاظ.
وعلم اللسان عند كل أمة ينقسم سبعة أجزاء عظمى: علم الألفاظ المفردة، علم الألفاظ المركبة، علم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة، وقوانين الألفاظ عندما تركّب, وقوانين تصحيح الكتابة، وقوانين تصحيح القراءة وقوانين تصحيح الأشعار." .
لعل هذا من النصوص النادرة في التراث العربي، التي تعرض بصورة صريحة مصطلح " علم اللسان"، بهذا التفصيل. وقبل أن يتناول الفارابي أقسام علم اللسان، يحدّد مـجاليْه الواسعين اللذين تنضوي تحتهما كل الأقسام التي يفصلها بعد ذلك؛ فعلم اللسان ضربان واسعان:
أ-1- حفظ الألفاظ الدالة عند أمة ما وما يدل عليه شيء منها؛ أي معرفة الجانب المادّي للغة والإحاطة بثروتها اللفظية، دوالها ومدلولاتها. ويمكن أن نجمل هذا الضرب الأول في دراسة اللغة، في: مادة اللغة أو بنيتها.
أ-2- معرفة قوانين الألفاظ في لغة ما؛ أي الإحاطة بنظام اللغة وقوانينها الصوتية، الصرفية، النحوية والدلالية. ويلخّص هذان الضربان طبيعة اللغة البشرية في أنها مادّة ونظام، وعلى عالم اللسان الإحاطة بمعرفة المادّة (الدّوالّ والمدلولات) ومعرفة النظام (القواعد والقوانين).
هذا من حيث طبيعة العلم (علم اللسان)، وما الذي ينبغي أن يحيط به. ثم ينتقل الفارابي بعد ذلك إلى تحديد العلوم الفرعية التي تُدرَج ضمن علم اللسان، بضربيْه المذكورين، ويجعلها سبعة علوم عظمى.
وقبل تفصيل هذه العلوم، ينبغي الإشارة إلى ما في قوله (وعلم اللسان عند كل أمة) من دلالة على عالمية العلم وشموله كلّ ما يميز اللغة البشرية، وهو في هذا المنطلق لا يختلف عما قامت عليه اللسانيات الحديثة من تعميم أسسها العلمية على مختلف اللغات البشرية، وبذلك كانت اللسانيات علما عامّا لا يخصّ لغةً بعينها، بقدر ما تقوم مفاهيمه على خصائص اللغة الإنسانية (البنية، النظام، العلامة، الدال والمدلول، الاستبدال والتوزيع ...).
وكذلك، لا يجعل الفارابي أقسام علم اللسان المذكورة مقتصرة على لغة ما ولكنها أقسام (علمية) لا تخلو منها أي لغة :
أ – علم الألفاظ المفردة : هو علم يتناول دراسة الألفاظ مفردةً، فيقف على تحديد دلالتها الإفرادية ومجال استعمالها. ويمكن أنه يُصنّف –بحسب الضربين المذكورين- في الضرب الأول، كما أنه يمكن أن يقابل حديثا ما يعرف بـ (علم المفردات Lexicology).
ب – علم الألفاظ المركبة : يتناول دراسة الألفاظ مركبةً، فيقف على تحديد دلالتها التركيبية ومجالات استعمالها، وهو أيضا ينضوي ضمن الضرب الأول المتعلق بمعرفة الجانب المادّي للغة.
ويمكن أن يمثل مجموعُ القسم الأول (علم الألفاظ المفردة وعلم الألفاظ المركبة) ما يُعرف حديثا بـ (علم الدلالة / semantics)؛ حيث إنه يتناول دراسة المعنى دون تمييز بين معنى إفراديّ أو معنى تركيبي.
هذا فيما يتعلق بالأقسام التي تنضوي ضمن الضرب الأول، أما بقية الأقسام، فيبدو أنها ضمن الضرب الثاني جميعا، لاحتوائها على لفظ (قوانين)، نحو:
جـ – علم قوانين الألفاظ عندما تكون مفردة : والاختلاف بين هذا القسم والقسم السابق، في لفظ (قوانين)؛ حيث يجعلها ضمن معرفة النظام لا معرفة المادة، ويتناول هذا العلم قوانين بنية اللفظ المفرد وقواعده، ويقابله حديثا علم الصرف الذي يدرس بنية الكلمة دراسة إفرادية، فيقف على خصائصها الصرفية Morphology.
د- علم قوانين الألفاظ عندما تركّب: يتناول قواعد التراكيب ونظام ائتلاف الوحدات اللغوية فيما بينها، ويقابل حديثا علم التراكيب (syntax).
هـ- علم قوانين تصحيح الكتابة: موضوعه الكتابة ورسم الحروف والكلمات ونظام الخطّ في اللغة، وهو علم زهد فيه الناس اليوم، ولم يعد ذا أهمية ضمن مدوّنة العلوم اللغوية التي يُعنَون بها، و إن كانت الحاجة إلى معرفة قواعده لا تزال قائمة. ولعل من نتائج هذا الزهد في علم نظام الكتابة/ علم نظام الخطّ، ما نعيشه يوميا من هِنات كثيرة في رسم الهمز والتاء، ومواضع الألف، وحالات رسم بعض الكلمات،... و يشكو كثيرٌ من الناس –في العربية مثلا- قصورا في هذه المواضع، ولو كان هذا العلم قائما –في تقديري- إلى جانب علم الصّرف والنحو، لزالت معظم هذه المشكلات.
و- علم قوانين تصحيح القراءة: تشمل (القراءة) مختلف نواحي الأداء اللغوي والنطق بالأصوات. ولذلك يُقترح هذا العلم ليكون مقابلا لـ (علم الأصوات/ phonetics) حديثا، على ما في تسمية (قوانين تصحيح القراءة) من تجاوز للأداء الصوتي الموضوعي، إلى الأداء الفني والوظيفي للغة؛ فليس النطق مقصورا على الصوت وحده، بقدر ما هو نطق للغة وتمـثُّـلٌ لحالات دلالاتها المتعددة. و بذلك فالتسمية (قراءة) تكون أكثر إحالة على نطق اللغة وأدائها.
ح- قوانين تصحيح الأشعار: هو سابع أقسام علم اللسان عند الفارابي، وموضوعه تصحيح الأشعار، و لفظ (الأشعار) إحاليّ أيضا، مثل: لفظ (القراءة) في القسم السابق، ويمكن أن يشمل نظامَ كلِّ الأشكال الأدبية بفنونها المختلفة، وقواعد تحريرها؛ من قوانين الخطبة مثلا، إلى قوانين القصيدة، إلى قوانين المقامة، على القصة والرواية... ولعلّ في هذا القسم جانبا هامّا ينبغي الالتفات إليه، لأنه ينظر إلى النص الأدبي (الفني) نظرة متكاملة؛ حيث يميز بين جانبه الفني وجانبه العلمي أو التقني. ففي القصيدة مثلا جانب فني متعلق بالقريحة ومستوى التجربة وسَخاء الإلهام، وفيها أيضا جانب تقني/ علمي، ينبغي أن يحيط به الشاعر لينظم نصا جديرا بلقب "الشعر" و قمينا بالإحتفاء، وهذا الجانب العلمي كما يمكن أن يُوهب إلهاما، يمكن له أيضا أن يُتعلم ويُكتسب.
فالأدب -حسَب هذا القسم إذاً- علمٌ وفنّ؛ علمٌ من حيث قوانينه وقواعدُه، وفنّ من حيث معاينته وتجربته وخيالاته وتصويرُه.
وأقترح لهذا القسم تسمية علم (الصناعة الأدبية)، ويمكن أن يشمل علم العروض مثلا (في الشعر)، وعلم البلاغة بمختلف أقسامها، وكل ماله علاقة بقواعد صناعة الأدب.
ولعلّ هذا العلم أيضا يشكو زهد بعض الناس اليوم فيه، مثل (علم قوانين الكتابة). ومن نتائج هذا الزهد ضياع الكثير من الإمكانات البشرية الفنية في صناعة الأدب، فكم من موهبة أدبية أو تجربة فنية رائدة ضاعت في مدارج الرياح، لأننا لم نوفر لها سبيلا لمعرفة قوانين صياغة هذه التجربة، ونظام توجيه هذه الموهبة ... و غير ذلك.
و إذا ما نظرنا إلى هذه الأقسام السبعة نظرة رأسية، يمكن أن نحدد منها أربعة أقسام، هي (علم الدلالة، علم التراكيب، علم الصرف، علم الصوت ) وهي مرتبة من الكل إلى الجزء أو من العامّ إلى الخاصّ - وهذا موافق لمنهجٍ من مناهج البحث في العلوم عند القدماء- والعلوم الأربعة هذه، هي ما يشكّلُ مفهوم (علم اللسان) الحديث عند (دي سوسير).
و يُضاف إليها في مفهوم (علم اللسان) عند الفارابي قسمان آخران، هما: علم قوانين الكتابة وعلم قوانين الصناعة الأدبية.
ب- النص الثاني:
نجد مصطلح اللسان شائعا في مقدمة ابن خلدون ، ويوصف بأنه موضوعٌ للدراسة العلمية، ولقد أفرد فصلا عنوانه (في علوم اللسان العربي) ، أدرج ضمنه: "علم النحو، علم اللغة، علم البيان وعلم الأدب.".
- علم النحو: بعموم إطلاقه، يستخدم قديما للدلالة على قوانين اللغة من صوت وصرف وتراكيب. و هو (علم النحو) الذي عرفه الأوائل من قبل أن تجزّأ علوم اللغة، ويظهر في (الكتاب) لسيبويه مثلا.
- علم اللغة: هو العلم بالثروة اللفظية في اللغة، والإحاطة بدوالها ومدلولاتها، ويظهر في (العين) للفراهيدي، و(الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها) لابن فارس، و(الخصائص) لابن جنّي، وغيرهم.
ومن خلال هذين القسمين، يتضح الضربان اللذان حدّدهما الفارابي من قبل؛ فـ(علم النحو) علمٌ بالنظام، و(علم اللغة) علمٌ بالمادة.
- علم البيان: وهو العلم بالبيان بمفهومه المطلق في الآية الكريمة: "خلق الإنسان، علّمه البيان" ويشمل كل ما يندرج في معرفته طرق البيان وأساليبه و أفانينه، من بلاغة وغيرها.
- علم الأدب: هو العلم بالجانب العلمي، التقني في الأدب، والإحاطة بقوانين الصناعة الأدبية.
وبمقارنة سريعة بين أقسام (علم اللسان) عند الفارابي، وأقسامه عند (ابن خلدون) يتضح أن الفارابي أكثر إيغالا في تفصيل علوم اللسان وتجزئتها، خلافا لابن خلدون الذي فضّل مذهب الإجمال، وإن كانا لا يختلفان فيما يشمله علم اللسان عموما.
فعلم الأدب عند ابن خلدون هو علم قوانين تصحيح الأشعار عند الفارابي، وعلم النحو يشمل علم قوانين الألفاظ المفردة وقوانين الألفاظ المركبة وعلم تصحيح القراءة.
و علم اللّغة يشمل القسمين الأولين: علم الألفاظ المفردة وعلم الألفاظ المركبة. أما علم البيان، فيأخذ بعضا مما يشمله (علم الأدب) و(علم البلاغة العربية).
ولأن ابن خلدون يصنّف ضمن المتأخّرين عن الفارابي، فقد أغفل الحديث عن قسم يتناول علم قوانين الكتابة والإملاء.
وإذا ما تناولنا النصين معا، في نظرة إجمالية لا نجد بينهما فرقا لصياغة مفهوم عربيّ لـ (علم اللّسان):
هو علم موضوعُه اللغة وتطبيقاتها؛ حيث يشمل دراسةَ جانبها المادي (الدوالّ والمدلولات) ونظامها (القواعد الصوتية والصرفية والنحوية والدلالية)، ويتجاوز ذلك إلى العلم بقوانين الصناعة الأدبية (بعدّها ممارسةً للغة) والعلم بقوانين الرسم والكتابة.
و إذا ما قارنا هذا المفهوم بـ (علم اللّسان) في مفهومه الحديث اتضح الاتفاق في أنّ كلا من المفهوم العربي و المفهوم الغربي الحديث يقوم على مبدإ أن علم اللسان علمٌ شاملٌ لا يخصّ لغة بعينها، ويجتهد في تقديم مفاهيم عامة لمجموع أشكال اللغة البشريّة.
أما من حيث نقاط التباين فإن المفهوم العربي لـ (علم اللسان) أشمل وأوسع من المفهوم الحديث –مع الاعتداد بالظروف العلمية والحضارية والفكرية لكل مفهوم، ولا ينبغي معالجة هذا التمايز بعيدا عن هذه الاختلافات- كونه يتجاوز العلم باللغة في ذاتها (نحو ما حدّده دي سوسير) إلى العلم بمجالات استخدامها. وفي هذا الفرق عدّة ملاحظات أهمّها:
- إنّ الثقافة العربية القديمة لم تنشأ على التجزيء، بقدر ما انطلقت من الكليات: فلم تفصل بين اللغة و الأدب، ولا بين علم النحو وعلم اللغة والبلاغة، لأنها في منظورها بنية واحدة، وكيان موحّد لا ينبغي فصل أجزائه. ولعلّ ذلك –من ناحية أخرى- سمة مميزة لها، لا ينبغي أن نشترطها في الثقافات الأخرى، لنحفظ شيئا من الخصوصية بين ثقافات الشعوب، وإن كنا في موضوع اللغة بالذات من حيث هي علم لا نعتني كثيرا بهذه الفروق.
- إن الثقافة الحديثة عموما، نشأت في ظروف تقوم على الجزئيات، والبحث في العلاقات بين بُنى الأشياء، ولذلك فظروف تأسيس (علم اللسان) عند (دي سوسير) كانت تقتضي أن ينظر إليه نظرة مجزّأة داعية إلى الاستقلال؛ حيث فصل اللغة عن الفلسفة ليؤسّس علما مستقلا لها، ولكن هذا الفصل ظرفـيّ –في تقديري- إذ سرعان ما عادت البحوث اللغوية إلى حضيرة الفلسفة (والفلسفة التحليلية) على الأقل بعد نحو 40 سنة تقريبا لدى الألمان والإنجليز، ثم إلى حضيرة العلوم الاجتماعية في السبعينيات من القرن الماضي لدى الألمان أيضا والانجليز والأمريكان والفرنسيين.
و لعل أحدث الاتجاهات اللسانية اليوم هي التي تستغلّ مختلف الظروف التي تُستعمل فيها اللغة، وهي نتاح لكل هذه التحوّلات، فيما يعرف بـ (اللسانيات التداولية).
------------
المراجع:
- ابن خلدون: المقدمة، بيروت، دار صادر، ، ط1، 2000.
- عبد العزيز حمودة: المرايا المقعرة، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، رقم 272.
- الفارابي (أبو نصر محمد بن طرخان): إحصاء العلوم، تحقيق عثمان أمين، القاهرة، 1931.
- فردينان دي سوسير: علم اللغة العام، ترجمة الدكتور يوئيل يوسف عزيز، مراجعة النص العربي د مالك يوسف المطلبي، العراق، بيت الموصل، 1988.
المراجع بالفرنسية:
- jean dubois et autres: dictionnaire de linguistique, France, larrousse, 1988.
- georges mounin: dictionnaire de la linguistique, France, quadrige, puf,1993.
- jean perrot: la linguistique, que sais-je, France,puf, 16 di , 1998.
للتواصل مع صاحب المقال :
Boudjad1@yahoo.fr