هذا جانب من جوانب علاقة الشرق بالغرب من زاوية اللغة العربية ، نشير إليه وهو متسع وممتد في الزمان والمكان على وجه الإجمال والتقريب . ويقصد بالشرق " العالم العربي " ، كما يقصد بالغرب المفهوم العام له الذي يطلق على أوروبا وأمريكا .
تمهيد :
لا اتصال حقيقياً يدوم طويلاً ولا معرفة ولا احتكاك فعالاً بين إنسان وآخر أو شعب وشعب آخر من غير لغة ، وبدهي جداً ـ بناءً على هذا ـ أن تعد اللغة من أهم مداخل الاستشراق الذي هو العلم بالشرق أو علم العالَم الشرقي . فالصلة بين الاستشراق واللغة قوية جداً ، وقد بالغ بعض الدارسين في ذلك فذهب إلى أن الاستشراق علم يختص بفقه اللغة خاصة ([1])، والصواب أن هذا الجانب ـ وإن يكن من أكثر الجوانب التي اهتم بها المستشرقون ـ لا يمثل النشاط الاستشراقي كله ؛ لأنه قام أيضاً بدراسات شملت الأديان والعادات والنظم والأفكار وغير ذلك . وتتجلى العلاقة القوية بين الاستشراق واللغة العربية خاصة في اهتمام المستشرقين الواضح بتعلمها ودراستها عبر تاريخه الطويل ، بعد أن كان الجهل باللغة له أثره الكبير في تعميق العداء وسوء التفاهم بين العرب وأوروبا في العصور الوسطى ، فلم يكن عامة الناس يفهمون الذي يجري في بلادهم ، وصعب عليهم أن يفهموا موقف المسلمين الفاتحين وأن يعوا مبادئ الإسلام كمبدأ الجزية أو الحرب عند رفض الدخول في الإسلام ، وزاد الطين بلة في هذا أن القساوسة كانوا هم الذين يقومون بدور المترجم ، وقد جمع هؤلاء ـ إلى جهلهم باللغة ـ حقدهم الشديد على الإسلام والمسلمين ، فنقلوا إلى مواطنيهم كل شيء عن الإسلام بعد تحريفه .
وقد ظهر في أوروبا في ذلك الحين اتجاهان لمقاومة العرب ومواجهة المشكلة الإسلامية : اتجاه يدعو إلى المواجهة العسكرية ، بناءً على أنه لا يوجد وقت للتفاهم وتعلم اللغة العربية لغة المحارب ، واتجاه يدعو إلى المواجهة السلمية لحل المشكلة والمقاومة الثقافية بتعرف أفكار المسلمين ولغتهم عن كثب ، وترجمة القرآن والإلمام بالسنة والسيرة ، تمهيداً لتشكيك المسلمين في عقيدتهم وتنصيرهم ، وقد ظهر هذا الاتجاه الثاني عقب هزائم أوروبا المتلاحقة في الحروب الصليبية ([2]) .
وقد نشأ الاستشراق رسمياً ـ كما يؤرخ له في الغرب المسيحي ـ بصدور قرار مجمع فينا الكنسي عام 1312 م بتأسيس عدد من كراسي الأستاذية في العربية واليونانية والعبرية والسريانية في جامعات باريس وأكسفورد وبولونيا وأفينيون وسلامانكا ([3]) ، ووجدت له أهدافه ودوافعه التي حاول الغرب تحقيقها من خلال دراسة العربية في المقام الأول إلى جانب غيرها من اللغات المتصلة بها.
أهداف الاستشراق في مجال اللغة :
وبناءً على ما سبق ، كان ثمة نوعان من الأهداف : أهداف خاصة تتعلق باهتمام المستشرقين بالدراسات اللغوية العربية ، وأهداف عامة تتعلق باهتمامهم باللغة العربية بشكل عام.
فأما أهدافهم التي تتعلق باهتمامهم بالدراسات اللغوية العربية ، فمنها : كون الدرس اللغوي عند العرب حلقة متوسطة بين النظام اليوناني في الغرب ، والنظام الهندي في الشرق ، يؤدي البحث عنها وكشفها إلى بيان العلاقة بين هذه المدارس المختلفة ، وكذلك أهمية النحو العربي في تعلم اللغة ([4]) ، بالإضافة إلى القيمة الكبيرة للدراسات اللغوية العربية ؛ لأنها جزء مهم في منظومة العلوم الإسلامية " وقد عدها "فايس" Weiss على درجة كبيرة من الأهمية لمن أراد أن يقوّم الحضارة الإسلامية ، بل ذهب هذا المستشرق إلى أبعد من ذلك ، فنوه بأهميتها التي تتجاوز دورها الكبير في تاريخ الدرس اللغوي بعامة ، إلى مكانتها في دراسة تاريخ الفكر الإنساني على الإطلاق " ([5]) .
وأما الأهداف والدوافع العامة التي كان ـ وما يزال ـ يرجع إليها الاهتمام باللغة العربية بشكل عام فهي متنوعة على النحو الآتي :
أ ـ أهداف حضارية .
ب ـ أهداف اقتصادية وسياسية .
ج ـ أهداف تنصيرية .
د ـ أهداف لاهوتية .
هـ ـ أهداف علمية وثقافية .
فأما الأهداف الحضارية فيقصد بها القضاء على حضارة الإسلام ، وقد اكتشف الغرب أن ذلك لن يتأتى إلا بالقضاء على الدين الذي هو حصنها ودعامة حضارتها ، ومن مستلزمات ذلك دراسة لغة العدو لتكون مفتاحاً لفهمه والدخول إليه حضارياً والقضاء عليه ثقافياً ، ولذا كثرت المراكز والمعاهد التي عنيت بجمع المخطوطات وأمهات الكتب وعقد الدراسات والبحوث في كل جانب من جوانب الحضارة الإسلامية وأحوال أهلها ، وفي مقدمة ذلك الدراسات المستفيضة في الجوانب اللغوية المختلفة .
وأما الأهداف الاقتصادية والسياسية ، ففي ذلك يقول وليام بدويل (1561 ـ 1632) في سياق ترغيبه في تعلم العربية : " إنها هي لغة الدين الوحيدة وأهم لغة للسياسة والعمل من الجزائر السعيدة إلى بلاد الصين " ([6]) . ومما يذكر في هذا المجال أن الشركات التجارية الكبيرة كان لها دور في دعم المشروعات الاستشراقية ؛ ومن أمثلة ذلك تأسيس شركة الهند الشرقية البريطانية كلية Haileybury ليدرس موظفوها لغات البلاد التي يتعاملون معها ، وكانت العربية من بين هذه اللغات " وفي عام 1265 م كُتبت باللغة العربية المعاهدة التجارية التي أبرمت بين تونس وبيزا ، ومنذ الحملة الصليبية الرابعة انفردت إيطاليا في أعمالها عن بقية الصليبيين واهتمت بتحسين علاقاتها التجارية مع الشرق الإسلامي ، فكانت البندقية همزة الوصل بين الشرق والغرب ، وتكلم أهلها العربية حتى سقوط القسطنطينية في قبضة محمد الثاني 1435 م ... وفي سنة 1797 م تألفت حملة نابليون إلى مصر ، وفيها بعثته العلمية التي كان قوامها المستشرقين والمترجمين الشاميين ... (وعلماء أعلاماً) في كل فن من فنون الثقافة في ذلك العصر ، ليمكن اعتصار خيرات البلاد والسيطرة على كل شيء فيها " ([7]) .
وقد وظفت الدراسات اللغوية لخدمة غرض بسط الهيمنة والاحتلال وتمجيد الاستعمار وإجلاله ، وكان المستشرق الفرنسي آرنست رينان (1892 م) من أبرز من عُنوا بتأصيل هذه الفكرة ، فقد انتهى من دراساته في مجال فقه اللغة المقارن إلى أن اللغات قسمان : آرية وسامية ، ولكل منهما خصائصها التي تميزها وتميز الناطقين بها ، ومما قاله في هذا أن الجنس السامي أقل شأناً من الجنس الآري لأن عقليته تتسم بالبساطة التي هي أقرب إلى الضحالة والسذاجة في اللغة والصنعة والفن والمدنية ، أما الجنس الآري فتتميز عقليته بأنها تميل إلى التعدد والانسجام والتركيب وقدرتها على وضع الفلسفات والمناهج والشعر الراقي . ومعنى ذلك أن مثل هذه الدراسات تقدم الأساس الفلسفي لدعوى تفوق الأوربيين على شعوب الشرق ، وتقدم المسوغ في الوقت نفسه لاحتلالها بل لمطالبتها بتقدير هذا الجميل الذي تقدمه الدول المستعمرة لها ([8]) !
وأما التنصير فهو ذو علاقة وثيقة بالاستشراق ، بل إنهما توءمان يصعب التفريق بينهما كثيراً وبخاصة في بداية نشأتهما ، فقد كان علماء الكنيسة المسيحية هم أول من اعتنى بدراسة اللغة العربية وتعلمها .
فأول مؤسس لكرسي الاستشراق في جامعة أكسفورد هو رئيس الأساقفة واسمه "لود" ، كان ذلك في سنة (1636) . وكان من أهداف أول جالس على كرسي اللغة العربية في كمبردج في السنة نفسها أن يعد مشروعاً لتفنيد القرآن ، كما كان من أهداف هذا الكرسي أيضاً تمجيد الله بتوسيع حدود الكنيسة ، والدعوة إلى الديانة المسيحية بين هؤلاء الذين يعيشون في الظلمات !
ويقول جيوم بوستل (ت 1581 م) أول من شغل كرسي اللغة العربية في "الكوليج دي فرانس" في باريس عن اللغة العربية " إنها تفيد بوصفها لغة عالمية في التعامل مع المغاربة والمصريين والفرس والأتراك والتتار والهنود ، وتحتوي على أدب ثري ، ومن يجيدها يستطيع أن يطعن كل أعداء العقيدة النصرانية بسيف الكتاب المقدس " ([9]).
ويقول "يوهان فوك" في ترجمته لسيرة "كارل بروكلمان" : " نشأت في نفس الصبي رغبة ملحة في أن يجوب العالم سواء كطبيب بحري ، أو مترجم ، أو مبشر . وكانت الترجمة الأولى للقرآن الكريم (1143 م) إلى اللاتينية ، بتوجيه من بيتروس فينيرابيليس رئيس دير كلوني في إسبانيا " ([10]) . كما أن الكاردينال "فريدريك دي مدسيس" وهو من الأسرة المالكة في إيطاليا أنشأ سنة 1536 م مطبعة في فلورنسا وطبع فيها ثمانية عشر ألف نسخة من الإنجيل باللغة العربية ، ونشر في مطبعته كذلك كتاب "قواعد العربية" ([11]) .
فكل هؤلاء من خلال حرصهم الشديد على دراسة اللغة العربية وترجمتهم الإنجيل إليها وترجمة القرآن للاتينية لم يكن هدفهم علمياً ، بل كان هدفهم الرد على الإسلام وإثارة الشبهات والاختلافات في الأمور الدينية وتنصير المسلمين فيما بعد.
وأما الأهداف اللاهوتية فخلاصتها أن للغة العربية أهمية كبيرة من هذه الناحية تتمثل في أنها ـ ببقائها حية وبأصلها السامي ـ تساعد على فك طلاسم نصوص العهدين القديم والجديد وفهمها ؛ لأن لغتيهما (العبرية القديمة للعهد القديم والآرامية للعهد الجديد) قد ماتتا ، بل لم يبق من سائر اللغات السامية إلا العربية ، وقد تمكن علماء اليهود والنصارى من خلال هذا الجسر اللغوي الماثل في الشبه والعلاقة بين العربية وغيرها من الساميات المنقرضة من فهم كثير من النصوص الدينية اليهودية والنصرانية ، يقول يوهان فوك عن المستشرقين الذين معظمهم من اللاهوتيين : " لم يدرسوا اللغة العربية لقيمتها الأدبية أو للتعمق في تاريخ الإسلام أو لدرس تطور الأدب عند المسلمين ، بل لاستعمالها وسيلة لدرس العهد القديم واللغة العبرانية " ([12]).
ولم يخل الاستشراق والاهتمام باللغة العربية من أهداف علمية وثقافية خالصة ؛ لأن المسلمين ظلوا متقدمين وأساتذة العالم من القرن التاسع الميلادي إلى القرن الرابع عشر ، فقد كان من يرغب من الغربيين في العلم أو الفن أو الأدب أو الفلسفة ييمم شطر الشرق مستخفاً بالجامعات الغربية آنذاك ، فهذا "إدلارد" الذي درس في الأندلس وسوريا في الربع الأول من القرن الثاني عشر وترجم إلى اللاتينية كثيراً من كتب الفلك والرياضة عن العربية ، وهذا فولتير يقول : إنه لم يبدأ كتابة القصة إلا بعد أن قرأ ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة ، والاستشراق الألماني يوصف بأنه كلاسيكي ؛ لأنه استشراق بحثي قائم على دراسة النصوص والأفكار والأساطير التي جمعها من الشرق البريطانيون والفرنسيون ، وأوضح دليل على استفادته من الشرق العملان المشهوران : "الديوان الغربي الشرقي" لجوته ، و"في لغة الهند وحكمتها" لفردريك شليغل ، وكلاهما قاما على رحلة فوق نهر الراين وساعات أمضيت في مكتبات باريس على التوالي ([13]) .
------------------------------------
[2]) ) ـ انظر : المستشرقون وتاريخ صلتهم بالعربية ، للدكتور إسماعيل عمايرة (دار حزين ـ عمّان ـ ط2 ـ 1992) 21 ـ 27 .
[3]) ) ـ انظر : الاستشراق ، المعرفة ـ السلطة ـ الإنشاء ، لإدوارد سعيد ، نقله إلى العربية كمال أبو ديب (مؤسسة الأبحاث العربية ـ بيروت ـ ط2 ـ 1984) 80 ، وانظر الفصل الثاني من كتاب " الاستشراق وجه للاستعمار الفكري " للدكتور عبد المتعال محمد الجبري (مكتبة وهبة ـ القاهرة ـ ط1 ـ 1995) .
[4]) ) ـ لذا قام بعض المستشرقين بترجمة بعض كتب النحو إلى لغاتهم ، كما قام بعضهم بتحقيق هذه الكتب ونشرها .
[5]) ) ـ المستشرقون ونظرياتهم في نشأة الدراسات اللغوية (دار حزين ـ عمّان ـ ط2 ـ 1992) : 13 .
[6]) ) ـ السابق : 22 .
[7]) ) ـ الاستشراق وجه للاستعمار الفكري ، للدكتور عبد المتعال محمد الجبري : 76 ، 77 .
[8]) ) ـ انظر : نظرات في حركة الاستشراق 54 ، 55 .
[9]) ) ـ السابق : 39 .
[10]) ) ـ المستشرقون ونظرياتهم في نشأة الدراسات اللغوية 25 ، 26 .
[11]) ) ـ انظر : الاستشراق وجه للاستعمار الفكري 81 .
[12]) ) ـ السابق : 30 .
[13]) ) ـ انظر : الاستشراق لإدوارد سعيد 52 ، 53 و المستشرقون ونظرياتهم في نشأة الدراسات اللغوية 32 ـ 34
----------------------------
د . عبد السلام حامد
أستاذ مشارك بجامعة قطر