النص : في المدح - تأبط شرًّا([1])
إنِّي لمُهدٍ مِن ثَنَائِي فَقَاصِدٌ * بِه لابنِ عمِّ الصدقِ شمسِ بن مالكِ([2])
أهزُّ بِه فِي ندوةِ الحي عِطْفَهُ * كما هزَّ عِطفِي بالهِجَانِ الأَوَارِكِ
قليلُ التَّشَكِّي للمُهِمِّ يُصِيبُهُ * كثيرُ الهوى شَتَّى النَّوَى والمَسَالِكِ
يظلُّ بِمَومَاةٍ ويُمسِي بغيرها * جَحِيشًا وَيَعْرَورِي ظُهُورَ المَهَالِكِ
ويسبقُ وفدَ الريحِ مِن حيثُ يَنتَحِي * بِمُنخَرِقٍ مِن شَدَّهِ المُتَدَارِكِ
إذا حَاصَ عَينيهِ كَرَى النومِ لم يَزَلْ * لَه كَالِىءٌ مِنْ قلبِ شَيحَانَ فَاتِكِ
إذا طلعَتْ أُولَى العَدِىِّ فَنَفْرُهُ * إِلى سَلَّةٍ مِن صَارِمِ الغَربِ بَاتِكِ
إذا هزَّهُ فِي عَظمِ قِرْنٍ تَهَلَّلَتْ * نَوَاجِذُ أَفْوَاهِ المَنَايَا الضَّوَاحِكِ
يَرَى الوَحشَةَ الأُنسَ الأَنِيسَ ويَهْتدِي * بحَيثُ اهتَدَتْ أمُّ النُّجُومِ الشَّوَابِكِ([3])
لما كان هذا النص نصاً فنياً ، ولما كانت أبياته آخذًا بعضها بحُجُز بعض – ساغ لنا أن نقول إن جمَلَه المجازية تؤثر في الجمل الحقيقية التي تجاورها ، وتتأثر بها في الوقت نفسه ؛ ومن ثَمّ تعد دلالات تلك الجمل الحقيقية ليست دلالات حقيقية مطلقة ، وإنما هي دلالات حقيقية يشوبها شيء من المجاز .
والنص في مدح أحد الصعاليك وهو شمس بن مالك ، والشاعر صعلوك كذلك . وهذا الانتساب المشترك يجعل المتلقي يتوقف عند حقيقة كون النص في مدح هذا الصعلوك على جهة التحديد . فقد يكون شمس بن مالك مجرد مثال للصعلوك الحقيقي ، وقد يكون مجرد رمز لفئة الصعاليك ؛ فمدحه إنما هو مدح لهذا الجنس من الناس ، وقد يُراد أن يمدح الشاعرُ نفسَه من خلال مدحه صعلوكا آخر . والنص بعد هذا كله – وإن كان ظاهره المدح – يعد وصفا للصعلوك المثال الذي يُقتدى به .
ولم يكن هناك بُدّ - لوصف مثل هذا الصعلوك الذي يكاد ينتمي إلى عالم المجاز لا إلى عالم الحقيقة – من أن يكون للجمل المجازية دور في تشكيل صورة ذلك الصعلوك .
وقد احتوت هذه القصيدة على مجموعة من الجمل المجازية التي يمكننا من خلالها بيان حركة الدلالة داخل النص . وبنيت أكثر المجازات على علاقة الإضافة ؛ إذ لم تخل جملة مجازية من إضافة على جهة المجاز سوى جملة واحدة. ولعل دوران القصيدة حول غرض واحد كان سببا في عدم تنوع العلاقات المشكلة للمجاز في هذا النص . ومن ثم تصبح لهذه العلاقة خصوصية في هذه القصيدة ؛ تلك الخصوصية هي استغلال الشاعر دلالة الإضافة على معنى ( مِن ) لبيان الجنس ، ليستأنف أجناسا جديدة تنتسب إلى عالم القصيدة أكثر من انتسابها إلى عالم الواقع .
ويجابهنا الشاعر بإضافة مجازية في أول أبيات القصيدة هي قوله ( ابن عم الصدق ) ، والإضافة في هذا المركب الإضافي قد تكون على معنى اللام للاختصاص أو الاستحقاق على جهة المجاز ؛ فإذا ما كان المراد الدلالة على اختصاص الممدوح – دون غيره – بكونه ابن عم الصدق ، فسيكون هذا الانتماء إلى الصدق هو الدافع والمحرك لكل الصفات التي اتسم بها هذا الصعلوك النموذج، والتي أوردها الشاعر في الأبيات التالية . أما إذا كان المراد الدلالة على الاستحقاق فإن المعنى ينصرف إلى أن هذه الصفات هي التي أهَّـلت ذلك الصعلوك لأن ينتسب إلى الصدق . فعلى معنى الاختصاص يصبح الشاعر مجرد مخبر عن هذا الانتساب ، في حين أن معنى الاستحقاق يفضي إلى أن يكون الشاعر هو الذي خلع على صعلوكه هذا الانتساب لأن صفاته تؤهله لذلك .
إن ورود هذا المركب الإضافي المجازي في مطلع القصيدة يعد إجمالا يومئ إلى التفصيل الذي يتلوه على مدار أبيات القصيدة .
والذي يسترعي الانتباه أن هناك من الجمل ما صاغه الشاعر على جهة الحقيقة ؛ نحو وصف الممدوح بأنه قلما يشكو ما نزل به من الخطوب ، وأنه كثير الهمم ، مختلف الشئون ، وأنه كثير الجولان في المفاوز يعيش فيها وحيدا ...إلى غير ذلك من الصفات التي وردت على جهة الحقيقة . لكن مجاورة هذه الجمل للجمل المجازية جعلها تتأثر بها وتؤثر فيها . فمن كانت تلك صفاته ، على جهة الحقيقة ، أحرى بأن يركب ظهور المهالك ، على جهة المجاز . فكأن الجمل الحقيقية توطئة تنبئ عن هذا المجاز وتفضي إليه .
لم يكن مستغرباً – إذن – أن يعدل الشاعر عن الحقيقة إلى المجاز الخالـص ، وبخاصة في تلك الصفات التي ينفرد بها ممدوحه ؛ نحو وصفـه بأنه ( يعروري ظهور المهالك ) ؛ أي : يركبها . فمَن ذلك الرجل الذي يستطيع أن يتخذ ظهور المهالك مطية إلى مراده ؟! إنها لا شك صفة لا يشركه فيها غيره .
وهذه الجملة لا تمتنع من جهة الفاعلية ، لكنها ممتنعة من جهة علاقة المفعولية ؛ إذ لا يتصور أن يمتطي هذا الفاعل أو غيره ( ظهور المهالك ) على جهة الحقيقة . لكن السبب الحقيقي في تحول علاقة المفعولية إلى المجاز هو تقييد المفعول به ( ظهور ) بالإضافة إلى ( المهالك ) ، ولو جاء الكلام ( يعروري ظهورا ) لما كان شيئا . وكذلك لو استبدل بكلمة ( المهالك ) كلمة أخرى تقبل الدخول في علاقة دلالية حقيقية مع هذا المضاف ؛ كأن يقال ( ظهور الإبل أو نحـوها ) – لكان كلاما ساقطا لا معنى له .
فإتيان الإضافة في هذا المركب ( ظهور المهالك ) على جهة المجاز قد حولت الجملة برمتها إلى المجاز ؛ إذ استُأنف بهـذا التقييد جنس جديد من (الظهور) ، إنها ليست ظهورا عادية تنتمي إلى ذلك النوع الذلول . لكنها تنتمي إلى جنس المهالك ؛ على اعتبار أن الإضافة – هنا – على معنى ( من ) لبيان الجنس .
فإذا كان الممدوح قد تعود ركوب هذه الظهور – وذلك هو معنى التجدد والحدوث المستفاد من التعبير بالفعل المضارع : يعروري – ففي ذلك ما فيه من المبالغة وبيان مدى شراسة هذا الرجل وجراءته .
ثم يعطف الشاعر على هذه الجملة المجازية جملة مجازية أخرى هي قوله ( يسبق وفد الريح ) ؛ وهذه الجملة تتفق مع سابقتها في البناء النحوي إذ صيغت كلتا الجملتين كما يلي : ( فعل مضارع + فاعل مستتر "هو" + مفعول به جاء على جهة المركب الإضافي المجازي ) . وهذا يوحي بأن الدلالة العامة للجملتين واحدة ؛ فإذا كان الممدوح قد تعود ركوب ظهور المهالك ، فلا بأس أن يجعله الشاعر يسبق وفد الريح على جهة التجدد والحدوث كذلك .
والإضافة في قوله ( وفد الريح ) بمعنى ( مِن ) لبيان الجنس كذلك ؛ فالتقييد استأنف جنسا جديدا من الوفود ليس كتلك الوفود المعهودة في عالم الواقع .
وإنما اعتبرنا الإضافة على معنى ( من ) في التركيبين ( ظهور المهالك – وفد الريح ) ، وليست بمعنى اللام كما كان الحال في ( ابن عم الصدق ) – في مطلع القصيدة – لأن هذين التركيبين ليسا مرادين في ذاتهما ، وإنما لكونهما في موقع المفعول به. فالشاعر لا يعنيه إثبات ظهور للمهالك بقدر ما يعنيه أن يمتطي الشاعر هذه الظهور ، وكذلك لا يعنيه إثبات وفد للريح بقدر عنايته بأن يسبق الشاعر ذلك الوفد .
وذلك بخلاف انصراف عناية الشاعر إلى المركب الإضافي ( ابن عم الصدق ) بغض النظر عن علاقته بغيره من العناصر النحوية في الجملة ؛ فالشاعر يعنيه – في المقام الأول – إثبات أن للصدق ابن عم هو ذلك الممدوح .
ثم ينتقل الشاعر إلى بيان صفة أخرى من الصفات التي ينفرد بها هذا الممدوح ، وذلك بيانه أن هذا الرجل لم يزل متيقظا حتى إذا نامت عينه ظل قلبه متيقظا .
وقد صاغ البيتَ الذي احتوى هذا المعنى – وكذلك البيتان التاليان – صياغة شرطية ، وبنى جملة الشرط : ( حَاصَ عينيه كرى النوم ) بناء مجازيا ؛ والمجاز هنا من جهة علاقتي الفاعلية والمفعولية كلتيهما . وقد أسند الشاعر الخياطة إلى الكرى – أي النوم الخفيف – ليتحقق معنى أن هذا الممدوح لا ينام ، إنما يظل مستيقظا حتى يكون الكرى هو الذي يؤثر في عينيه فيخيطهما . ثم يأتي دور جملة الجواب لتبين أن للممدوح قلبا ، يصفه – على جهة المجاز – بأنه فـاتك ، وهو الذي يفاجئ غيره بالمكروه . فإذا ما أثر الكرى في عيني الممدوح ظل قلبه مستيقظا لا ينام .
وكما بنى الشاعر جملة الشرط بناء مجازيا فيما سبق ، نجده يبنـي جملة الجواب : ( تهللت نواجذ أفواه المنايا الضواحك ) بناء مجازيا ، وهي جواب قوله عن سيف الممدوح : ( إذا هزه في عظم قرن ) . وقد تحقق المجاز من جهة الفاعلية والإضافة والنعت ، لكن تكمن مجازية هذه الجملة في التركيب الإضافـي ( أفواه المنايا ) ؛ إذ يعد هذا التقييد المجازي استئنافا لجنس جديد من أجناس الأفواه ؛ إنها من جنس المنايا ، فالإضافة – هنا – علـى معنى ( مِن ) لبيان الجنس .
ولو حُذفت كلمة ( المنايا ) وأصبح الكلام ( تهللت نواجذ أفواهٍ ضواحك )، لما كان شيئا . ولو استُبدل بكلمة ( المنايا ) كلمةٌ من حقل دلالي مختلف ، تقبل الدخول في علاقة الإضافة مع كلمة ( أفواه ) على جهة الحقيقة – لانصرفت علاقتا الفاعلية والنعت إلى الحقيقة .
وقد صيغت هذه الصورة صياغة شرطية للاستفادة من ذلك التلازم بين جملتي الشرط والجواب ؛ فضربُ هذا الممدوح بسيفه يستتبعه تهلل المنايا وبدوّ نواجذها فرحا ، ذلك أنها على يقين من أنه إذا ضربَ بسيفه أهلكَ قرينه وقدمه هدية للمنايا .
إن جُمَل هذا النص – والمجازية منها على وجه أخص - تضع أمامنا صورة مكتملة الأركان لذلك الصعلوك المثال ، الذي يفخر الشاعر بأن يكونه .
----------------------------
([1]) انظر : ديوان الحماسة بشرح التبريزي ، ج1 صـ22-23 ( دار القلم ، بيروت ، د.ت.).
([2]) رواية البيت الأول ( إني ) بخرم التفعيلة الأولى ، لتتحول من ( فعولن ) إلى ( عولن ) .
([3]) عِطف كل شيء : جانبه ، الهجان : الإبل الكريمة ، الأوارك : التي ترعى شجر الأراك ، النوى : الخطوب ، الموماة : المفازة التي لا ماء فيها ، الجحيش : المنفرد ، يعروري : يركب . المنخرق : السريع الواسع . المتدارك : المتلاحق ؛ ومعناه أنه لخفته ونشاطه يسبق الريح من حيث يقصد بعدو وجرى سريع متسع متلاحق. حاص : خاط ، الكالئ : الحافظ . الشيحان : الحازم . الفاتك : الذي يفاجئ غيره بالمكروه . العدى : الرجالة يعدون قدام الجيش . الغرب : حد السيف . الباتك : القاطع . الشوابك : النجوم .