الحمدُ لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على نبيّنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه وسلم تسليماً كثيراً ، وبعد...
فالبحث يتناول قضيتين من قضايا الأسلوبية لدى الدارسين العرب المعاصرين ، ويحاول الاجابة عنهما.
الأولى: قضية تطبيق الاسلوبية الغربية المعاصرة على النص القرآني. من غير مراعاة خصوصية النص القرآني من حيث المرسل والمتلقي والرسالة.
والقضية الثانية: جذور الأسلوبية في الموروث البلاغي العربي.
ورأى الباحث : أن أوضح جهود للقدامى يمكن عدّها اسلوبية تنسجم مع دراسة النصّ العربي الإسلامي وتحليله تحليلا اسلوبيا معاصرا مؤسسا على خصوصية النص العربي الاسلامي الذي ينأى عن النصوص الغربية وانظمتها اللغوية ، تتجلى في جهود علماء إعجاز القرآن القدامى، وتطبيق الزمخشري علم المعاني في تفسيره الذي يستنبط الدلالة من كل مكونات النص. يمكن تسميتها بالاسلوبية العربية الاسلامية، وهي أسلوبية قائمة على النصّ الإسلامي: القرآن والأدب الإسلامي المؤسس على العقيدة الإسلامية وما تتضمنه من تصور للوجود([1]). تقابل الاسلوبية الغربية المستقاة من أدبهم ومعتقداتهم وفلسفاتهم وثقافاتهم وأنظمة لغاتهم الغربية.
منهج الدراسة وأهدافها :
إن بواعث البحوث العلمية ، والحاجة إليها ، والأسس التي تبنى عليها والمناهج التي تنتهجها ومنطلقاتها الفكرية، هي مؤثرات في خطوط البحث العلمي ونتائجه.
وان دراسة النص القرآني دراسة دلالية أسلوبية لذاتها تنأى عن الدراسة التي تأتي عرضاً في أثناء المنافحة عن القرآن واثبات إعجازه، والوقوف أمام الشبهات التي أثيرت حول النص القرآني والطعن الموجه لأسلوبه ونظمه ودلالاته. وإثبات أن القرآن نزل بلغة العرب وأساليبها ومجازاتها كما لدى الأشاعرة والمعتزلة والمتكلمين وغيرهم. يتضح ذلك من مصادر البلاغة الأولى كمجاز القرآن لأبي عبيدة (210هـ) ورسائل الجاحظ وكتبه([2]) ، وابن قتيبة (276هـ) في (تأويل مشكل القرآن) وكتب إعجاز القرآن ناهيك عن خلطهم النص القرآني بالقراءات القرآنية ولاسيما الشاذة منها والمستويات اللغوية الأخرى.
إن مدار البحث البلاغي والأسلوبي للنص القرآني هو قضية إعجاز القرآن، وإن البلاغة في مراحلها الأولى نشأت في هذا الجو وفي ظل خلافات مذهبية وسياسية وصراع على السلطة، وقد ذهب احد الباحثين إلى أن السياسة صنعت البلاغة ([3]).
من هنا يشترط علينا تحديد الدراسة وأهدافها وأسسها والتزام الرصانة العلمية والموضوعية والتحقق من الموروث اللغوي قبل البناء عليه ، ومن نتائجه ووسائله. يقول تمام حسان: إذا درست اللغة بمنهج جديد ، فسوف تخرج بنتائج جديدة([4]).
يؤسس المنهج على أمرين:
- ملاحظة خصوصية أسلوب القرآن من حيث المرسل والرسالة والمرسل إليه ، ومن حيث دلالات الرسالة ، وطريقة نقلها من عالم الغيب الى عالم الشهادة.
- تحدد الدراسة في النص القرآني المحفوظ بين دفتي المصحف (الإمام)، وعدم خلطه بالمستويات اللغوية الأخرى كالقراءات واللهجات والضرورات الشعرية وسائر الأدلة النقلية الأخرى فما يرد في الدراسة من ذكر (اللغة العربية) نقصد بها (النص القرآني) أو عربية القرآن الكريم.
المبحث الأول:
خصوصية أسلوب القرآن الكريم:
خصوصية أسلوب القرآن من حيث المرسل والرسالة والمرسل إليه ، ومن حيث دلالات الرسالة ، وطريقة نقلها من عالم الغيب الى عالم الشهادة.
فالمرسل خالق كل شيء أحد صمد ) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ )( سورة الشورى: الآية11) ( قال تعالى : ) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( (سورة الزمر:67)
أما المرسل إليه فعام من انس وجان في كل مكان وزمان ، وهو خاص من حيث الإقبال على الرسالة بقلب مطمئن وليس كل متلقٍ لها. إذ ثمة صلة روحية بين المتلقي والرسالة ، تختلف من متلقٍ إلى آخر بحسب إيمانه وثقافته وعصره وهدايته وسلوكه إلى الله تعالى.
أما الرسالة وهي النص القرآني فمعجزة ، ثابتة الألفاظ متحركة المعانى تصلح لكل متلقٍ في كل زمان ومكان، تحمل دلالات بعضها فوق طاقة العقل الإنساني واستيعابه ولاسيما في تعبيرها عن الغيب ، دلالات شاملة لمخلوق عام ،. فأسلوب القرآن يتفرد بوصفه للحقيقة المطلقة الشاملة فوق المتغيرات الزمانية والمكانية وما يدركه العقل البشري وما لا يدركه ، فيصف وصفاً دقيقاً الأشياء ليستوعبها العقل وقد أشار أكثر من باحث معاصر إلى ذلك كالدكتور محمد شحرور([5]). وعالم سبيط النيلي الذي قال " اللفظ عند المخلوق له معنى اتفاقي اصطلاحي ، وفي كلام الخالق له معنى أصلياً " سماه (المعنى الحركي) وهو أصل جميع المعاني لا يتغير ،لأنه حقيقة الشيء في مقابل ، (المعنى الاصطلاحي)([6]).
فالنص القرآني ينأى عن النص البشري بكل أجناسه لذلك يشترط على الدارس ملاحظة تلك الخصوصية ودراسته دراسة خاصة تختلف عن دراسته النصوص الأخرى. كما نجد في الموروثين : النحوي والبلاغي وكذلك في أطروحات علم اللغة الحديث ومناهجه ، لم تلحظ خصوصية الرسالة في النص القرآني في كثير من أطروحاتهم كالوصفية والتوليدية والسيميائية والتاريخية وكذلك الأسلوبية وغيرها. وكقوانينهم في تطور اللغات أو تقسيم اللغات على فصائل وأسر، وعدّهم فكرة نشأة اللغات والمفاضلة بينها ضرباً من الأساطير ، وقولهم باعتباطية اللغة وهو قول يتقاطع مع النظام المحكم للغة العربية. وغير ذلك.
قضية تطبيق الاسلوبية الغربية المعاصرة على النص القرآني:
هل تصلح أطروحات علم اللغة الحديث ونظرياته من حداثة وما بعد الحداثة والأسلوبية الحديثة والمناهج النقدية الحديثة درساً وتحليلاً وتطبيقاً على النصّ القرآني كما هي من غير اعتبار لخصوصية اللغة العربية والنصّ القرآني ونظامها الذي ينأى عن أنظمة اللغات الغربية ولاسيما الإنجليزية والفرنسية وغيرهما مما كانت ميداناً ومرتكزاً وتطبيقا ًللنظريات اللسانية.
إن مناهج الدراسات اللسانية والنقدية والاسلوبية الحديثة كثيرة ومتشعبة لا يمكن الإحاطة الكاملة بها وبتفاصيلها ودقائقها([7]) أو تطبيقها كما هي تطبيقا تقليدياً على النصوص الإبداعية العربية والنص القرآني ، وليس من وكدنا ذلك بقدر الإطلاع عليها وفهمها والاستفادة مما يصلح منها لدراسة النصّ العربي ولا سيما النص القرآني ، وانتخاب ما يلائمه من نظريات الاسلوبية العامة ومناهجها لكونها تطبيقاً ألسنياً على الأدب او اللغة الإبداعية. والنص القرآني أعلى نص عربي.
إذن ثمة مشكل في التناول الأسلوبي ومحاذير ينبغي الوقوف عليها. فضلاً عن علمانية الأسلوبية وارتباطها بالفكر الغربي المادي او الديني على وفق العقيدة المسيحية او العلمانية ، التي تتقاطع مع الجانب الروحي للنصّ القرآني والنظرة القدسية له وللغة العربية.
والنقد العربي الحديث متأثر بالنقد الغربي ومتابع له ومتطفل عليه ولاسيما بالفلسفات المادية، على الرغم من تراثه الغني المبني على النصّ القرآني خاصة. والنقد الغربي الحديث مبني على نصوص الأدب العالمي كجان جاك روسو وغيره وعلى إحياء أساطير تبناها الأدب المعاصر فإذا كان التقاؤهم في الأدب الإنساني والتجربة الإبداعية للأديب ، لكنهم لا يلتقون بالرؤية الى النص القرآني وخصوصيته وارتباطه باللغة العربية ونظامها المحكم الذي يختلف عن أنظمة اللغات الأخرى. النصّ المرتبط بالخالق عزّ وجل (المرسل) وبالجانب الروحي لدى (المتلقي) و(الرسالة) المنقولة من الغيب.
"ورغبة من النقد العربي المعاصر في مواكبة الاتجاهات النقدية العالمية الحديثة ، حاول ترجمة هذه الدراسات النظرية ، وقليلاً ما قام بتطبيقها بالصورة السليمة والموضوعية على النصّ العربي ، ومن هنا برزت مشكلة التنافر وعدم التآلف – في اغلب الأحيان- بين المادة المترجمة والإبداع العربي ، بين المنهج الغربي وأدبنا في مختلف البلدان العربية([8]). ويبدو أن جل الدارسين العرب ينظرون للفكر الغربي في اللغة والنقد نظرة إعجاب وإكبار لما شهده الغرب من تطور في الميادين العلمية المختلفة. وهذا قد لا ينطبق على علوم اللغة فالموروث اللغوي والبلاغي والنقدي العربي لا يقل أهمية عما يقدمه الغربيون المعاصرون.
ينبغي التركيز من النظريات والمناهج الألسنية الحديثة على ما له صلة بالمنهج الذي يستنبط الدلالة من كل مكونات النص ، وهذا هو مفهومنا للأسلوبية هنا في الأقل. وهو أقرب الى مفهوم الاسلوبية العربية الإسلامية ، او الدراسات التي تناولت أسلوب القرآن الكريم مستفيدين من الموروث البلاغي والدراسات الاسلوبية المعاصرة.
المبحث الثاني:
جذور الأسلوبية في الموروث البلاغي العربي :
يرى كثير من الدارسين العرب للاسلوبية الغربية جذوراً وأصولاً في الموروث العربي: البلاغي والنحوي والأدبي والنقدي وفي كتب الإعجاز التي تناولت النصّ القرآني وإعجازه([9]) وكتب اللغة والبيان والبلاغة والنقد كابن المقفع والجاحظ والمبرد وابن المعتز وعبد القاهر وقدامة بن جعفر والامدي والقاضي الجرجاني ابن طباطبا العلوي والسكاكي وابن خلدون والسكبي والتفتزاني وغيرهم.
قال د. عياد: "إن الاسلوب يكون أكثر تحديداً لدى النقاد المغاربة: حازم القرطاجني في منهاج البلغاء 684 هـ وابن خلدون 808هـ([10]).
قال باحث آخر: "نظرت في البلاغة العربية عند القدماء ، فوجدت ان قضايا كثيرة عرضوا لها بأسماء مختلفة عن قواعد الاسلوبية الحديثة ونظرية السياق في العصر الحاضر"([11]) وقال آخر "علم الاسلوب ليس غريباً عن البيئة العربية ولاسيما في القرنين الثالث والرابع الهجريين([12]).
وأوضح صلة بينهما تبدو أنهما يقومان على دراسة العدولعلى المعايير اللغوية او الانزياح كما اصطلاح المعاصرين دراسة فنية ، وشبّهوا قول البلاغيين بـ (مطابقة الكلام لمقتضى الحال) وقولهم (لكل مقامٍ مقال)([13]) بفكرة بالي حول مسألة علاقة الأشكال اللغوية بالفكر([14]).
ويرون أن الاسلوبية وريثة البلاغة وعلم لغة النص ، وهو قول الغربيين ايضاً([15]) ولا اعرف كيف يوفقون بين معيارية البلاغة القديمة وعلمية الاسلوبية وتفلتها من المعيارية فضلاً عن انهم ينسبون لكل ناقد قديم او بلاغي فهماً خاصاً للاسلوب والاسلوبية فابن طبا طبا ربط مفهوم الاسلوب بصفة مناسبة الكلام بعضه لبعض وعبد القاهر بتوخي معاني النحو وابن خلدون بجعله "الاسلوب صورة ذهنية مهمتها مطابقة التراكيب المنتظمة على التركيب الخاص لأن الصناعة الشعرية هي بمعنى الاسلوب ترجع الى صورة ذهنية للتراكيب المنتظمة كلية باعتبار انطباقها على تركيب خاص"([16]).
وجلّهم يعد النظم الذي قال به عبد القاهر هو الاسلوب ، لذا رأى بعضهم ان عبد القاهر مؤسس الاسلوبية العربية ، وتناولوا البلاغة القديمة بأسماء جديدة ، من خلال مشابهة شكلية وتناول تقليدي ، او خلط بين المصطلحات القديمة والحديثة([17]).
وقارنوا بين عبد القاهر وسوسير وتشومسكي وبالي وكروتشة وغيرهم وعدّوه السبّاق عليهم([18]).
ورأى د. لطفي عبد البديع ذلك تلفيقاً ، قال ساخراً: "يضع قبعة هذا على رأس ذاك ويثبت عمامة ذاك على رأس هذا ، ويقول للاول كن كروتشة ، وللثاني وانت عبد القاهر"([19]).
الأسلوبية العربية الإسلامية
والحق ان أوضح جهود القدامى يمكن عدّها اسلوبية تنسجم مع دراسة النصّ العربي الإسلامي يمكن تسميتها بالاسلوبية الاسلامية ولاسيما لدى علماء إعجاز القرآن فقد استعملوا مصطلح (الاسلوب) في بحوثهم حول إعجاز القرآن ويدل لديهم: "على الطرق المختلفة في استعمال اللغة على وجه يقصد به التأثير"([20])، كما لدى الخطابي والباقلاني وابن قتيبة وعبد القاهر الجرجاني وغيرهم([21]). ويبدو ان القدامى يقصدون بالاسلوب ما يخرج عن اللغة المألوفة ، وما سموه بطرائق العرب ومجازاتهم واساليبهم في الكلام.
وخير من وظّف مباحث إعجاز القرآن وعلم المعاني وطبقها على النصّ القرآني كله الزمخشري (538هـ) فقد ابتكر طريقة جديدة في تفسير النص القرآني لم يسبق اليها([22]) أسسها على علمي المعاني والبيان وتبعه مفسرون كثيرون ومايزال المعاصرون يحذون حذوها في الدراسات الاسلوبية القرآنية([23]).
"ارتبط استعمال القدماء لكلمة الاسلوب بمفهوم الكلام الإلهي ومقارنته بالكلام البشري. كما ارتبط بإدراكهم لوجود جانبين للاسلوب ، احدهما خفي ملموس ، والآخر متجسد في الصياغة اللغوية"([24]).
فهي أسلوبية قائمة على النصّ الإسلامي ، القرآن والأدب الإسلامي المتأسس على العقيدة الإسلامية وما تتضمنه من تصور للوجود([25]). تقابل الاسلوبية الغربية المستقاة من أدبهم ومعتقداتهم وفلسفاتهم وثقافاتهم ولغاتهم الغربية.
فالأدب الإسلامي "نابع من بيئة ثقافية مغايرة بل معادية لأسس الصياغة الثقافية الغربية المعاصرة التي ترفض الأديان أساساً او تكرس لأخرى. فهو أدب يقوم على مواجهة آداب عبثية او وجودية او آداب مسيحية او يهودية صهيونية ، وكل المذاهب الأدبية تصدر عن بيئات ثقافية وأيدلوجية محددة"([26]).
ويصاحب هذا الأدب الإسلامي نقد إسلامي ينطلق من الأسس نفسها: (العقيدة الإسلامية وتصورها للوجود) وترسيخها وإشاعتها وتعد ما يخالف تلك التصورات([27]).
لقد دعا الشيخ أبو الحسن الندوي في المجمع العلمي بدمشق الى إقامة أدب إسلامي ، ثم جاءت كتابات سيد قطب- رحمه الله- في هذا الاتجاه ، وتلاه الأستاذ محمد قطب في كتابه (منهج الفن الإسلامي) ، ثم كتاب نجيب الكيلاني: (مدخل الى الأدب الإسلامي) ، ثم الدكتور عماد الدين خليل خطا خطوة في هذا الطريق بكتابه: (النقد الإسلامي المعاصر) وغيرهم. وقد أخذوا على الأدب المعاصر اتخاذ الغموض غاية ، ودعوا الى الالتزام الإسلامي والعقيدة الإسلامية التي تستند الى الوضوح لا الغموض المضلل والعبث او اللهو والزينة والتفاخر كما وصفوا الأدب المعاصر([28]).
الاسلوبية الإسلامية خاصة بتحليل النصّ القرآني ذوقياً وتدبره ومعالجته فنياً واستنباط المعاني العالية والبليغة الإيحائية وظلال المعاني او القيم التعبيرية او اللمسات الفنية والأسرار البيانية في النصّ الإسلامي تستنبط من كل أجزاء النصّ: تركيبه وترتيبه ، أصواته وحركاته ومباني كلماته فواصله ، التذكير والتأنيث ، التعريف والتنكير وغيرها.
يقول صبحي الصالح: "فحين تسمع همس السين المكررة تكاد تستشيف نعومة ظلّها ، مثلما تستريح الى خفة وقعها في قوله تعالى: ) فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ * وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ ( (سورة التكوير15-18) ، بينما تقع الرهبة في صدرك وأنت تسمع لاهثاً مكروباً صوت الدال المنذرة المتوعدة مسبوقة بالياء المشبعة المديدة في لفظة (تحيد) بدلاً من تنحرف او تبتعد في قوله: ) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ ( (سورة قّ:19) ([29]).
إنّ في أسلوب القرآن دلالات بلاغية وأسراراً بيانية تستنبط من مكونات النص ومن النص كله من خلال المقارنة بين التراكيب المتباعدة ونظامه المتماسك
ومن خلال الإحصاءات ودقة الملاحظة يستشفها الدارس البلاغي او الاسلوبي. كحذف اداة النداء وإظهارها في النص القرآني كله يشير الى التمييز بين الخالق والعبد ، فإذا كان النداء موجهاً من العبد الى الخالق تبارك وتعالى يرد النداء بحذف أداة النداء و العكس كنداء زكريا عليه السلام ربّه سبحانه وتعالى: ) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيّاً ( (سورة مريم5) ونداء الخالق عزّ وجلّ عبده: ) يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيّاً ( (سورة مريم:7) ) يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ( (سورة مريم:12) ([30]).
ومن الدلالات الاسلوبية التي تستشف من النص كله مثلا: طغيان اسلوب الطلب في سورة مريم بصيغه المتعددة ، ذلك ان الأحداث التي تناولتها تحتاج الى هذا الاسلوب الخطابي لغرض التوضيح والبيان ، بسبب المباشرة في القول. وقلة ورود الصور البيانية كالمجاز والاستعارة والكناية والتشبيه في سورة مريم يؤكد هذا المعنى الدقيق الذي يستنبطه الدارس من الملاحظة الدقيقة للنصّ القرآني ، ومنها غلبة اسلوب التوكيد في سورة مريم تشير على حاجة الأحداث التي تناولتها لاستقرارها في ذهن المتلقي([31]).
وهي تنأى عن تحليل الأدب العربي الذي يمكن تطبيق أطروحات كثيرة من الاسلوبية الغربية عليه ، وان اختلفت في اعتمادها على أمهات مصادر التراث العربي في تشكيل الذائقة والمعرفة الأدبيتين ، والمناخ الذي تنتمي إليه ، كعمود الشعر الذي وضعه المرزوقي ليعلم الفرق بين المصنوع والمطبوع مما أطلقوا عليه بـ (المعتمد في الثقافة العربية)([32]) وكالمختارات الشهيرة: الحماسة والمفضليات والموسوعات الأدبية وكتابات ابن المقفع وعبد الحميد وبديع الزمان وابي حيان التوحيدي وغيرهم.
وهذا يختلف عن النص القرآني وشروط تفسيره وقدسيته ودوافع تناوله و شخصية متناوليه وثقافتهم الروحية وذائقتهم الخاصة.
ان المنهج الفني الذوقي يختلف عن المنهج الانطباعي الذي يقوم على الانفعال وربما على المغالاة والابتعاد عن الموضوعية وأسس العلم.
هذه الاسلوبية الإسلامية اصل البلاغة العربية التي نشأت من خلال الدفاع عن النصّ القرآني والإعجاز خاصة وإثباته الذي تناوله عبد القاهر في كتابيه: أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز ، وإجماعهم على ان إعجاز القرآن في نظمه واسلوبه.
إلاّ أنّ المتأخرين انتهجوا منهجا معياريا وصاغوا "قواعد صارمة صيغت باسلوب عقيم"([33]) وما نقرأه في كتب البلاغة المدرسية المعيارية فضلاً عن الخلط في مباحثها: نحو ولغة وبلاغة وأدب.
وقد ميّز الباحثون بين البلاغة الذوقية والبلاغة المنطقية المعيارية وسمّاها بعضهم بالبلاغة القاعدية والبلاغة القيمية. والأولى هي التي تتحدث عن مواطن الشاهد البلاغي... والثانية "ما يحمل الشاهد من معانٍ وطاقات وقيم تؤدي الى جماليات فنون القول العربي وتكشف عن الإعجاز القرآني.."([34]) .
الذي نعنى به من الاسلوبية الحديثة ، اهتمامها بالخصائص الفنية والملامح الدلالية الدقيقة التي أطلق عليها القدامى أسراراً بيانية ، تستنبط من خلال تدبر النصّ وطريقة نظمه ومباني ألفاظه ، مركزين على تفسير العدول في ضوء ذلك ، ناهيك عن ان العدول من أهم ميادين الاسلوبية الحديثة. لكنا نحاول تفسيره في ضوء نظام اللغة العربية ، وهو تناول أقرب الى مفاهيم الاسلوبية وعلم لغة النصّ الذين يتداخلا كثيراً.
وليس العدول خروجاً عن الأصول الافتراضية فأكثره داخل ضمن اطار النظام التركيبي للعربية وإنّ كثيراً مما قالوا بأنه عدول يرد في اللغة المألوفة العادية وان استنبطوا منه ملامح فنية اسلوبية ومعاني ثانية ، لكنه في تراكيب مستقيمة نحوياً سليمة وان أحدثت صوراً وكنايات وتشبيهات وخيالات او ما نسميه بالعدول الدلالي (الانزياح) لدى المعاصرين.
ولا يكشف هذه الملامح الاسلوبية إلا من لديه الموهبة الأصيلة وليس المكتسبة ، وإن كان بعض الدارسين خلط بين دلالة الصيغ والدلالة المعجمية كقول احدهم ان كثرة الفعل المعتل في النصّ تدل على اعتلال المبدع النفسي والفعل الأجوف على تأزمه([35]). لقد توصّل الخوسكي في دراسته (الجملة الفعلية في شعر المتنبي)([36]) الى ان استعمال المضارع نادر في مرثيات المتنبي ، أما الفعل الماضي فكثير الورود وعلل ذلك بأنه يشير الى ان في الماضي انقطاع ، وفي الانقطاع ألم وندم و حسرة ولوعة وحزن ويأس...وعليه نقل المراثي بزمن الحال او الاستقبال لان الموقف يتطلبها والغرض يقتضيها.
ورأى تامر سلوم في تحليله شعر ذي الرمة بأنه عبّر بالفعل المضارع في مثل: أبكي ، أخاطبه ، أسقيه وغيرها أفعال تفيد التجدد في البكاء والمناجاة والشكوى ، وانها توحي بالاستمرار الشعوري لهذا الحدث او هو يوميء الى ما يصاحب التجدد من حالات وجداني. فالفعل المضارع يعطي الموقع الوجداني للظاهرة المتجددة ومن ثم فهو ينقلنا من البكاء والمناجاة الى العزلة النفسية والغربة والانفراد([37]).
(1) دليل الناقد الادبي 19.
(2) ينظر رسائل الجاحظ 3/186 والحيوان 5/85.
(3) بنظر: البلاغة والأسلوبية 30.
(4) اللغة العربية والحداثة ، د. تمام حسان ، مجلة فصول م4 ع3 1984.
(5) ينظر القرآن والإنسان ، د. محمد شحرور 18.
(6) النظام القرآني 10.
(7) علم الاسلوب ، فضل 7.
(8) مفهومات في بنية النص 3-4 ، والنقد البنيوي الحديث بين لبنان وأوربا 383 ومابعدها ، والمصطلحات الادبية الحديثة 31 وما بعدها.
(9) ينظر: الاسلوبية والبيان العربي 27، واللغة والاسلوب 15-18 والبلاغة في ضوء الاسلوبية 8-9 ، وجدلية الافراد والتركيب 153 ، في المصطلح النقدي 125.
(10) اللغة والابداع 19.
(11) البلاغة في ضوء الاسلوبية ونظرية السياق 7.
(12) اللغة والاسلوب 15.
(13) البيان والتبيين 1/ 62 والمفتاح 90.
(14) اللغة والابداع 8.
(15) علم لغة النص 20-21، 43 والاسلوبية ، جيرو 27-30 وجدلية الافراد والتركيب5.
(16) الاسلوب بين التراث البلاغي العربي والاسلوبية الحداثية4، وجدلية الافراد والتركيب 83 .
(17) الاسلوبية والبيان العربي 5،8،27، والبلاغة في ضوء الاسلوبية 5-7 ومحاضرات في تاريخ النقد عند العرب 285-351.
(18) قضايا الحداثة عند عبد القاهر 2 ، 7 ، والأبعاد الابداعية في منهج عبد القاهر 11.
(19) التركيب اللغوي للادب ص (د).
(20) اللغة والاسلوب 15-18.
(21) ينظر: تأويل مشكل القرآن 10 ، 19 وبيان اعجاز القرآن ، الخطابي 60 واعجاز القرآن للباقلاني 298.
(22) مقدمة تفسير الكشاف 23.
(23) ينظر: منهج الزمخشري في تفسير القرآن، الجويني 77.
(24) قضايا الحداثة 31.
(25) دليل الناقد الادبي 19.
(26) المصدر نفسه 21.
(27) المصدر نفسه 19.
(28) مدخل الى الأدب الإسلامي ، د. نجيب الكيلاني 7.
(29) مباحث في علوم القرآن 385.
(30) البناء الفني في سورة مريم ، د. حامد عبد الهادي حسين 54.
(31) المصدر نفسه 68 ، 86.
(32) دليل الناقد الأدبي 148.
(33) بحوث بلاغية 132.
(34) البلاغة العربية في ضوء الاسلوبية ، والبلاغة بين المنطق والتذوق ، ضمن كتاب (بحوث بلاغية) ، مطلوب 132.
(35) ينظر: في النقد اللساني 221.
(36) ص 290 وعلم الدلالة ، لوشن 88.
(37) أثر اللسانيات في النقد العربي 3 وعلم الدلالة ، لوشن 88.