وخلال مسيرته العلمية حقق المجمع الكثير من الإنجازات في مختلف الحقول والمجالات، في نشر الكتب، والترجمة، والمصطلحات، وواظب على عقد المؤتمرات والندوات والمواسم الثقافية وإلقاء المحاضرات التي تناولت مختلف الموضوعات والدراسات العلمية والإنسانية، وبذلك أصبح المجمع دار علم يلتقي في رحابها العلماء والمفكرون والأدباء وسدنة التراث.
ولم يقف المجمع عند حدود العراق، بل تجاوزها إلى أقطار عربية وآفاق إسلامية ودولية، فكان منذ البداية نقطة تلاق مع أشقائه المجامع العلمية واللغوية.
خزانة الكتب النفيسة من بواكير أعمال المجمع العلمي العراقي في بداية قيامه، وجهود العاملين فيه الشروع في تأسيس مكتبة (خزانة كتب)، وكانت نواة هذه المكتبة كتب ديوان وزارة المعارف يومذاك. وقد تواصلت الجهود في تنميتها، حيث تم الاتصال بكبريات دور الكتب في العواصم الشرقية والغربية، واقتني منها في زمن قصير زهاء (5000) كتاب في مختلف العلوم والفنون والآداب، كما استطاعت إدارة المجمع بعد جهد، أن تحصل على معظم كتب المستشرقين وكثير من فهارس الخزائن العالمية، يضاف إلى ذلك تمكن المجمع من تصوير نفائس المخطوطات والكتب في بغداد والقاهرة ودمشق والأستانة وطهران والهند ولندن وباريس ولينينغراد وغيرها من مكتبات العالم. كما تلقت خزانة المجمع ألوف الكتب والمجلات هدايا من المجامع العلمية والجامعات والمعاهد والمؤسسات المختلفة ومن أفراد من المؤلفين والناشرين وأرباب الصحف والمجلات، وكذلك عن طريق تبادل المطبوعات.
لقد أصبحت مكتبة المجمع العلمي العراقي اليوم معلماً بارزاً من معالم الثقافة ومثابة للعلماء والمؤرخين ومورداً لطلاب المعرفة، بمن فيهم طلبة الدراسات العليا في مختلف الكليات ببغداد.
اللغة.. هي الأساس كانت بداية التفكير في إنشاء مجمع علمي أو لغوي في العراق إثر قيام الحكم الوطني، وتشكيل حكومة عراقية عام 1921، بعد مئات السنين كان العراق خلالها خاضعاً للسيطرة الأجنبية، وبدأ شعب العراق يتطلع إلى الاستقلال والنهوض لمواكبة الركب الحضاري للإنسانية، شأنه في ذلك شأن سائر الأمم والشعوب التي يجب أن تعرف نفسها وتأخذ طريقها في الحياة. ومن هذا المنطلق سعى الرواد العراقيون إلى العمل الجاد، وبوسائلهم المحدودة، لإنهاض الهمم وإثارة المشاعر الوطنية والقومية والتحسيس بوجودهم كأمة لها تاريخها ولغتها وماضيها المجيد الحافل بالمآثر الحميدة والمنجزات الحضارية التي قدمت للإنسانية اجل الخدمات على مدى العصور.
طالب هؤلاء الرواد من الوطنيين بإصلاح الأوضاع العامة وتشجيع التعليم والحفاظ على اللغة العربية باعتبارها من أهم مقومات وحدة العرب ونهضتهم المنشودة، ولأنها من السمات الأساسية في تعزيز الوحدة الوطنية وربط العرب في كل مكان، وأن الحفاظ على اللغة العربية يستلزم إنشاء مجمع علمي أو لغوي يضطلع بهذه المهمة.
واستمرت الجهود حثيثة، سعى إليها وعمل على إبرازها عدد من الوطنيين المخلصين الذين يتألفون من فئات مختلفة ولكن يجمعهم هدف واحد، كان بينهم عالم الدين المسلم والمسيحي، ورجل التربية والتعليم، والضابط العسكري، والكاتب، والشاعر، والصحافي.. هؤلاء كانوا يسعون ليل نهار لا تلهيهم تجارة ولا بيع، وعلى مدى عقدين، وجدوا ضالتهم المنشودة.. دائرة متواضعة في رحاب وزارة المعارف العراقية، بأسماء مختلفة، منها لجنة التأليف والترجمة والنشر، تحولت في ما بعد إلى (المجمع العلمي العراقي). وقد اكتسب هذا الوليد الجديد الشرعية القانونية والشخصية والمعنوية بصدور (نظام المجمع العلمي العراقي) رقم (62) لعام 1947 فبدأ المجمع أعماله بوضع المصطلحات وإقامة المحاضرات. ثم خطا خطوة عملية بإصدار مجلة «المجمع العلمي العراقي» عام 1950، فكانت ميداناً تبارت على صفحاتها أقلام كبار العلماء والمفكرين والباحثين من أعضاء المجمع وغيرهم، وعزز هذه الخطوة بخطوات أخرى تمثلت بإصدار الكتب المؤلفة والمحققة والمترجمة تناولت صنوف العلوم والمعارف، ثم سعى القائمون على إدارة المجمع إلى توثيق الصلات العلمية الثقافية مع المجامع العربية، وجامعة الدول العربية ومؤسساتها، وفي مقدمتها المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ودوائرها المختصة، كاتحاد المجامع العلمية اللغوية العربية، الذي كان للمجمع العلمي العراقي السهم الوافر في تأسيسه، وكذلك المكتب الدائم لتنسيق التعريب في الوطن العربي، ومركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وغيرها من المنظمات. كما مد جسور التعاون مع المؤسسات العلمية والثقافية الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها منظمة اليونسكو.
لقد مر المجمع بفترات ومراحل، اتسمت كل مرحلة بسمات الفترة التي اقتضتها الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وكان نصيب المجمع من الرعاية بين مد وجزر، واخذ ورد، وكانت مرجعيته تتأرجح بين وزارة المعارف ـ وزارة التربية والتعليم، وأخيراً التربية، فوزارة التعليم العالي والبحث العلمي، إلى أن استقر الحال على ارتباطه بديوان رئاسة الجمهورية بموجب القانون ذي الرقم (2) عام 1995.
أعداد محدودة وعلى مدى نصف قرن صدرت ثلاثة قوانين وعدد من الأنظمة الداخلية لتنظيم أعمال المجمع وبيان اهدافه ومهامه، وفي عام 1970 صدر قانون المجمع العلمي الكردي، وفي عام 1972 صدر قانون مجمع اللغة السريانية، وبهما تكون في العراق ثلاثة مجامع.
ان وجود ثلاثة مجامع علمية في دولة واحدة يعد ظاهرة غير مألوفة، ولما كانت مهمات هذه المجامع الثلاثة متشابهة في الأهداف والغايات والوسائل، ولما في ذلك من بعثرة للجهود والطاقات والخبرات، تقرر دمجها بمجمع علمي، واحد هو المجمع العلمي العراقي، مع تشكيل هيئتين ترتبطان به هما: هيئة اللغة الكردية، وهيئة اللغة السريانية، ولكل منهما مجلتها الخاصة ومطبوعاتها، وقد تحقق ذلك بالقانون رقم 163 لعام 1978، لتأمين التنسيق والتكامل حفاظاً على المبادئ والأهداف الوطنية والعلمية الأساسية التي قامت المجامع السابقة من أجلها.
لقد جرت تطورات كبيرة في هيكلية المجمع خلال السنوات الخمسين المنصرمة، وبصورة خاصة في التشكيلات الإدارية، فكان يتألف من: ديوان رئاسة المجمع والسكرتارية (الأمانة العامة في ما بعد) والأعضاء الذين كانوا يتوزعون على عدد من اللجان الدائمة والمؤقتة، تزيد أو تنقص بحسب متطلبات الأعمال وطبيعتها.
فمن ناحية العضوية فيه، فإن عدد أعضائه بمن فيهم رئيس المجمع، لم يبلغ العشرين عضواً في أي مرحلة من تاريخه، حتى صدور القانون الجديد ذي الرقم 3 لعام 1995، حيث زاد عدد الأعضاء إلى 37 عضواً، بمن فيهم الرئيس، يمثلون مختلف الاختصاصات العلمية والثقافية، ولا شك في أن تنوع هذه الاختصاصات في عضويته يعبر عن كيان الأمة العلمي والثقافي واتجاهاتها الفكرية وأوضاعها وطموحاتها التي تهدف إلى التنمية الشاملة دون الاقتصار على جانب واحد محدود.
خلال نصف قرن بلغ عدد أعضاء المجمع 105 (مائة وخمسة) أعضاء بين عضو منتخب أو معين أو مختار، طبقاً للقوانين والأنظمة والتعليمات الجارية في المجمع، يضاف إلى ذلك عشرات الأعضاء من المراسلين (المؤازرين) وأعضاء الشرف من العراقيين والعرب والأجانب.
والمجمع العلمي العراقي أسوة بنظرائه من المجامع العلمية والدوائر الثقافية اتخذ له شعاراً، وان جاء هذا الإجراء متأخراً نسبياً، فمنذ تأسيس المجمع عام 1947، وإصدار مجلته في سبتمبر (أيلول) عام 1950، لم نجد أثراً لأي شعار يوشح مراسلاته ووثائقه ومطبوعاته، وقد استمر الحال على هذا المنوال حتى 1966 حينما ظهر شعار (المجمع العلمي العراقي) أول مرة على غلاف العدد الثالث عشر من مجلته الصادرة في ذلك العام.
وكانت فكرة وضع الشعار وتصميمه قد نوقشت في اجتماعات المجمع عام 1965. وبعد حصول الموافقة على ذلك أودع أمر تنفيذه ورسمه إلى الخطاط الشهير الأستاذ هاشم محمد الخطاط.
وشكل الشعار دائري، يتكون من دائرة في الوسط، ونطاق يحيط بها، وفي داخل الدائرة رسم بناية تتألف من مدخل ذي عقد مدبب وهو مظهر من عناصر العمارة الإسلامية، وتحيط بالمدخل زخارف هندسية ونباتية إسلامية. وعلى جانبي المدخل نافذتان شبيهتان بالمدخل بقياس اصغر، وعند قاعدة المدخل كتاب مفتوح للدلالة على العلوم والمعارف، ويتدلى من العقد المدبب مصباح وشعاع يرمز إلى نشر المعارف والعلوم على أوسع نطاق.
أما النطاق الخارجي فقد كتب في نصفه الأعلى (المجمع العلمي العراقي) بالخط الكوفي، وفي الجزء السفلي من النطاق اسم بغداد بالخط الكوفي أيضاً، باعتبارها مقراً للمجمع.
وقد تعاقب على رئاسة المجمع كل من:
* الشيخ محمد رضا الشبيبي: من 12/1/1948 ثم جدد انتخابه في 1/10/1948. حتى 1949/2/16.
* منير القاضي: انتخب رئيساً في 1949/4/2، ثم جدد انتخابه عام 1953، وجدد ثانية في 1959/10/3.
* الدكتور ناجي الأصيل: انتخب رئيساً للسنتين 1953 ـ 1954 وأعيد انتخابه في 1961 ـ 1962.
* الدكتور عبد الرزاق محيي الدين: انتخب رئيساً بعد وفاة الشيخ محمد رضا الشبيبي عام 1965 حتى رحيله عام 1979.
* الدكتور صالح أحمد العلي: عين بمرسوم جمهوري رئيساً للمجمع اعتباراً من 1979/4/15 حتى تشكيل المجمع الجديد في 1996/6/1.
* الدكتور ناجح محمد خليل الراوي: وقد صدر المرسوم الجمهوري رقم (122) في 1996/6/1 بتعيينه رئيساً للمجمع العلمي.
كان من بين أولويات أهداف المجمع العلمي العراقي ومهماته منذ بداية إنشائه، توطيد الصلات والتعاون والتنسيق مع المجامع العلمية واللغوية العربية والمنظمات الإقليمية والدولية في الأهداف والمهام المشتركة، وقد استمرت هذه الصلات والتعاون على مدى نصف قرن من أجل تنفيذ الأغراض التي أنشئ من أجلها وفي المقدمة خدمة اللغة العربية وسلامتها وتجديد شبابها وإذاعة ألوان الثقافات القديمة والحديثة ومواكبة التطورات العلمية والثقافية بما يلائم النهضة العربية المعاصرة. وقد أقام علاقات وثيقة مع كل من مجمع اللغة العربية الأردني، والمجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية والأكاديمية الملكية المغربية.