"ألفا مدرسة وأربعون كلية تدرس اللغة العربية".
إن العلماء الهنود يرون في اللغة العربية خصائص لا توجد في غيرها من اللغات فهي لغة أودعها الله رسالة سماوية خالدة وسكب عدد كبير من الأدباء والشعراء في قوالبها أفكاراً سامية فيها أنزل القرآن الكريم، وبها صدر الحديث الشريف ومن خلال أداتها الرائعة وضعت كنوز من الأدب والعلم والمعرفة والحكمة ساهمت في دفع عجلة الحضارة إلى الأمام.
لقد تمسكت الشعوب الهندية باللغة العربية والثقافة الإسلامية طوال ثمانية قرون؛ وساهم علماء الهند من مسلمين وغير مسلمين بوضع المعاجم العربية والموسوعات الثمينة (كألعاب الزاخر)، و(تاج العروس)، و(فقه اللسان) و(فقه اللغة) و(المبين)، ووضعت في الهند كتب في المصطلحات مثل (دستور العلماء) و(كشف المصطلحات) باللغة العربية ولم يقتصر النشاط الهندي على تأليف الموسوعات والكتب العربية بل تعدى ذلك إلى إصدار الصحف والمجلات باللغة العربية، نذكر منها مجلة (الضياء)، ومجلة (البعث الإسلامي) و(مجلة الرائد)، وهي مجلات راقية تزخر بالأبحاث القيمة والتحقيقات النادرة وقد اشتهرت ولاية (كيرالا) الهندية بصورة خاصة بتدريس اللغة العربية وآدابها، وأصبح تدريس هذه اللغة جزءاً من نظامها التربوي فهي تدرس هناك من المرحلة الابتدائيةإلى مستوى الدكتوراه، ويوجد في ولاية كيرالا الهندية نحو خمسمائة مدرسة سلفية وعشر كليات عربية منها: الجامعة الندوية بأدونا ـ وكلية أنصار الإسلام بدلونو ـ وكلية روضة العلوم في فروق، وفي ولاية ترافنكور الهندية أدخلت اللغة العربية في مدارسها منذ عام 1914، وعَينت لها المعلمين والمفتشين وإثر استقلال الهند، نشط المثقفون المسلمون من الهند لوضع المناهج التربوية والخطط التعليمية لتدريس اللغة العربية وآدابها، وتعميمها على الأجيال الهندية الجديدة الظامئة إلى العلم والمعرفة وتنافست الهيئات العلمية على إقامة المدارس والمعاهد العربية. وكان تدريس العلوم باللغات العربية مقتصراً على المساجد التي كانت في بداية الأمر تتبع نهجاً شاملاً يحتوي على العلوم الدينية كالقرآن الكريم والحديث والفقه واللغوية: كالأدب العربي والنحو والصرف كما يحتوي على العلوم المادية كالحساب والهندسة والمنطق والتاريخ والفلسفة ومع مرور الزمن تقلص هذا النهج الواسع واقتصر على بعض العلوم الدينية واللغوية ولكن الفضل بقي للمسجد في نشر الثقافة الإسلامية واللغة العربية بين جماهير المسلمين وتوطيد الوعي الإسلامي والحماسة الدينية في قلوبهم ولقد دل آخر إحصاء جرى في شبه القارة الهندية على أن جمعية العلماء (منظمة سمت) تشرف على أكثر من ألفي مدرسة عربية عدا مجموعة من الكليات المخصصة لتدريس الثقافة العربية والحضارة الإسلامية، يزداد عددها باستمرار بحيث أربى مؤخراً على أربعين كلية منها: كلية مهارجا باونا كلم وكلية يونورستي وجامعة كاليكوت التي حصل منها أربعة باحثين على شهادة الدكتوراه في اللغة العربية، وخلال الأحقاب الماضية أنجبت الهند الكثير من علماء وكتاب اللغة العربية. وقد ورد في رحلة ابن بطوطة إلى الهند بين عامي 1342 إلى 1347 للميلاد، أنه التقى بفقيه جليل يتقن اللغة العربية، اسمه الفقيه حسين بن أحمد، وتحادثا طويلاً باللغة العربية، ويعتبر الإمام المخدوم زين الدين الكبير (872-928) من كبار المفكرين الهنود وله عشرون مؤلفاً باللغة العربية منها (سراج القلوب وعلاج الذنوب). و(كفاية الفرائض)، وللعلامة عثمان جمال الدين المعبري الفنائي مؤلفات هامة منها (شرح قطر الندى وبل الصدى لابن هشام في النحو). وللقاضي عمر بن علي البنكوتي مؤلفات معروفة منها: (نفائس الدرر)، وفي عصرنا الحديث، نعرف عملاق الثقافة العربية في الهند العلامة أبا الحسن علي الندوي، ومن الكتاب والأدباء اللامعين: الشيخ زكي بن محمد والقاضي الكبير شهاب الدين أمبشي كوبا والدكتور أحمد تي. والدكتور عبد الله الأزهري. ومن شعراء اللغة العربية في الهند من الجيل الجديد: كنجي أحمد محمد بن ميرات، علي الكوشنوري. وعلى المستوى التربوي، نجد مجموعة من الأساتذة والباحثين في اللغة العربية، والمربين، من أمثال الدكتور علي محمد خسرو مدير جامعة عليكرة. والدكتور محمد شفيع (كبير الأساتذة)، وقد أحدثت هذه الجامعة الشهيرة قسماً خاصاً باللغة العربية وآدابها. وطالبت هيئات علمية لها وزنها في الهند بإنشاء مجمع علمي عربي هندي، نظراً للصلات الثقافية العريقة التي تربط بين الشعبين العربي والهندي عبر العصور.
كيف تأسس المجمع العلمي العربي
أدت الجهود البناءة التي بذلها الدكتور مختار الدين أحمد عميد كلية الآداب ورئيس قسم اللغة العربية بجامعة عليكرة (مدينة علي) الإسلامية إلى قيام المجمع العلمي العربي الهندي عام (1396هـ ـ 1976م)، على غرار مجمع اللغة العربية بدمشق والقاهرة. وتتويجاً للوثبة الثقافية التي نهضت بها جامعة عليكرة وقع الاختيار عليها لتضطلع بمهام إنشاء المجمع العلمي العربي لأن مقاصدها نشر اللغة العربية والثقافة الإسلامية، وهي أحق المؤسسات الثقافية الهندية وأجدرها بحمل رسالة المجمع الفكري، لتوافر الوسائل لديها، ولوجود قسم اللغة العربية وآدابها وقسم الدراسات الإسلامية وقسم ثقافة آسيا الغربية، ولأن عدداً من الباحثين المحققين في اللغة العربية وآدابها كانت لهم صلات وثيقة بهذه الجامعة وفي طليعتهم العلامة عبد العزيز الراجكوتي حجة العربية في الهند، وهو ممن تحلق حوله كبار أساتذة الجامعات.
البحث في تاريخ العرب وعلومهم
تطلع المجمع منذ تأسيسه إلى تدعيم التبادل الثقافي بين الهند والعالم العربي وسعى إلى نشر كنوز اللغة العربية والثقافة الإسلامية تمهيداً لإعادة استخدامها في احتياجات الثقافة والعلوم والفنون. وقد حدد إحداث المجمع أهدافه الرئيسية بما يلي:
*تعميم اللغة العربية بين أبناء الهند والعناية بشر آدابها.
*تنشيط البحث والتأليف في تاريخ العرب وعلومهم وحضارتهم.
*إحياء المخطوطات العربية والإسلامية بطبعها ونشرها على أحدث الطرق العلمية.
*تشجيع ترجمة المؤلفات القيمة لعلماء وأدباء الهند.
مجلة هندية باللغة العربية:
وتحقيقاً لهذه الأغراض العلمية، فقد عمد المجمع إلى إصدار مجلة باللغة العربية خاصة به ينشر فيها أفكاره وأعماله، ولتكون ميداناً حراً لأقلام العلماء والأدباء ورابطة بينه وبين المراكز الثقافية المماثلة له في أرجاء العالم. وقد صدر العدد الأول منها عام 1396هـ/1976م بعد أن عهد المجمع إلى أمينه العام الدكتور مختار الدين أحمد برئاسة تحريرها وجعل شعارها قوله تعالى: (علَّم الإنسان مالم يعلم)، ومضت المجلة قدماً في أداء رسالتها اللغوية والتعريف بعلماء العربية الذين خدموا الثقافة في شبه القارة الهندية وقد أسهمت الجلة في إحياء جوانب هامة من التراث العربي المخطوط والحضاري الإسلامي ونشرت بحوثاً غنية اتسمت بالموضوعية والأصالة وفتحت صدر صفحاتها لينهل منها الدارسون والمريدون وكرست جل بحوثها للغوص في أعماق التراث العربي وغنيٌّ عن البيان فكتَّاب المجلة كانوا من أبرز اللغويين والباحثين.
استقطاب كبار الشخصيات العلمية
كان قيام المجمع العلمي العربي الهندي حدثاً علمياً آثار اهتماماً واسعاً في الأوساط العلمية والأدبية بدليل أنه استقطب مجموعة من فحول اللغة العربية فمن بين أعضائه العاملين:
الدكتور علي محمد خسرو: مدير جامعة عليكرة (رئيس المجمع)، والدكتور مختار الدين أحمد عميد كلية الآداب (أمين المجمع)، والعلامة أبو الحسن الندوي: الحائز على جائزة الملك فيصل للحضارة الإسلامية (عضو). والدكتور الحافظ غلام مصطفى (عضو). ومن أعضائه المراسلين علماء أعلام في البحث والتقصي والتأليف وفي طليعتهم:
*الدكتور عدنان الخطيب الأمين العام لمجمع اللغة العربية بدمشق والأمين المساعد لاتحاد المجامع العربية. ويملك رؤية متميزة في معرفة (لغة القانون)، ومصطلحات ألفاظ الحضارة. فهو الرئيس السابق لمجلس الدولة في سورية.
والعالم الكبير الأستاذ محمود محمد شاكر (مصر)، والدكتور عمر فروخ الفيلسوف العربي المعاصر (لبنان)، والدكتور إحسان عباس الأستاذ في الجامعة الأميركية ببيروت (فلسطين) ـ والأستاذ حمد الجاسر ـ علامة الجزيرة العربية وعضو مجمع اللغة العربية بالقاهرة وضم أيضاً كبار المستعربين في أوربا وآسيا وفي مقدمتهم: الدكتور شار بلا (فرنسا)، والأستاذ أنس خاليدوف (الاتحاد السوفييتي)، والدكتور رشرد دالزر (بريطانيا) والدكتور رودليف زلهايم(ألمانيا)، والأستاذ فؤاد سزكين (تركيا) وغيرهم... وهكذا أصبح المجمع العلمي العربي واحداً من أهم معالم النهضة العلمية بالهند وبرهاناً على الاحترام والتقدير الذي تلقاه لغتنا الخالدة من قبل الأمة الهندية ولهذا يحق للقارئ العربي أن يتعرف على تاريخ هذا المجمع الذي شق طريقه ضمن آفاق فكرية رفيعة المستوى وقدم قسطاً من العطاء الحضاري للبيئة الثقافية العالمية وقام بمحاولات جادة لتجذير التراث الإسلامي وإظهار العمق الإنساني العربي.
-----------------
نشر هذا البحث في :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 81-82