شغلت قضية المصطلح العلمي، منذ عصر النهضة العربية في عهد محمد علي باشا، المشتغلين بالبحث العلمي الصرف منه والتطبيقي. وعلى الرغم من تفاوت طروحاتهم وبالتالي معالجتهم له والتي عكست بالطبع اختلافاتهم معرفياً وزمانياً ومكانياً ؛ إلا أنهم كانوا يتقاسمون هَمّاً مشتركاً هو ضرورة أن تتبوأ العربية مكانتها الجديرة بها كلغة علمٍ بكل ما تعنيه الكلمة من معنى. إذ لم تعد مسالة استخدام العربية كلغة علم محلَّ جدلٍ أو نقاشٍ وقد كانت لغته قرابة تسعة قرون.
وأما جِدّته فلا تزال قائمةً بسبب من استمرار التقدم العلمي الذي يقذف بمئات المصطلحات الجديدة في مختلف مجالات المعرفة البشرية وعلى وجه التحديد في مجال علوم الحياة Biological Sciences وعلوم الحاسوب .
وقد تناوله المتخصصون العلميون منهم واللغويون وأشبعوه دراسة ، ولست بمضيفٍ جديداً سوى أن أعرض متأملاً لمسالةٍ غايةً في الأهمية وهي نزوع المتخصصين بالعلوم ، في هذه الأيام ، في أرجاء الوطن العربي للتعريب [رسم اللفظ الأعجمي( أي الأجنبي) بحروف عربية] ، فنراهم يفرطون في استخدامه. والأمر راجع عندي إلى افتقارهم الوعي اللغوي وهو مما ميّز من سبقوهم في هذا المضمار.
وبالوعي اللغوي أعني سعة مخزونهم المعرفي اللغوي المتمثل بالبحث والتنقيب في كتب التراث العلمي العربي عن المكافئ الدقيق ، فضلاً عن استمرارهم في التحصيل اللغوي وتمكنهم من العربية . وقد انعكس ذلك في الهمّ المتواصل والانشغال الذي لا يهدأ حتى يهتدي الواحد منهم إلى ضالّته بعد طول عناء وتدقيق مستمرّين .
ومصداقاً لما أقول أكتفي بضرب هذا المثال : شاع في العقدين الأخيرين استعمال لفظ Clone و Cloning معرباً (كلونة) في الكتابة العلمية المتخصصة وغير المتخصصة أيضاً ؛ علماً بأن لهذين اللفظين مقابلين عربيين يدلان تمام الدلالة اللغوية والدلالة العلمية عليهما. فلنتأمل أولاً المعنيين اللغوي والعلمي للفظ ثم نورد أدلتنا من معجمات اللغة.
لغوياً : اللفظ مشتق من الإغريقية بمعنى غصن أو فرع(1)؛ أما معناه العلمي فإنه لا يعدو أحد المعاني الآتية في علوم الحياة :
1-مجموعة أفراد نتجت من نفس الأصل بالتكاثر اللاجنسي وبذلك تكون وراثياً صنوية للأصل ، وبهذا المعنى قد عرفت الطبيعة هذه الظاهرة منذ آلاف السنين في النباتات التي تتكاثر بالبراعم والأبصال والدرنات وكذلك في الحيوانات أحادية الخلية بالانشطار وقي بعض اللافقاريات بالتكاثر العذري وفي بعض الطحالب وقسم من الفطريات(2).
2-مجموعة خلايا وراثياً صنوية نتجت بالانقسام المباشر من خلية الأصل إلى خليتين شقيقتين كل منهما يحتوي المادة الوراثية التي تحتويها الخلية الأصل ويشار لها بالمصطلح الآتي: CELLULAR CLONING (3).
3-مجموعة جزيئات ال DNA التي يتم تضعيفها أي زيادة عددها للضعف داخل بكتريا أو فيروس وتسمى Molecular or DNA Cloning(4).
4-إنتاج صنْو بالمعنى الوراثي بطريقة نقل نواة خلية جسمية إلى خلية بيضة منزوعة النواة وهذا يعرف بنقل النواة والتي نتجت بها النعجة Dolly وتسمى (SCNT ) Somatic Cell Nucleus Transfer(5) .
5-ويمكن أخيراً إضافة Embryonic twining وهو انقسام جنين كان قد تكون بالتكاثر الجنسي إلى نصفين صنْويين .
ومن الناحية التاريخية لتطور المصطلح بمعناه العلمي المتعارف عليه الآن ، يمكن القول بأن الألماني Spemann عام 1938 عند اشتغاله على أجنة السلامندر، اقترح فكرة الصنوية أو الاصطناء Cloning إلا أنه لم يقم بتجربتها ولم يقترح استخدام المصطلح ، وحتى أوائل المشتغلين مثل King & Briggs عام1950 في الضفادع على مستوى الأجنةEmbryos ، لم يستخدموا المصطلح ولكن أول من استخدمه هو البريطاني المتخصص في علوم الحياة Haldane J.B.S في محاضرة ألقاها في لندن عام 1963 بالمعنى المتعارف عليه الآن (6).
المقابل اللغوي العربي :
اعتمدت في تحقيق اللفظ على خمسة معجمات هي : لسان العرب، القاموس المحيط ،محيط المحيط، المحيط، والمعجم الوسيط. وسأورد منها ما يتفق مع هدف دراستي.
جاء في لسان العرب في مادة صِنْو : الأخ الشقيق والعم والابن ، والجمع أصْناء و صِنْوان والأنثى صِنْوة(بكسر الصاد) وفي حديث النبي(صلعم) : عم الرجل صنو أبيه. قال أبو عبيدة: معناه أن أصلهما واحد، قال: وأصل الصِنْو إنما هو في النخل. قال شمر : يقال فلان صِنْو فلان أي أخوه ولا يسمى صِنْواً حتى يكون معه آخر، فهما حينئذ صِنْوان وكل واحد منهما صِنْو صاحبه. والصِنْو : المثل وأصله أن تطلع نخلتان من عرق واحد وجمعه صِنْوانٌ وإذا كانت نخلتان أو ثلاثٌ أو أكثر أصلها واحد فكل واحد منها صِنْو والاثنان صِنْوان والجمع صِنْوانٌ برفع النون . وحكى الزجاجي فيه صُنْو بضم النون وقد يقال لسائر الشجر إذا تشابه. والجمع كالجمع ، وقال أبو حنيفة: إذا نبتت الشجرتان من أصل واحد فكل واحدة منهما صِنْوٌ للأخرى... وروي عن البراء بن عازب في قوله تعالى: "صِنْوان وغير صِنْوان" الصِنْوان المجتمع وغير الصِنْوان المتفرّق ، وقال الِصْنوان النخلات أصلهن واحد، قال : والصِنْوان النخلتان والثلاث والخمس والست أصلهن واحد وفروعهن شتّى وغير صِنْوان الفاردة. وقال أبو زيد : هاتان نخلتان صِنْوان ونخيل صِنْوانٌ وأصْناء... ابن الأعرابي: الصِنْوة الفسيلة. انتهى.
القاموس المحيط :
والصِنْو بالكسر الحفر المعطّل وقليب لبي ثعلبة والأخ الشقيق والابن والعمّ.(ج) أصناء وصِنْوانٌ. والنخلتان فما زاد في الأصل كل واحد منهما صِنْو ويضم.ورَكِيَّتانِ صِنوانِ : مُتَجَاوِرَتانِ، أو تَنْبُعانِ من عَيْنٍ واحدةٍ. انتهى.
محيط المحيط :
الصِنْو: الحفر المعطل والأخ الشقيق والابن والعم .ج أصنْاء وصِنْوانٌ. وإذا خرج نخلتان أو أكثر من أصل واحد فكل واحدة منهن صنْو بالكسر والضم. والاثنان صِنْوان وصِنْيان والجمع صِنْوانٌ. ومنه في سورة الرعد((وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان)). وقيل الصِنْو عامّ في كل فرعين يخرجان من أصل واحد في النخل. انتهى
المحيط :
الصِنْو: النظير والمثل (وزرع ونخيل صِنْوان وغير صِنْوان يُسقى بماء واحد): الفسيلة المتفرعة مع غيرها من أصل شجرة واحدة.انتهى.
المعجم الوسيط :
الصِنْو: النظير والمثل . و-- الفسيلة المتفرعة مع غيرها من أصل شجرة واحدة .و- الأخ الشقيق. يقال : هو صِنْو أخيه وهما صِنْوان فإذا كثروا فهم صِنْوانٌ. وفي التنزيل العزيز (( صِنْوانٌ وغير صِنْوان يُسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل)).وهي صِنْوة. انتهى
اعتماداً على ما سبق نرى أن مكافئ الكلمة ومقابلها العربي هو لفظ الصِنْو(بكسر الصاد) للمفرد المذكر وصِنْوة للمفرد المؤنث ، و صِنْوان للمثنى المذكر والمؤنث والجمع أصْناء ، هذا فيما يخص لفظ CLONE فنقول إن النعجة Dolly هي صِنْوة للنعجة التي أُخذت منها نواة الخلية الجسمية(7).
وأما اللفظ CLONING فالمقابل العربي الذي نقترح استعماله هو اصْطناء كمصدر للفعل يصطني للمضارع واصطنى للماضي. فنقول: يصطني الباحثون الكائنات على اختلاف أنواعها . نجح العلماء باصطناء حيوانات كثيرة مثل الضفادع والأغنام ولا يزال العلماء يحاولون اصطناء أُخرى. والخلايا تتصاطن و تصاطنت إذ هي تنتج أو أنتجت أصناءها بنفسها مثل قولنا تلاقحت الحيوانات وتناتجت.
يعتبر الباحث البريطاني Wilnut أول من اصطنى حيواناً كاملاً من خلايا بالغة . وهو أول من نجح في اصطناء حيوانٍ كاملٍ من خلية بالغة. ويمكن كذلك استعمال الصِنْوية كمصدر صناعي عند اقتضاء الحال في التركيب اللغوي(8 ).
يتبين لنا ، من هذا العرض السريع ، بجلاء ووضوح تامّين أمور ثلاثة :
1-اتفاق المعجمات الخمس على معنى لفظ الصِنْو(بكسر الصاد) ، من حيث هو مماثل للأصل الذي اشتُق منه ، وهذا يعني بلغة علم الوراثة أنه يحتوي المادة الوراثية نفسها الموجودة في الأصل الذي اصطناه و أنتجه.
2- أن المعنى اللغوي والمعنى العلمي للفظ يشير أصلاً إلى وجوده في عالم النبات ثم تطور استخدامه ،أي المصطلح، في أوائل هذا القرن ليشمل و ليتضمن كل ماله علاقة بتماثل المادة الوراثية تماثلاً يكاد يكون تاماً في جميع الكائنات الحية.
3-التطابق التام بين المعنى اللغوي العربي والمضمون العلمي للمصطلح سواءً أكان هذا في الدلالة الأصلية له أم في معناه الحالي المستخدم في كل تطبيقاته العلمية.
وتجدر الإشارة إلى أنه نرى في بعض الصحف العربية ومنها الزمان اللندنية، استخدام لفظ الاستنساخ للدلالة على اللفظ الأجنبي وهو أمر أفضل من المعرّب غير أنه مقارنة بلفظ الصِنْو لا يزال قاصراً في التعبير وذلك :
1- عدم دلالته بدقة على المفهوم الأصلي للمصطلح الأعجمي والذي يعبر عنه لفظ الصِنْو بدقّة متناهية للغاية.
2- أن مصطلح الاستنساخ هو متعدد المفاهيم والمعاني ، بمعنى آخر حدوث مسألة الاشتراك اللفظي (وهو وجود لفظ واحد مشترك لمصطلحات عدة وهذا مما يزيد في إشكالية المصطلح وتعقيده) وهنا يجب تجنّب تعدّد الدلالات وتفضيل اللفظ المختص على المشترك.
3- الاستنساخ كلمة عامة وهنا يجب مراعاة اتفاق المصطلح العربي مع المدلول العلمي دون التقيد بالدلالة اللفظية للمصطلح الأعجمي.
4- وبافتراض كون الاستنساخ مرادفاً أو قريباً من ذلك للفظ الصِنْو ، فيجب تفضيل الكلمة التي يوحي جذرها بالمفهوم الأصلي وهو ما يتميز به لفظ الصِنْو.
لذا يجدر بنا استعمال اللفظ العربي السليم الذي بيّنا اشتقاقه أفضل من المعرّب الذي تشدّد علماء العربية في دخوله ولم يجيزوه إلا قليلاً وفي هذا يقول إسماعيل مظهر :(( إن العربي لم ينزع للتعريب إلا مكرهاً بدليل القلة التي نأنسها في ما ورد من الألفاظ المعربة مقيسة على الألفاظ العربية)). كان الاشتقاق ولا يزال كما يقول مصطفى جواد :(( هو العون الأكبر والملاذ الأخفر في إعداد المصطلحات العلمية والفنية والأدبية)). وهو محق بذلك أيما حق فلقد بين لنا المثال أعلاه الأهمية الوظيفية للاشتقاق.
لقد كان من نتائج الاستيعاب العلمي للعربية أنه يصعب التمييز بين رجل العلم ورجل الأدب لغةً وبياناً لتمكّنهم منها وإتقانهم إياها فجاءت مؤلفاتهم خير دليل على حيوية العربية.
نقول إن المعاصرين ضيّقوا على أنفسهم وفي الأمر سعة إذ تجدهم يكثرون من استخدام التعريب والترجمة(9) بينما طرق الصياغة اللغوية للمصطلح في العربية أوسع من ذلك.
أما أسباب استسهال التعريب Transliteration [ وهو هنا :رسم اللفظ الأعجمي( أي الأجنبي) بحروف عربية]، فيعود في عقيدتي إلى سبب بسيط وهو انقطاع المتخصص العلمي عن التحصيل اللغوي في العربية انقطاعاً تاماً، باستثناء قلة، من وقت دخولهم للجامعة للدراسات الأولية وحتى بعد تخصّصهم والذي غالباً ما يكون بلغة أجنبية ( وهنا أتكلم عن حالة المتخصصين في العراق وأظن أن الأمر يصدق على بقية الأقطار العربية). أضف إلى ذلك أنهم لا يتقنون اللغة الأجنبية من حيث هي لغة بل كنصوص علمية ليس إلا. ولذلك حين يميلون للتعريب لا يفعلون ذلك عن وعي بأفضلية الكلمة الأجنبية وإنما بسبب من فقرهم اللغوي بالعربية من حيث هي لغة أيضاً والذي نراه بوضوح في كتاباتهم بالعربية. وأخيراً إن عدم اطلاع المتخصص العلمي على معجمات اللغة وما تحويه من ذخيرة مصطلحية - وهي حقاً ملآنة بالمصطلحات- يوحي إليه أنها عاجزة عن توفير المقابل المطلوب وكما يقول اللغوي الاب انستاس الكرملي (إن اللغة كنز مدفون أو كالمدفون فإذا لا يوجد من يدلك عليه فهذا لا ينفي وجوده ).
وما سبق طرحه لا يعني التعميم أبداً لأن هناك بضعة أفراد من داخل المجتمع العلمي ممّن كانت لهم إسهاماتهم المميزة في مجال الصياغة المصطلحية [ فعلى سبيل المثال لا الحصر نذكر منهم يوسف حتى صاحب ( المعجم الطبي)، مصطفى الشهابي مؤلف ( معجم المصطلحات الزراعية ) وعضو المجمع العربي السوري، جميل الملائكة تدريسي عراقي وعضو المجمع العلمي العراقي، أحمد الخطيب صاحب ( معجم المصطلحات الفنية والهندسية) وصادق الهلالي تدريسي في إحدى جامعات المملكة السعودية وآخرون ](10) .
وختاماً، إدراكاً مني ، كفرد من أفراد المجتمع العلمي ، بمسؤولية المحافظة على سلامة اللغة العربية التي هي فرض عين وليس فرض كفاية، أرجو أن أكون قد ساهمت حسب جهدي واجتهادي مرحباً بكل النقود اللغوية التي ستثري الموضوع.
الهوامش
1-Webster's New Twentieth Century Dictionary. Unabridged. Second edition. Simon & Schuster. New York.1983.
2-Dictionary of Cell and Molecular Biology. Dow & Lackie (Ed.).McMillan. London. 1999.
3-A Dictionary of Genetics. King & Stanfield. 1997.
4-IBID
5-IBID
6-Man and his future. Gordon Wolstenholme (Ed.) 1963. Little, Brown and Company. Boston
وتميز Haldane بنشاطه الفكري كرجل علم على المستويين السياسي والفلسفي.
7-إنها ليست صنوية ( كما هو الحال في التوائم الناتجة من انقسام بيضة ملقحة إلى نصفين) تماماً للنعجة التي أخذت منها نواة الخلية البالغة وذلك لأن البيضة التي زرعت فيها لا تزال تحتوي على مادة وراثية موجودة خارج النواة - أي في Mitochondria-.
8-انظر دراستنا "من مشاكل المصطلح الوراثي : تعدد واضعيه". بحث مقدم إلى المؤتمر الأول للتعريب بجامعات الجماهيرية. جامعة قاريونس. ليبيا. 3 -5 ، آب، 1993 .
9-انظر مقالنا : تطبيقات في المصطلحات الوراثية . جريدة الجمهورية البغدادية. 12 حزيران، 1989. وهناك من يكثر من النحت كما هو واضح في "المورد" لمنير البعلبكي.
10- أعدّ كاتب المقال معجماً لمصطلحات الوراثة قبل حصوله على الشهادة التخصصية العالية ولكن سرقت منه ملكيته الفكرية ظلماً وعدواناً ، إذ أصبح ثالث ثلاثة ، والكتاب نشرته جامعة عمر المختار في ليبيا. انظر أيضاً كتاب " الوراثة ومستقبل الإنسان" ترجمة كاتب المقال. من منشورات جامعة عمر المختار، البيضاء، ليبيا. 1993 .