يرتكز وضع المعجم إلى دعامتين رئيستين هما:
أ-علم المعجمات أو ما يسمى بـ Lexiclogie ويبحث في البنية الدلالية للفظ.
ب-علم صناعة المعجمات أو ما يسمى بـ Lexicogaphie ويبحث في أنواع المعجمات ومكوناتها وطرق إعدادها.
والمعجمة فن أو حرفة، أو هي باختصار علم صناعة المعجم، بكل ما يتصل بهذه الصناعة من مهارات لغوية، وأصول أخذ اللغة بأصواتها ودلالاتها من أفواه العرب الأقحاح، أو مدونات موثوقة وأسانيد صحيحة تبعد عنها شبه الوضع والتزيّد.
ولا بد في البداية من تعريف المعجم قاموسياً واصطلاحياً.
أولاً: المعنى القاموسي للمعجم:
جاء في اللسان (1):
"العَجْمُ: النقط بالسواد مثل التاء عليها نقطتان. يقال: أعجمت الحرف ولا يقال عجمت... وقال ابن جني: أعجمت الكتاب: أزلت استعجامه...
والعجْمُ: عضّ شديد بالأضراس دون الثنايا. وعَجَمَ الشيء يعجُمُه عجماً:
عضه ليعلم صلابته من خوره... والعَجْمُ: الرّوزُ".
فالأعجام إذا إزالة اللبس والغموض، وطريق إلى الإبانة لأن وضع النقاط على الحروف هو في نهاية المطاف وضع للأمور في نصابها الصحيح، وقضاء على الخلط بين المعاني، ونأي عن التصحف والتحريف.
والمعجم اختبار لصلابة اللفظ، ومعرفة مدى فصاحته أو بعده من الفصاحة فيعرف به خور اللفظ وفصاحته. ولقد نال الحجاج يوماً متوعداً أهل الكوفة (3): "أن أمير المؤمنين نثر كنانته ثم عجم عيدانها، فوجدني أمرّها عوداً، وأشدها مكسراً، فوجهني إليكم، ورماكم بي". فعَجْمُ العود امتحان لصلابته والبحث عن لفظ في المعجم لصلابة معناه أو هشاشته. والمعجم يروز اللفظ ليُعرف مدى صلابته وفصاحته.
ثانياً: المعنى الاصطلاحي للمعجم:
جاء في المعجم الوسيط (3): "المعجم ديوان لمفردات اللغة، مرتب على حروف المعجم، جمعه معجمات ومعاجم". ورأى د. حجازي أن هذا المصطلح يطلق (4) "على الكتاب المرجعي الذي يضم كلمات اللغة ويثبت هجاءها، ونطقها، ودلالتها، واستخدامها، ومرادفاتها، واشتقاقها، أو أحد هذه الجوانب على الأقل".
ثالثاً: متى ظهر هذا المصطلح؟
أهملت معاجمنا تاريخ الألفاظ ولم تشكل سيرة اللفظ هماً عند المعجميين. لهذا ذهب المحدثون في تحديد ميلاد هذا اللفظ شتى. فقال د. العطار: "ولا نعلم بالدقة متى أطلق المعجم على هذا الاستعمال، ولكن معجم الذي نعلمه أن أول من استعمل الكلمة رجال الحديث، وأول ما عرف كان في القرن الثالث... وأول كتاب أطلق عليه اسم المعجم هو "معجم الصحابة لأبي محدّث الجزيرة (ت 307ه). ولقد ترجم أبو يَعلى لشيوخه على حروف الهجاء.
ويرى د. السامرائي أن لفظ المعجم لم يشق طريقه إلى النور (6) إلا في أواخر القرن الرابع الهجري، أما قبل ذلك فهو كتاب. وأول معجم بهذا الاسم هو معجم مقاييس اللغة". ورأى د. حجازي أن اللفظ كان يطلق على كتب الطبقات المرئية على حروف المعجم، فصار يطلق على كتاب الكلمات المرتبة على حروف المعجم.
وما ذهب إليه د. السامرائي لا يخالف رأي العطار خصوصاً في انتقال الدلالة.
رابعاً: مصطلح القاموس:
أطلق على المعجم تسمية أخرى هي القاموس. والقاموس لغة (7): "قعر البحر، وقيل وسطه ومعظمه". فهل أطلق هذا اللفظ على المعجم لأنه الذي يجمع شتات الكلم حتى تتلاطم فيه المفردات كما تتلاطم الأمواج في البحر الهادر؟
وجاء الفيروز أبادي (ت 817 ه) فسمى معجمه "القاموس المحيط" معللاً التسمية بقوله (8): (وأسميته القاموس المحيط لأنه البحر الأعظم". والناس قديماً وحديثاً يطلقون على العالم باللغة، المتمكن من شواردها، المذلل لمعاصها، القابض على نواصيها صفة البحر. وقد صار لفظ القاموس مرادفاً للفظ المعجم، بعدما كان علماً على القاموس المحيط، وهو في زمننا أكثر شيوعاً (وسيرورة) من لفظ المعجم.
خامساً: العرب أسبق الأمم إلى وضع المعجم:
أنكر بعض المتحاملين عرباً كانوا أم أعاجم على العرب فضيلة السبق على ميدان المعجم، وذهبوا إلى أن العرب مقلدون غير مبتكرين. وقد كتب د. أحمد مختار عمر مقالاً في مجلة مجمع اللغة بالقاهرة تحت عنوان: "هل أثر الهنود في المعجم العربي؟" (9) أثبتت فيه آراء عدد من الباحثين في هذا الموضوع، فانقسمت بين مرجح ومثبت
أما المرجحون فعلى رأسهم مقال في دائرة العارف الإسلامية بنصها الفرنسي بعنوان الخليل بن أحمد (10) جاء فيه:
Il n’est pas classé dans l’ordre alphabétique, mais probablement sous l’influence de l’Inde…
فكاتب المقال يثبت أن الخليل واضع أول معجم عربي، ويؤكد نسبة كتاب "العين" إلى الخليل، ويكتفي بالإشارة إلى احتمال تأثره بالهنود لأنه مرتب ترتيباً صوتياً. وهذا الترتيب معروف عند الهنود.
وأعجمي آخر هو المستشرق الإنكليزي جون هاي وود يشير إلى احتمالين فيقول (11):
"ربما كان اليونان هم الذين أعطوا العرب فكرة المعجم. وكان الهنود هم الذين أعطوهم الأبجدية الصوتية: وبعض الأفكار المعجمية الأخرى". وهكذا نرى أن الشك في أصالة المعجم العربي عائد إلى اعتماد الأبجدية الصوتية التي اهتدى إليها الخليل وهو العالم الموسيقي الرياضي.
أما بعض العرب فكانوا متطرفين في إثبات التقليد: وذهبوا إلى أن الخليل مقلد غير مبتكر. وعلى رأس هؤلاء نذكر د. شوقي ضيف الذي قال (12): "فقد وضع الخليل خطة أول معجم في العربية وهو معجم العين، ورتبه على مخارج الحروف بالضبط كما يرتب الهنود حروف لغتهم".
والغريب أن المستشرق هاي وود يؤكد أن معاجم الهنود لم تظهر إلا في القرن الثاني عشر، وهو وقت العرب فيه قد انتجوا بعض معاجمهم العظيمة. وأفضل ما في هذا المقال (13): "الحقيقة أن العرب في مجال المعجم يحتلون مكان المركز سواء في الزمان أو المكان بالنسبة إلى العالم القديم والحديث وبالنسبة إلى الشرق والغرب".
وهذه خلاصة ترسي قواعد الحق، وتعطي الفضل أصحابه، وتثبت أن العرب أسبق الأمم إلى وضع المعجم. وقد أكد هذه الأصالة . وقد أكد هذه الأصالة د. العطار بقوله (14): "وإ1ذا كان الخليل مسبوقاً من بعض الأمم في هذا السبيل، فإن من الحق أن نذكر أنه لم يكن مقلداً أحداً، أو ناهجاً على طريق سابق، بل كان مبتكراً أو مخترعاً في الفكرة والمنهج والترتيب..."
سادساً: مدارس المعجمات العربية:
وضع الخليل أول معجم عربي مؤسساً فيه المدرسة المعجمية الأولى. وكانت لمدرسته مبادئ وأصول خاصة وتلامذة حذوا حذوه. ومدارس المعجمات في نظر الباحثين أربع عند العرب.
1-مدرسة الخليل(ت 175ه):
كانت العناية قبلها منصرفة إلى الرسائل والمجموعات التي وضعها الأصمعي (ت216ه) وأبو زيد الأنصاري (ت 215 ه) وغيرها. مهّدت هذه الرسائل إلى المعجم ولم تكن معاجم لاختلافها عنها في الهدف والمنهج. وبقي معجم العين أول معجم حاول حصر ألفاظ اللغة حصراً شاملاً في إطار نظام منهجي واضح استوعب فيه شوارد اللغة.
وأهم مبادئ هذه المدرسة:
-ترتيب المواد ترتيباً صوتياً بحسب مخارج الحروف بتأثير من علم الموسيقى.
-تقسيم المعجم إلى كتب، وتفريغ الكتب إلى أبواب بحسب الأبنية، وحشد الكلمات في الأبواب.
-تقليب الكلمة إلى مختلف الصيغ وفق نظام الاشتقاق الكبير، ورصد المستعمل والمهمل من هذه التقليبات.
واستمر هذا النهج في معجم البارع للقالي (ت 356 ه) وتهذيب اللغة للأزهري (ت 370 ه)، والمحيط للصاحب بن عباد (ت 385 ه)، والمحكم الأعظم لابن سيده (ت 458ه).
2-مدرسة أبي عبيد القاسم بن سلاّم (ت 224ه):
حملت هذه المدرسة اسم أبي عبيدة لأن كتابه (الغريب المصنف) أول كتاب وصل إلينا مصنفاً على طريقة الموضوعات ويضم ثلاثين باباً. وقامت هذه المدرسة على بناء المعجم على المعاني والموضوعات، ورتبت فيها الثروة اللغوية في مجموعات من الألفاظ تندرج تحت فكرة واحدة. من أهم أتباعها:
أ-كراع النمل (ت حوالي 310ه) في المُنَجَّد في ما اتفق لفظه واختلف معناه وقسمه إلى أبواب هي:
1-في ذكر أعضاء البدن من الرأس إلى القدم.
2-في ذكر الحيوان من الناس والسباع والبهائم والهوام.
3-في ذكر الطير.
4-في ذكر السلاح.
5-في ذكر السماء وما يليها.
6-في ذكر الأرض وما يليها وفيه ثمانية وعشرون فصلاً على عدد حروف المعجم.
ب-الهمذاني عبد الرحمن بن عيسى (320ه)، في كتابه (الألفاظ الكتابية).
وقد وزع موضوعاته على أبواب كثيرة، تفاوتت طولاً وقصراً، هادفاً إلى إثبات العبارة الفنية، وانتخاب التعبير الجميل لإمداد الكتاب بزاد من الفصاحة وحسن العبارة.
فخالف بذلك طريقة المعجم لأن المعجم يرمي إلى الجمع والاستقصاء لا إلى الانتخاب والانتقاء.
ج-الثعالبي (ت 429) في كتابه (فقه اللغة وسر العربية). هو أشهر معجمات المعاني، وزه على ثلاثين باباً، في كل باب عدد من الفصول. بدأ الباب الأول بالكليات وفصله الأول في ما نطق به القرآن من ذلك، وفصله الثاني في ذكر ضروب من الحيوان، وفصله الثالث في النبات والشجر وهكذا... فبلغت فصول الكتاب ستمائة فصل. وقد نقل بعض فصوله عن المتقدمين.
د-ابن سيده (ت 458 ه) في معجمه (المخصص). هو أكبر معجمات المعاني.
من فضائله: تقديم الأعم فالأعم على الأخص فالأخص، والأتيان بالكليات قبل الجزئيات والابتداء بالجوهر والتفقيه بالأعراض على ما يستحقه من التقديم والتأخير، وتقديمنا (كم) على (كيف) وشدة المحافظة على التقييد والتحليل). قسمه إلى عدد من الكتب منها: كتاب خلق الإنسان، ويتضمن باب الحمل والولادة، والرضاع والفطام والغذاء، وسائر ضروب التربية والغذاء، وأسماء أول ولد الرجل وآخرهم وأسماء ولد الرجل في الشباب والكبر وهكذا...
والكتاب على نفاسته لا يخلو من عيوب، أهمها: اختلاط الموضوعات، وإقحامه مسائل لغوية ونحوية وصرفية وما إليها..
وجهت إلى هذه المدرسة انتقادات شتى، هب بعضهم إلى أن سلبياتها تفوق إيجابياتها.
ولكن الإنصاف يقضي بالاعتراف لها بأنها تسد حاجة من حاجات المنشيء، وتسهل عليه التعمق في موضوعه، وتمده بسرعة بالألفاظ الصحيحة والمعاني الدقيقة. فالباحث عن صوت من أصوات الحيوان مثلاً في معجم المعاني قد لا يعثر عليه إلا بشق الأنفس أما في معجم الموضوعات فإنه يعثر عليه بسرعة فائقة. وقل مثل ذلك في درجات الحزن ومراتب البكاء والفرح والسعادة وما إلى ذلك.
3-مدرسة الجوهري (ت 400 ه) (في معجمه الصحاح):
رتبت المعجم ترتيباً هجائياً، وقسمته إلى فصول وأبواب معتمدة الحرف الأخير من الكلمة وسمته باباً، وسمت الحرف الأول فصلاً، ونظرت إلى الحرف الثاني في الثلاثي وإلى الحرف الثالث في الرباعي ليأتي الترتيب دقيقاً. وهذا الترتيب أسهل بكثير من ترتيب الخليل.
من أبرز أتباعها:
أ-ابن منظور (ت711ه) في "لسان العرب":
واللسان أشهر معاجم العرب إلى يومنا هذا وأكثرها تشعباً وأغزرها مادة. فلقد احتوى ثمانين ألف مادة. وعُد موسوعة لغوية أدبية شاملة.
اعتمد فيه الفصل والباب على طريقة الجوهري. لكن دار المعارف بمصر قد أعادت توزيعه في طبعة جديدة معتمدة الطريقة الألفبائية الحديثة وأصدرته في ستة مجلدات.
ولهذا المعجم أهمية كبرى في لغتنا، فهو منذ صدروه وإلى زماننا هذا يُعد أهم معجم عند الدارسين العرب والأعاجم. وأبرز د. محمد سالم الجرح مكانته بقوله (18): "وظهور مثل هذا المعجم الموسوعي الشامل، الدقيق الترتيب، الجامع لصنوف البحث اللغوي المتعلقة بكل لفظ قد جعل للغة العربية مكانة فريدة بين سائر اللغات في ميدان النشاط المعجمي. فقد ظلت اللغة العربية منفردة بمثل هذا المعجم الضخم بين لغات الإنسان جميعاً في القديم والحديث حتى القرن التاسع عشر حين بدأ يظهر على رفوف المكتبات في أوروبا معاجم لبعض اللغات الأوروبية كالإنكليزية والألمانية تضارع لسان العرب في الإحاطة والاتساع".
ب-الفيروزابادي (ت 817 ه) في القاموس المحيط:
رتبه على الفصل والباب واستخدم فيه الرموز لأول مرة. احتوى ستين ألف مادة وبقي حجمه أصغر من لسان العرب، ونافسه في الشهرة والذيوع إلى يومنا هذا.
ج-الزبيدي (ت 1205 ه) في تاج العروس:
اعتمد فيه مادة القاموس المحيط، ووسعها، وأثبت الشواهد التي أهملها القاموس المحيط. وصنفه على الباب والفصل كما في الصحاح. وصدّر كل باب بكلمة موجزة تحدث فيها عن الحرف وبيَّن مخرجه وصفاته وابدالاته. ووجه عناية خاصة إلى المجاز ولكنه أورد فيه الكثير من الألفاظ العامية المصرية خاصة.
لم تخط هذه المدرسة بالتصنيف المعجمي خطوة نوعية، فهي وأن كانت أسهل من طريقة الخليل إلا أنها لا تخلو من صعوبات ولم تسلم من تهكم بعض الدارسين، فالأستاذ عبد الحق فاضل ذكرها بقوله (19): "آثر القدماء من العرب ترتيب معاجمهم بحسب الحروف الأخيرة من الكلمات، وفي ذلك ما فيه للشعراء في تصيّد القوافي الشوارد، وإزعاج لسائر الخلق في إيجاد الكلمات التي يبغون البحث عنها في المعجم".
4-مدرسة البرمكي (ت 411 ه):
لم يؤلف البرمكي معجماً، بل أعاد ترتيب الصحاح وفق أوائل الأصول فصار بذلك زعيم مدرسة التبسيط والتيسير. وهذه المدرسة هي التي استمرت إلى يومنا هذا لأنها رتبت المعجم وفق أوائل الحروف مبتدئة بالهمزة، منتهية بالياء مع مراعاة الحرف الثاني والثالث والرابع. وسبقت المعجمات الحديثة في ترتيب المواد ترتيباً محكماً. من أتباعها:
أ-أبو عمرو الشيباني (ت 206 ه) في معجم (الجيم):
قال القِفطي (20): "وصنف أبو عمرو كتاب الحروف في اللغة وسماه كتاب الجيم وأوله الهمزة. لم يذكر في مقدمة الكتاب لمَ سماه الجيم ولا أعلم من العلماء ذلك".
ويبدو أن القفطي كان يتوقع أن يبدأ بحرف الجيم كما بدأ معجم العين (بالعين). لكن الشيباني قسمه جواباً مرتبة على الحروف الهجائية جاعلاً لكل حرف منها باباً خاصاً.
والسؤال لماذا لم يكن الشيباني زعيم هذه المدرسة وهو سابق البرمكي؟ والرد أن الشيباني أورد في كل باب الألفاظ التي تبدأ بذل الحرف مهملاً الحرف الثاني وما بعده.
ولهذا لم تكن طريقته رائدة فهي مشوبة بكثير من الفوضى والاضطراب داخل الباب الواحد.
ب-ابن دريد الأزدي (ت 321 ه) في جمهرة اللغة:
اعتمد فيه الترتيب الألفبائي، وقسمه إلى أبواب هي أبواب كتاب العين من ثنائي مضعَّف إلى ثلاثي صحيح إلى رباعي وخماسي منتهياً باللفيف والنوادر. ولم يكتف بذلك بل عاد إلى طريقة الخليل في التقليب. وحرص أن يبدأ كل باب بالكلمة التي تبدأ بالحرف المعقود له الباب، يليه مباشرة الحرف الذي يتبعه في الترتيب الألفبائي فباب الباء مصدّر بـ (بتّ) وباب التاء مصدّر بـ (تتّ) وهكذا.
وأعتقد أنه من الخطأ أن يصنَّف المصنفون هذا المعجم في مدرسة البرمكي لأن مدرسة البرمكي تمثل غاية التطور في البحث المعجمي، وبلغت ذروة التبسيط والتيسير. وابن دريد عقَّد البحث فأتعب الباحث وضيَّعه بين الأبواب والتقليب.
ج-ابن فارس (ت 395 ه) في مقاييس اللغة:
اعتمد فيه الترتيب الألفبائي وقسمه إلى كتب بعدد حروف الهجاء فكتاب للألف وثان للباء وثالث للثاء هكذا. لكنه قسم كل كتاب إلى ثلاثة أبواب هي: الثنائي المضعف والثلاثي وما زاد على الثلاثي. وتخلى عن التقليب إلا أنه وقع في أشكال كبير عندما بدأ كل كتاب بالحرف الذي يبدأ فيه اللفظ مع الحرف الذي يليه مباشرة في الترتيب الهجائي تاركاً ما قبله من حروف. ففي باب الدال بدأ بالكلمات التي تبدأ بالدال مع الذال وما يثلثهما وصولاً إلى الياء ثم يعود إلى الكلمات التي تبدأ مع الهمزة وما يثلثهما وهكذا...
وهذه الطريقة عقدت البحث في المعجم ولا ضرورة لاعتمادها بعد ما تخلى عن طرقة التقليب الخليلية.
د-الزمخشري (ت 538) في أساس البلاغة:
أول معجم مطبوع مرتب ترتيباً ألفبائياً محكماً فسبق المعاجم الحديثة. قسمه إلى ثمانية وعشرين باباً بعد حروف الهجاء، وراعى فيه ترتيب الحرفيين الثاني والثالث من الكلمة فقضى على كثير من الصعوبات والتعقيدات السابقة وصار في ترتيبه رائداً بحيث أن المعجمات الحديثة لم تضف شيئاً إلى طريقته.
صرف همه إلى إظهار جمال اللغة فأفرد المجاز عن الحقيقة والكناية عن التصريح.
وريادة هذا المعجم تكمن في أنه وضع أمام القارئ استعمال اللفظ في أساليب متعددة مما تحدثت به العرب. وفيه أكثر من خمسة آلاف شاهد شعري، وآلاف الأمثال والحكم والجمل البلاغية. وقد سبق المعاجم الأعجمية في وضع الكلمة في جملة أو مثل مأثور يفهم معناها من السياق.
ه-الفيومي (ت 770 ه) في المصباح المنير:
اتبع فيه طريقة الزمخشري. لكنه مختصر جداً فلم يتسع لألفاظ العربية كلها.
وهكذا نرى أن المعجم العربي قد تخلص من شوائب البحث في المعجم في المراحل الأولى من عمره. وبقي رغم اتهامه بالصعوبة قائماً، والسبب أن أكبر المعجمات وأوسعها وأشملها بقيت معتمدة وموثوقة إلى يومنا هذا، وهذه المعاجم الميسرة لم تغن عن تلك فلم تكن شاملة مستوعبة. وكان الغرض منها بلاغياً.
ولا بد من ملاحظة أمر هام هو التزام هذه المعاجم جميعاً بمراعاة أصل الكلمة أو الجذر. وهذا الجذر يمثل المادة الخام التي تصدر عنها المشتقات جميعاً. والرجوع إلى الجذر شكّل مأخذاً على معجمنا من بعض النقاد الذين استصعبوا العودة إلى أصل بعض الألفاظ ونادوا بترتيب المعجم بحسب صورة الكلمة متناسين طبيعة لغتنا الاشتقاقية.
وهذا الترتيب يحافظ على الروابط المعنوية والدلالات المشتركة العائدة إلى جذر واحد.
أشار العلامة عبد الحق فاضل إلى بعض الصعوبات بقوله (21): "كيف يخطر لأحدنا أن يبحث عن (الاتحاد) في وحد) و(الاستيعاب) في (وعب) و(الاتهام) في (وهم) و(الاستقلال) في (قلل) و(الاستفادة) في (فيد) و(الاستقالة) في (قول)؟".
ما ذهب إليه الأستاذ فاضل صحيح جداً حتى ليصعب أحياناً على أهل الاختصاص معرفة جذر بعض الألفاظ، وأنهم ليقضون ساعات في البحث عنها في هذه المادة أو تلك، وقد يرجعون بخُفَّي حنين وقد يهتدون إليها مصادفة. وعلى الرغم من هذه الصعوبات فأنا مع الجذر لا مع هذا الترتيب الذي يفتت الجذر العربي، ويشتت شمل الكلمة، ويقطع علاقة المشتقات، وهذا الترتيب الفيتيشي التجزيئي يصلح في نظري- أن صلح –لصغار التلاميذ وأشباه العامة، ولكنه لا يصلح للغتنا، ولا لطلاب المعرفة من أبنائنا. وقد أصاب د. إبراهيم أنيس بقوله (22): "شهدنا في العصر الحديث اتجاهاً إلى ترتيب المعجم العربي على حسب صور الكلمات. وجاءنا من لبنان معجم يسمى "الرائد" مطبوعاً ومرتباً بهذه الطريقة العجيبة، التي أشبه بأرشيف المكتبات أو دليل التليفونات، ففيه نجد كلمة استفهم بجوار استف واستفاض لا لشيء سوى لأنها جميعاً تبدأ بالألف والسين والتاء، كما نرى الكلمات ناصر ومنصور وانتصر ونصير واستنصر في مواضع متباعدة من المعجم برغم الدلالة العامة المشتركة بينها جميعاً.
سابعاً: المعجم الحديث:
عرفت حركة التأليف المعجمي نشاطاً بارزاً بعد منتصف القرن الثاني. وأصدرت دور النشر ولا تزال عدداً هائلاً من المعجمات الخاصة والعامة، الأحادية اللغة والثنائي اللغة والمتعددة اللغات. وعقدت مؤتمرات وندوات في أرض العرب كما في أرض العجم لدراسة مشكلات المعجم وخلصت إلى توصيات ومقررات هامة سنأتي على استعراضها بسرعة.
أبرز معاجم القرن التاسع عشر هو الجاموس على القاموس لأحمد فارس الشدياق (ت 1878م) وأبرز ما في هذا المعجم طريقته ونقده للمعجم العربي بعامة وللقاموس المحيط بخاصة. وإليكم أبرز آرائه:
1-ترتيب المواد:
عاب على الفيروزابادي اتباعه نهج الصحاح ورأى أنه كان من الأولى اتباع نهج ابن فارس لأن التطور يجب أن يكون نحو الأفضل ولا بد من مجاراة الزمن. وكما اعترض على الفيروزابادي اعترض على طريقة الخليل وأتباعه بقوله (23): "وبالجملة فالبحث عن الألفاظ في التهذيب للأزهري، والمحكم لابن سيده صعب جداً، لأنك إذا أردت أن تبحث مثلاً عن لفظ (رقم) لم تدرِ هل هي الأصل لتبحث عنها في الراء، أو مقلوبة فتبحث عنها في القاف (قرب) أو عن برق وما بين هذه الحروف مسافة بعيدة".
ولهذا رأينا الشدياق على طريقة الزمخشري ومن تابعه.
ب-ترتيب المشتقات: رأى أن ترتيبها في القاموس المحيط جاء اعتباطاً وفوضوياً، والباحث فيه لا يجد طلبه بسهولة، وربما احتاج أن يقرأ المادة بكاملها ليعثر على ضالته.
ج-تحديد الفصيح: اعترض الشدياق على الطريقة الموروثة في تحديد الفصيح، لأنها جعلته على عصر الاحتجاج، وذهب إلى أن أي شاعر يعترف له بالجودة يصح الاحتجاج بشعره.
وتحديد الفصيح من أهم القضايا التي تواجه مجامعنا اللغوية. فالمتشددون يخطّئون كل لفظ لم يرد في اللسان، الذي يجعلونه فيصلاً في هذا الباب. لكن هؤلاء نسوا أن ابن منظور توفي سنة إحدى عشرة وسبعمائة للهجرة وأن اللغة العربية بقيت بعده.
فالجاموس على القاموس يمثل ذروة الثورية في التأليف المعجمي. فهو يحارب التقليد ويدعو إلى مواكبة العصر والعلم والتطور. قال الشدياق (24): "أن الأقدمين قد ألفوا لعصورهم، وجروا في كتب اللغة على ما كانت تقضي به أصولهم اللغوية في ذلك الحين، فقد صنفوا ونفعوا وأفادوا غير أنهم ألفوا كتبهم على حسب أفهاهم وأذهانهم... وأنه لا عيب عليهم في ذلك". فأين يكمن العيب إذاً؟ -يكمن العيب في جمودنا فهم عملوا لزمانهم فلِمَ لا نعمل لزماننا؟ لقد خلا المعجم القديم من لفظ الطيارة والتلفزيون والتلفون والتلغراف وغيرها من الأسماء، لأن المسميات لم تكن معروفة فهل يجوز أن يخلو مجتمعنا الحديث منها وقد باتت ملء السمع والبصر؟
والمعجم الثاني في القرن التاسع عشر هو محيط لبطرس البستاني (ت 1883م). طبع لأول مرة سنة 1870م، مستمداً مادته من القاموس المحيط للفيروزابادي، ورتبت مواده ترتيباً هجائياً بحسب أوائل الكلمات. استخدم الرموز وضبط الكلمات غير أنه استخدم العامية فاتهمه الشيخ محمد عبده بالركاكة والضعف.
ونذكر بعد ذلك عدداً من المعجمات التي ظهرت ابتداء من مستهل هذا القرن من أمثال الموارد في فصح اللغة والشوارد لسعيد الشرتوني (ت 1912م) وقد أخذ مادة القاموس المحيط حاذفاً منها الألفاظ الجنسية لأنها تسيء إلى التهذيب والأخلاق وتخدش العفاف والوقار. والمنجد للأب لويس معلوف (ت 1946م) وهو أوسع المعجمات الحديثة انتشاراً ولقد أعيد طبعه مراراً وخضع لإضافات وتعديلات كثيرة. وهو في الأساس معجم مدرسي صدر سنة 1956م ملحقاً باسم المنجد في الأدب والعلوم وهو معجم لأعلام الشرق والغرب.
طباعته أنيقة زينت فيه اللوحات والصور والخرائط واستخدام اللون الأحمر للجذور.
إلا أن المآخذ عليه لا تحصى، أهمها: وقوعه في العامية عن سابق تصور وتصميم. وجاء في تعريف الأعلام كثير من الشتويه، وأهمل ما يتصل بالإسلام والمسلمين. وقد وقع في أخطاء كثيرة في الضبط. وغير هذا كثير. وكان أستاذنا الشيخ صبحي الصالح –رحمه الله –يردد على مسامعنا كلما ذكر أسمه: المنجد لا ينجد.
أما "البستان" لعبد الله البستاني فقد صدر سنة 1930 م ببيروت بتكليف من الجامعة الأميركية، جديدة أنه أثبت أسماء المخترعات الجديدة والمصطلحات العلمية إلا أنه حشر فيه الكثير من المولد والدخيل.
والمعجم الذي يجب التوقف عنده هو متن اللغة للشيخ أحمد رضا (1953 م).
وكان وضعه بتكليف من مجمع اللغة بدمشق واستغرق العمل فيه سنوات عديدة. طبع بعد وفاته في خمسة أجزاء كبيرة. جديدة أنه ألحق في المقدمة جداول تبين الوحدات القياسية من موازين ومكاييل ومقاييس، ثم أثبت جدولاً آخر حشد فيه الكلمات الدخيلة التي عرّبها بنفسه أو التي عرّبتها مجامع اللغة.
وبانتصاف القرن العشرين يلمع نجم العلايلي وخاصة بعدما أصدر (المعجم) سنة 1954 م وكان مقرراً له أن يصدر في أربعة وعشرين مجلداً يضم كل منها أربعة وعشرين قسماً. ولم يصدر منه إلا اليسير جداً. إلا أن ما ظهر منه ينبئ عن عبقرية صاحبه وعقله المدبر، وحسه اللغوي المتوقد. لقد ميز فيه المعنى الأصلي عن المعاني الفرعية فساعد بذلك على رصد التطور المعنوي وتفرعه بين الحقيقة والمجاز. واهتم بالمولد والدخيل مميزاً القديم منهما عن الحديث ولم يكتف بما وضعته المجامع في هذا الباب بل راح يضع الألفاظ بنفسه معتمداً القياس والاشتقاق مثبتاً بذلك قدرة العربية على التعبير عن الفكر المعاصر وأكد أن الاشتقاق يجعل من لغتنا لغة مرنة مطواعة.
وقبل أن يتم العلايلي (المعجم) طلع علينا بمعجم آخر هو (المرجع) الذي صدر سنة 1963 م على نسق المعجم، وزواج فيه بين الطريقة العربية والغربية في ترتيب المواد فأثبت المصطلح في موضعه من النطق وأثبت الأفعال مجردة ومزيدة تحت الجذر. فكلمة (انتضى) مثلاً يجدها الباحث في باب الألف مرتبة ترتيباً هجائياً ويجد في مقابلها (نضو).
اقترح فيه وضع أوزان ثابتة للمصطلحات العلمي والصناعية والزراعية كأن نخصص (فِعالة) للمصطلحات الصناعية مثل حِدادة ونجارة وحلاقة... ووزن مفعَلة للدلالة على الآلة مثل: مطرقة: مِسطرة... وتساءل لِم لا يفعل ذلك العرب القدامى خصصوا وزن فعال للأمراض الآنية العابرة فقالوا: سُعال وزُكام وصُداع ودُوار... كما خصصوا وزن فَعَل للأمراض المقيمة غير الآنية مثل (خَرَس وعَرَج وبَرَص وعَمَى...).
وبذلك يخطو العلايلي في معجميه بالمعجم العربي خطوة تطورية هامة، فلقد جعل المعجم عصرياً يفسر المادة من جوانبها اللغوية والفلسفي والعلمية والنفسية والاجتماعية، وكاد يضع المعجم التاريخي عندما تتبع التطور المعنوي للفظ عبر العصور بشكل تعاقبي.
وبعدما استعرضنا جهود الأفراد في العمل المعجمي الحديث نرى ضرورة تقويم جهود الجماعات والمؤسسات في هذا السبيل. ومنها:
1-المعجم الوسيط:
أصدره مجمع اللغة في القاهرة، وتعاونت في وضعه لجان متخصصة. أبصر النور سنة 1960 في جزأين ثم صدر ثانية سنة 1972 م منقحاً وقد أهملت بعض أصوله السابقة وأضيفت إليه أصول جديدة أقرها المجمع في جلساته المنعقدة ما بين 1960 و1971 م. تضمن كثيراً من الألفاظ المولدة والمحدثة العلمية الحديثة في ميادين مختلفة. وقبل المعرّب مشيراً إليه برموز واضحة. ومن المآخذ عليه إغفاله الكثير من الألفاظ المحدثة التي استقرت في لغة الكتّاب منذ فجر النهضة، وتمسّكه –بقياسات قديمة للجموع دون النظر إلى صلاحها أو عدم صلاحها. وفيه مقدار غير ضئيل من الألفاظ العامية المصرية خاصة، ووعد بإهمال الحوشي الذي هجره الاستعمال ولم يفِ بوعده.
2-المعجم الكبير:
أصدره مجمع اللغة بالقاهرة أيضاً على دفعتين. صدر الجزء الأول وهو حرف الهمزة سنة 1970 م وصدر الجزء الثاني وهو حرف الباء سنة 1982 م وقد أرفقا بكتيّب بعنوان (المنهج والتطبيق) جاء فيه: في المعجم ثلاثة جوانب هي:
1-جانب منهجي هدفه الأول دقة الترتيب ووضوح التبويب.
2-جانب لغوي يعنى بتصوير اللغة تصويراً كاملاً.
3-جانب موسوعي يقدم ألواناً من العلوم والمعارف تحت أسماء المصطلحات أو الأعلام.
ولقد مضى على صدور الجزء الثاني أكثر من عشر سنوات ولم يصدر بعد الجزء الثالث وهذا البطء في العمل لا بد أن يؤثر سلبياً وفي مستخدميه.
الجديد في هذا المعجم أن المجمع أظهر منه نموذجاً من نحو 500 صفحة عام 1956 م وعد ذلك (25) "تجربة ودعا المختصين إلى قراءتها وتسجيل ملاحظاتهم عليها". وقد أخذ بملاحظات المتخصصين وراح خبراء المجمع يدققون ويمحون حتى صدر هذا المعجم آية في التأصيل والتحقيق متدرجاً في المعاني من الحسي إلى المعنوي ومن الحقيقي إلى المجازي. وذكر في صدر كل مادة النظائر السامية إن وجدت وبوبت المواد تبويباً سهلاً وأثبتت فيه المصطلحات الحديثة الشائعة في الأوساط العلمية والحياة العامة. ولم يهمل أعلام الأشخاص: وزواج بين النظام الألفبائي الأصولي بحسب أوائل الأصول، والنظام الألفبائي النطقي المطلق فحل بذلك مشكلة إدراج الكلمات المعربة والدخيلة.
لقد وضع هذا المعجم –على ما يبدو –ليكون في مصاف المعاجم العالمية الشهيرة كموسوعة Larousse الفرنسية و Oxford الإنكليزية. وهو إذا تم مع إجراء بعض التعديلات الطفيفة عليه يكون معهما على مستوى واحد إن لم يفقهما دقة وحسن تبويب.
إلا أنه لا يجوز أن تستمر فيه عيوب الشكل. فالصور غير ملونة ولا يخفى ما للصورة الملونة من أهمية في توضيح الآلة والنبات وغيرهما... ولا يجوز أيضاً التذرع بالتكاليف الباهظة لأن الأموال تكال جزافاً لمشاريع أخرى لا ترقي –مهما جلت أهميتها –إلى مكانة المعجم.
وإننا لندعو مجامع اللغة والدول العربية مجتمعة أو متفرقة إلى اعتماد الأجهزة الإلكترونية في التبويب والإخراج. فمن حق المعجم الذي يتحدث عن المكتشفات أن يستفيد منها ويحدث بنعمتها.
ثامناً: مساهمات عربية في الهم المعجمي العالمي:
أطلقت أوروبا على القرن التاسع عشر تسمية عصر المعجمات وبعد منتصف القرن الحالي راحت تعقد المؤتمرات المحلية والدولية لتدارس شؤون المعجم. ومن أبرز المؤتمرات المؤتمر الذي نظمته جامعة (انديانا) بأميركا في شهر تشرين الثاني من عام 1960 م بموضوع (مشاكل المعجم). وقد اشترك فيه أكثر من خمسين لغوياً ومعجمياً عرباً أو أعاجم. ومما جاء في تقرير لأحد المشاركين فيه واسمه هاوس هولدر ما يأتي (26):
1-يجب أن يأخذ المعجم في الاعتبار نوعاً خاصاً من المستعملين له وحاجاتهم.
2-لا بد أن تكون المواد واضحة الترتيب في موضوعها، وتوضع الصيغ الشاذة كمواد قائمة بنفسها، وإلا فيشار إلى موضعها في المادة الأصلية.
3-التمييز بين المعاني الأصلية والمعاني المجازية؟ على أساس لغوي.
هذه التوصيات تشير بوضوح إلى أن مشكلات المعجم تكاد تكون واحدة في أرجاء المعمورة. والمراقب المنصف لا بد أن يلاحظ أن معجمنا العربي قديمه وحديثه قد أخذ بمعظم هذه التوصيات.
تاسعاً: المعجمات الثنائية اللغة والمتعددة اللغات:
قضت سنة التطور والانفتاح والتبادل الثقافي وأغراض أخرى أن تفكر الأمم بمعجمات ثنائية اللغة أو متعددة اللغات. ولم يكن العرب مختلفين عن الركب في هذا الميدان.
وأنه لمن الصعوبة بمكان رصد المعجمات جميعاً لكن لا بد من الإشارة إلى بعضها كالمنهل (فرنسي –عربي) للدكتورين عبد النور وإدريس، والمورد (إنكليزي –عربي) وعربي إنكليزي للبعلبكي، ومعجم عبد النور (عربي –فرنسي). ويكاد يكون هناك معجم أعجمي عربي أو العكس لك لغة من اللغات الحية.ومن هذه المعاجم ما هو تجار رخيص ومنها ما هو علمي رصين. وهنا لا بد من التنويه بالدور الكبير الذي اضطلع به المكتب الدائم لتنسيق التعريب في الوطن العربي ومركزه الرباط حيث راح ينشر في مجلته المعجم تلو الآخر ومنها على سبيل المثال لا الحصر: معجم الكيمياء، ومعجم الفيزياء، ومعجم الرياضيات، ومعجم النبات، ومعجم الحيوان، ومعجم البترول، ومعجم البناء، والمعجم المنزلي، ومعجم الأطعمة، ومعجم الحرف والمهن، ومعجم المرأة، ومعجم الزهور، ومعجم الإذاعة والتلفزة، والمصطلاحات الإعلامية، والمصطلاحات الرياضية، ومصطلحات العَنَفات (Tubines)، ومصطلحات في أمراض الأذن والأنف والحنجرة، والمصطلحات الفلسفية، والمصطلاحات البريدية وغيرها كثير. وقد صدرت هذه المعجمات بمعظمها باللغات الثلاث العربية والفرنسية والإنكليزية. وقد أُتبع أكثرها بملاحق أغنتها، وتداركت نقص الطبعات الأولى. وكان مجمع اللغة قد أصدر معاجم متخصصة كالمعجم العسكري الموحد باللغتين الإنكليزية والعربية أولاً ثم بالفرنسية والعربية ثانياً وغيره كثير.
ولم يكتف المكتب الدائم لتنسيق التعريب بذلك بل كانت له أعمال جليلة أخرى أطل فيها العالم المتمدن بعدما حصن البيت من داخل فعرَّف بمآثر العرب المعجمية، ووقف على ما عند الآخرين من جديد في هذا الميدان. وأبرز أعماله (الندوة العالمية لصناعة المعجم العربية للناطقين باللغات الأخرى) التي انعقدت بالرباط من 1 إلى 8 نيسان 1981. شارك فيها وفود عربية وغربية من فرنسا وبريطانيا وألمانيا والولايات المتحدة؛ ومن أبرز الموضوعات التي ناقشها المؤتمرون (27):
1-المنهجية في صناعة المعجم.
2-مشكلات الدلالة في المعجم الثنائي اللغة.
3-المعجم العربي للناطقين باللغات الأخرى.
4-ترتيب مداخل المعجم.
والمهم في هذه الندوة التوصيات الصادرة عنها وجاء فيها:
1-التعريف بالرموز المستعملة في المعجم وبيان كيفية استخدام المعجم.
2-اتباع أحد طريقين في ترتيب المعجم، إما على حسب الجذور وإما على حسب نطق الكلمة. وفي كلتا الحالتين يتبع الترتيب الهجائي العادي بحسب أوائل الكلمات.
وفي حالة اتباع نظام الجذور ينصح بترتيب المصطلحات والألفاظ الدخيلة والمعربة على حسب نطقها.
3-ضرورة تضمن المعجم قدراً معقولاً من المصطلحات العلمية وبخاصة ما يتصل منها بالحياة العامة.
4-استخدام الصور والرسوم والخرائط ووسائل الإيضاح الممكنة، واستخدام نماذج ملونة حين معالجة ألفاظ الألوان.
والمعجم العربية كما رأينا سابقاً قد عمل أو بالأحرى قد سبق إلى تنفيذ بعض التوصيات قبل صدورها عن المؤتمر. وفي هذا السبق فخر للعرب في هذا الميدان.
عاشراً: صيحات للتجديد:
على الرغم من هذه الثورة الدائمة التي أحدثها المكتب الدائم لتنسيق التعريب في الوطن العربي، ومجامع اللغة العربية في عالم المعجم فإن صيحات تدعو للتجديد ما زالت تعلو من هنا وهناك. والذي يبشِّر بالخير فيها أنها دعوات من مجمعيين ذوي علم وحس لغوي. هذه الصيحات تشعرنا بأن الجمود موت والتطور واجب، ولا يجوز الوقوف حيث نحن ولو قبضنا في حين على ناصية العلم والمعرفة.
نذكر من هذه الصيحات تلك التي أطلقها عضو المجمع العلمي العراقي د. محمود الجليلي وطالب فيها بوضع (المعجم اللغوي الحضاري) (28) الذي: "يستوعب تطور اللغة العربية واستيعابها للحضارة في مختلف الأزمنة" وحدد محتويات هذا المعجم المقترح بما يأتي:
أ-تطور مدلول الكلمات تاريخياً.
ب-تدوين الاشتقاقات الجديدة المؤدية إلى معان معينة.
ج-تسجيل الاستعمالات الحديثة والمعاصرة التي أوجبها التطور الحضاري والتقني.
د-إدخال المصطلحات العلمية الحديثة.
ه-ضرورة الرجوع إلى كتب التراث. وكتب العلوم والطب وسائر فروع المعرفة للاستفادة من مفرداتها.
وليتم إعداد هذا المعجم على الوجه المقبول لا بد من توفر الشروط الآتية في نظره:
-تضافر جهود المتخصصين المتعاونين في كتابة المادة الواحدة.
-وجود جهة منسقة تحفظ التوازن وتقرر القبول في المواد.
-تأريخ المعلومات الجديدة، وإبقاء الباب مفتوحاً أمام الجديد ورفد المعجم بملاحق دائمة ومستمرة.
لا شك أن د. الجليلي صادق في ما ذهب إليه. لكن الإنصاف يقضي بالاعتراف بالفضل الكبير للجهود التي بذلتها مجامع اللغة والمكتب الدائم لتنسيق التعريب لأنها حققت في معجماتها أكثر ما يطلب به الدكتور الجليلي.
ويصدح بعد سنوات صوت آخر من المجمع العلمي العراقي نفسه هو صوت د. يوسف عز الدين فيكتب في مجلة المجمع مقالاً بعنوان (المعجم الذي نريده) يحدد فيها مواصفات هذا المعجم وملخصها:
-إبعاد الألفاظ العامية عنه حتى ولو استعملت في وسائل الإعلام.
-أن يكون سهل المأخذ بعيداً عن الحشو.
-أن يستغني عن الميت والمهمل من الألفاظ.
-أن يبتعد عن التصحيف والتحريف.
وربما استقى د. عز الدين ملاحظاته هذه من عيوب المعاجم الصادرة عن مجامع اللغة وقد أشرنا إلى أكثرها ونحن نعرض الرأي فيها.
ثم طالب مجمعي عراقي ثالث بمعجم تراثي في مقال عقده بعنوان (30) (المعجم الذي نطمح إليه) واشترط أن تتوفر فيه الشروط الآتية:
-ترتيب المواد ترتيباً ألفبائياً وفقاً للأحرف الثلاثة الأولى من الكلمة.
-وقوف القارئ داخل المادة الواحدة على مجموع آراء اللغويين.
-رصد التطور اللغوي الذي أصاب لغتنا عبر العصور.
-إدخال المصطلحات العلمية التي أقرتها مجامع اللغة.
وبعض ما نادى به هؤلاء المجتمعون متوفر في المعاجم العربي الحديثة وبعضها الآخر لا بد من دراسته دراسة علمية رصينة وهادئة من قبل المجامع للأخذ بالمقترحات التي تخدم معجمنا وتعمل على تحديثه وتفعيل دوره.
وفي النهاية لا بد من الاعتراف بأن دورة المعجم كدور الحياة متجددة غير متوقفة. وكل تطور في حياة الأمة يصيب الاقتصاد أو السياسة أو الدين أو الاجتماع أو العلم لا بد أن يرافقه تطور في المعجم الحي لأن المعجم الجامد يعني موت الأمة واندثار اللغة الناطقة بها.
***
الحواشي:
1-ابن منظور، لسان العرب (عجم).
2-ابن عبد ربه، العقد الفريد، دار الكتاب العربي –ط 1965، ج4 –121.
3-المعجم الوسيط (عجم).
4-حجازي، محمود فهمي، مجلة مجمع اللغة بالقاهرة العدد 40 ص 86 وما بعدها.
5-العطار، أحمد بن الغفور، الصحاح ومدارس المعجمات العربية، مكة المكرمة 1990 ص 53.
6-آل ياسين، محمد حسين، الدراسات اللغوية عند العرب، دار مكتبة الحياة بيروت سنة 1980 ص 222.
7-ابن منظور، لسان العرب (قمس).
8-الفيروزابادي، القاموس المحيط، طبعة مصطفى البابي الحلبي، ص 3.
9-Encyclopedie l,Islam, NV- IV, P. 994.
11-مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الجزء 30 ص 122.
12-ضيف، شوقي، الفن ومذاهبه في النثر العربي ط 5 ص 125.
13-مجلة مجمع اللغة بالقاهرة، الجزء 30 ص 122.
14-العطار، أحمد عبد الغفور، الصحاح ومدارس المعجمات العربية ص 65.
15-من رسائله: خلق الإنسان، الإبل، الخيل، الوحش، النبات، الشجر.
16-من رسائله: المطر، النبات، الشجر.
17-ابن سيده، المخصص 1/ 10.
18-الجرح، محمد سالم، مجلة اللغة بالقاهرة. العدد 28 ص 165.
19-فاضل، عبد الحق، مجلة اللسان العربي، المجلد السابع، العدد 2 يناير 1970 ص 10.
20-القفطي، أبناه الرواة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1981 القاهرة 1/ 224.
21-فاضل، عبد الحق، مجلة اللسان العربي، المجلد السابع، العدد 2 يناير 1970 ص 11.
22-أنيس، إبراهيم، مجلة مجمع اللغة بالقاهرة، عدد 25 ص 7.
23-الشدياق، أحمد فارس، الجاسوس على القاموس مطبعة الجوانب الآستانة سنة 1299 ه -ص 23.
24-المصدر السابق ص 3.
25-مدكور، إبراهيم، مجلة اللغة بالقاهرة عدد 1288.
26-أبو الفرج، محمد أحمد، المعاجم اللغوية، دار النهضة العربية بيروت 1966 ص 21 –22.
27-عمر، أحمد مختار، المجلة العربية للعلوم الإنسانية (الكويت) المجلد ج الأول العدد الرابع خريف 1981 ص 299 وما بعدها.
28-الجليلي، محمود، مجلة المجمع العلمي العراقي. المجلد الرابع والثلاثون، الجزء الأول كانون الثاني 1983 ص 89 وما بعدها.
29-عز الدين، يوسف، مجلة المجمع العلمي العراقي. المجلد الثامن والثلاثون الجزء الرابع كانون الأول سنة 1987.
30-آل ياسين، محمد حسن، مجلة المجمع العلمي العراقي، المجلد التاسع والثلاثون الجزء الأول ص 29 وما بعدها.
(1) باحث وأستاذ في كلية الآداب –الجامعة اللبنانية.
-----------------
نشر هذا البحث في :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 50 - السنة 13 - كانون الثاني "يناير" 1993 - رجب 1413