3- طلع البدر علينا" - مذاكرة تاريخيـة أدبـية :
يشيع في الأدبيات التاريخية ، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم أبيات مستفيضة الشهرة مختلف في زمن إنشادها، وهي في الأصل بيتان هما :
طـلع الـبدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وأكثر من يورد قصة الهجرة المباركة يروي هذين البيتين فقط.
قال ابن حجر في الفتح:" وأخرج أبو سعيد في (شرف المصطفى) ورويناه في (فوائد الخلعي) من طريق عبيد الله بن عائشة منقطعاً :
لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعل الولائد يقلن :] وأورد البيتين[ وهو سند منقطع ، ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك " .] فتح الباري : 7/307[
فثمة إذاً خلاف في زمن الإنشاد كما ذكر ابن حجر ، وممن ذهب إلى أنها قيلت عند مقدمه صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة : أبو بكر المعري والبيهقي وابن كثير والنويري والمباركفوري ، والثلاثة الأخيرون نقلوا الخبر دون تحقيق ، إلا أن المباركفوري أشار إلى أن ابن القيّم ذهب إلى أن إنشاد هذا الشعر كان عند مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك ، ووهم من يقول : إنما كان ذلك عند مقدمه المدينة ، وقال - أي المباركفوري - : لكن ابن القيم لم يأت على هذا التوهيم بدليل يشفي ، وقد رجّح العلامة المنصورفوري أن ذلك كان عند مقدمه المدينة، ومعه دلائل لا يمكن ردّها .ا.هـ ] انظر : الرحيق المختوم ص193، وقد أحال إلى : زاد المعاد3/10، ورحمة للعالمين 1/106[ .
وقد تبين من كلام ابن القيم أنه يروي أن زمن إنشاد هذا الشعر كان عند مرجعه صلى الله عليه وسلم من تبوك ، أما ابن حجر ، فأورده بصيغة التمريض :" ولعل ذلك كان في قدومه من غزوة تبوك" .
وذهب آخرون - منهم الجاحظ وياقوت وابن منظور - إلى أنها أُنشدت لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح ، ]ينظر : البيان والتبيين 4/57، ونهاية الأرب 4/190، واللسان (ودع)[.
وأحبّ لفت نظر القارئ إلى أن الرأي الأخير وهو الإنشاد عند فتح مكة لم يذهب إليه _ حسب اطّلاعي _ إلا الأدباء والمنشغلون باللغة ، وهم ليسوا محققين في هذا المقام.
وأبرز من حقّق قصة هذا النشيد _ وهو من مجزوء الرمل _ محمد الصادق عرجون(1321_1400) في كتابه القيم (محمد رسول الله 2/602-611) ،وسوف أنقل بعض كلامه لأهميته:
قال : وهذا النشيد لم نعثر على اسم قائله، ولا وجدناه منسوباً لشاعر صغير أو كبير ، بيد أنه شعر مشهور مُذاع على الألسنة وفي بطون الكتب والدواوين.
ومن غريب أمره أن سيرة ابن إسحاق التي بين أيدي الناس - باختصار وتهذيب عبد الملك بن هشام ، وهي العمدة في أحداث السيرة النبوية ، وما يتصل بها من أشعار صحيحة أومنحولة مما بينه الباحثون ، وفي طليعتهم ابن هشام - لم تورد هذه الأبيات ، لا في استقبال النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، ولا في استقباله وهو آيبٌ من غزوة تبوك ، وكلّ قد ذهب إليه طائفة من العلماء الباحثين والمؤلفين في أحداث السيرة النبوية .ا.هـ
وأضيف : ولم يوردها الطبري في تاريخه - وهو من العُمد - ولا خليفة بن خياط ، كما أن جملة من كتب الأدب ودواوينه لم تشر إليها.
ويتعلق ببحث المسألة تحقيق موضع (ثنيات الوداع ) التي اختلط القول فيها ، وهي بحاجة إلى مختص بالبلدانيّات ولا أستبعد أن يكون عاتق البلادي قد أشار إليها، ولكن كتابه ليس في متناول يدي الآن ، فليراجع .
ومما وقفت عليه قول ياقوت :( ثنية الوداع : ثنية مشرفة على المدينة ، يطؤها من يريد مكة ، وقيل : الوداع وادٍ بالمدينة) ]معجم البلدان :2/86[
وفي اللسان: (الوداع : واد بمكة، وثنية الوداع منسوبة إليه" ]مادة: ودع[وهذا اختلاف ظاهر ، ويبدو أن ما ورد في اللسان غير محقق ، إلا إذا أخذ اللفظ على أصل وضعه اللغوي :
فالثنية :هي الطريق في الجبل كالنقب ، وقيل : هي العقبة ، وقيل : هي الجبل نفسه ، وكل عقبة مسلوكة هي ثنية . اللسان (ثني) .
وعلى هذا التعريف اللغوي يصح أن تكون الثنية في كل جبل ، سواء كان بمكة أو المدينة أوغيرهما، والإضافة إلى الوداع واردة أيضاً في كل ثنية يُوَدّع المسافرون عندها ، غير أن المعتبر هنا ما أثبته التاريخ وكتب البلدان التي فيها أن ثنية الوداع في المدينة ، أما كونها بمكة فقول توقف عن الأخذ به بعض المعتنين بتاريخ المدينة ]ينظر : آثار المدينة المنورة لعبد القدوس الأنصاري : ص 160]
أرجع إلى كتاب الصادق عرجون الذي نقل عن القسطلاني قوله :"وسميت ثنية الوداع لأنه عليه السلام ودّعه بها بعض المقيمين بالمدينة في بعض أسفاره ، وهي غزوة تبوك …قال الزرقاني : وهذا يعطي أن التسمية – أي تسميتها ثنية الوداع – حادثة" وهو - والكلام لعرجون- أن نشيد : طلع البدر علينا قيل بعد التسمية الحادثه.
وذكر عبد القدوس الأنصاري (1324-1403) أن في المدينة ثنيتيْ وداع ، إحداهما شمال المدينة ، وإحدى الثنيتين هي التي عناها الولائد الأنصاريات في نشيدهن، والدلائل القوية التي ساقها السمهودي تجعلنا نرجح أن الثنية المقصودة هي الثنية الشامية (الشمالية). ا.هـ
ولم يُعلم - كما يقول عرجون - أن أحداً نص على أن ثنيات الوداع خاصة بناحية الشام ، ولا يمنع أن يكـون في كل ناحية ثـنية أو ثنيات وداع عندها يكـون وداع المسافرين وتلقي القادمين.
وإذا جاز هذا فلا مانع قط أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلقّاه أولاً أهل المدينة وهو قادم من مكة بذلك النشيد ، ثم تلقّوه ثانياً وهو قادم من تبوك . ا.هـ
وأعود إلى النصّ المنشد الذي أسلفت أن أكثر من يرويه يورده هكذا :
طلـع البدر عــلينا من ثنيات الوداع
وجب الشكـر علينا ما دعـا لله داع
وبعضهم يزيد بيتاً ثالثاً:
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
وقد كان هذا النص منطلقاً لاجتهادات وزيادات ، إذ بنى شوقي ضيف – مثلاً - عليه أن نساء المدينة ألّفن ما يشبه الجوقات ، وغنين بالدف والألحان ] انظر : الشعر والغناء في مكة والمدينة :ص 39[ ، وهذا من التهويم الذي لا يدعمه شاهد ، ولا يقوم به دليل ، والذي رواه أبو داود أن الحبشة لعبوا بحرابهم ، وأن ذوات صعدن على السطوح وأنشدن .
وتبارى بعض من كتبوا سيرة النبي كتابة مسهّلة للناشئة ، تباروا في تضمين هذا النشيد ، كعلي أحمد باكثير في مسرحية (الشيماء شادية الإسلام ص69).
بل إن بعضهم زاد هذا البيت :
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع
[ ينظر : أحمد التاجي ،قصة النبي الأعظم ص46 ]، ولا أدري هل الزيادة من التاجي أم أنه نقلها من غيره .
وغيّر بعضهم في النص تغييراً كثيراً ، وهو محمد موفق سليمة ، إذ جعله هكذا :
طلع البدر علينا بالهدى من ثنيات البشائر والـوداع
وجب الشكر علينا دائماً مرحباً يا خير ركب خير داع
أيها المبعوث فينا رحمة جئت بالأمر المحبب والمطـاع
ينظر : الهجرة ص16 ، وواضح أنها زيادة سقيمة أثقلت المبنى ولم تفد المعنى ، بل إن بعض الكلمات تنطق ساكنة ليستقيم الوزن ، وحسبك بهذا فساداً .
يقول عبد القدوس الأنصاري :" ومن الطرائف ما ذكره صاحب (مرآة الحرمين ) من أن الخدور أنشدن عند مقدم النبي هذين البيتين:
أشرق البدر علينا واختفت منه البدور
مثل حسنك ما رأينا قط يا وجه السرور"
ثم أشار إلى ركاكتها ، وأنه أوردهما اعتماداً على رواية ملفقة لا أصل لها .
والزيادة في الأخبار ونظم الشعر العاضد لها أمر مستفيض ، وأكاد أجزم أنه لا يصحّ من الأبيات التي هي مدار هذه المذاكرة سوى البيتين الأولين ، وما عداهما فمزيد.
هذا ما تسنّى قوله ، وأحسب أن في الموضوع مجالاً للأخذ والرد ، والله المستعان. 7/2/1422هـ .
--------------
[نشر في مجلة المعرفة - ربيع الأول 1422 ص 102]