( أستاذ مشارك ، رئيس قسم الأدب في كلية اللغة العربية بالرياض )
في طوايا الأخبار الواردة في مصادر التاريخ ومدونات الأدب معلوماتٌ طرائف، وفوائد تعين على جلاء كثير من النواحي الاجتماعية والتاريخية، وفي إمعان النظر فيها كشف لبعض المغيَّبات، وإعانة على فهم بعض الأمور التي لم تقف عندها أنظار المؤرخين والدارسين، وبخاصة حين تكون الفائدة في غير مظانِّها.
ومن ذلك ما وجدته في هذا الخبر المروي عن عيسى بن عمر النحوي (ت149هـ، أو بعد160)(1) وفيه: أن بعض الرواة قال: "رأيتُه – يعني عيسى بن عمر- طولَ دهره يحمل في كمه خرقة فيها سكّر العُشر والإجاص اليابس،(2) وربما رأيته عندي وهو واقف عليّ أو سائر، أو عند ولاة أهل البصرة، فتصيبه نهكة على فؤاده يخفق بها،(3) حتى يكاد أن يُغلب، فيستغيث بإجاصة وسكرة يلقيها في فيه، ثم يتمصصها، فإذا تسرّط من ذلك شيئاً سكن ما به، فسألتُه عن ذلك فقال: أصابني هذا من الضرب الذي ضربني يوسف،(4) فتعالجت له بكل شيء، فلم أجد له شيئاً أصلح من هذا".(5)
وفي هذا الخبر ما يمكن أن يُستدلَّ به على أن عيسى بن عمر ربما أصيب بداء السكري، وبتعبير العصر كانت نسبة السكر في دمه تنخفض؛ فيضطر إلى أكل شيء حلو، وداء السكري (diabetes mellitus) هو نقص هرمون الأنسولين الذي ينظِّم احتراق السكر في خلايا الجسم.(6) أو هو زيادة مستوى السكر في الدم Hyperglycemia نتيجة لنقص نسبي أو كامل في الأنسولين Insulin في الدم أو لخلل في تأثير الأنسولين على الأنسجة.(7)
ويؤكد الظنَّ بإصابة عيسى بن عمر بذلك الداء ما روي عنه أنه كان به ضيق النفَس، فأدركه يوما وهو في السوق، فوقع ودار الناس حوله يقولون: (مصروع مصروع) فبين قارئ ومعوِّذ، فلما أفاق من غشيته نظر إلى ازدحامهم فقال: "ما لكم تكأكأتم عليَّ تكأكؤكم على ذي جِنَّة، افرنقعوا عني".(8)
وبمعارضة الخبرين أحدهما بالآخر يغلب على الظنِّ أن الغشية التي أصابته إنما كانت بسبب انخفاض نسبة السكر في دمه؛ فالأطباء يشيرون إلى أن من أعراض هذا المرض الشعور بالتعب والإرهاق و الدوار،(9) والتشنجات العصبية وفقدان الوعي.(10) وكل هذه الأعراض مذكور في هذين الخبرين.
والأطباء أيضاً ينصحون مريض السكري أن يحمل معه عصيرا مُحلى أو قطعة حلوى تخفيفاً من آثار هذا المرض في الأحوال الطارئة.(11) وهذا ما كان يفعله عيسى بن عمر كما ورد في الخبر الأول؛ وفيه ما يدلّ على شيء من المعرفة بهذا المرض عند العرب، وأساليب اتقاء آثاره، والتغلّب عليه.
ولكن: هل أصيب عيسى بن عمر بالسكري بسبب الضرب الذي ناله؟ هذا ما يقوله عيسى نفسه، ولكن الطب الحديث – كما أفادني أحد الأطباء(12) _ لا يرى هذا، ويبدو أن عيسى بن عمر أصيب بالسكري بعد أن تعرض للضرب بفترة وجيزة؛ فارتبط بذهنه أنه سبب لذلك.
ومهما يكن فإن في هذين الخبرين فوائد مهمة، أشرت إلى بعضها، وأضيف إليها أنه يمكن الإفادة منه في تأريخ الأمراض عند العرب، وبخاصة مرض السكري، ويمكن للأطباء إنعام النظر في العلاقة بين تعرض المرء للضرب المُبرِّح، وإصابته بهذا المرض، اتكاء على ما جاء فيه.
-------------
إحالات:
(1) بصري من أئمة اللغة والنحو والقراءات، شيخ الخليل بن أحمد وسيبويه، وصف بأنه صاحب تقعر، مكثر من الغريب في كلامه،له نحو سبعين مصنفا احترق أكثرها، منها (الجامع) و(الإكمال)، ويُنسب إلى الخليل:
بطل النحو جـميـعا كله * غير ما أحدث عيـسى بن عمرْ
ذاك (إكمالٌ)وهذا (جامعٌ)* فهمـا للناس شـمس وقـمرْ
قال السيرافي: "ما وقعا إلينا ولا رأيت أحداً يذكر أنه رآهما ". وعن المبرِّد أنه قرأ أوراقاً من أحدهما.
يراجع في التعريف به:أخبار النحويين البصريين ص25، وسير أعلام النبلاء 7/200،ووفيات الأعيان 3/487، ومعجم الأدباء 16/146، وبغية الوعاة 2/237، وإنباه الرواة 2/377، والأعلام 5/106.
(2) العُشر: جمع عُشَرة، شجرة لها سكّر يخرجُ من شُعَبه ومواضع زهره، والإجاص: فاكهة. اللسان (عشر، أجص).
(3) النهكة: من نهَكَته الحمّى إذا جهَدته وأضنته. اللسان (نهك).
(4) يعني يوسف بن عمر والي العراق الذي طالب عيسى بن عمر بودائع كان أحد رجال والي العراق الذي قبله- خالد القسري- قد استودعه إياها، ينظر: وفيات الأعيان 3/488، وفي مصادر أخرى أن الذي ضربه عمر بن هبيرة.ينظر: طبقات النحويين واللغويين ص41، ومعجم الأدباء 16/ 146، وبغية الوعاة 2/238.
(5) أخبار النحويين البصريين ص 26.
(6) ينظر: المعجم الوسيط (سكر).
(7) نقلا عن: http://www.your-doctor.net/diabetes/diabetes.htm ، وينظر: معجم المصطلحات الطبية: 1/283.
(8) ينظر: وفيات الأعيان 3/487، والبلغة في تراجم أئمة النحو واللغة ص167، وإنباه الرواة 2/377، وقد روى الجاحظ هذه النادرة عن أبي علقمة النحوي. ينظر: البيان والتبيين 1/379.
(9) ينظر: المرجع السابق.
(10) نقلا عن: http://www.khayma.com/tagthia/diabetesfaq.htm
(11) ينظر: المرجع السابق.
(12) هو الدكتور بدر بن محمد السليم أحد الأطباء في مدينة الملك فهد الطبية بالرياض.
------------
مصادر ومراجع:
• أخبار النحويين البصريين، أبو سعيد السيرافي، تحقيق طه الزيني، ومحمد عبدالمنعم خفاجي، الطبعة الأولى 1374هـ/1955م.
• الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الخامسة، 1980م.
• إنباه الرواة على أنباه النحاة، السيوطي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الفكر العربي، القاهرة، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى 1406هـ/1986م.
• بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة،تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية، بيروت، د.ت.
• البلغة في تراجم أئمة النحو واللغة، الفيروزبادي، تحقيق محمد المصري، مركز المخطوطات والتراث، الكويت، الطبعة الأولى 1407هـ/1987م.
• سير أعلام النبلاء، الذهبي،أشرف على تحقيقه شعيب الأرناؤوط،الجزء السابع، تحقيق علي أبو زيد، مؤسسة الرسالة، بيروت، الطبعة الثانية 1402هـ/ 1982م.
• طبقات النحويين واللغويين، الزبيدي، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف، القاهرة، الطبعة الثانية 1984م.
• لسان العرب، ابن منظور، نشر دار لسان العرب، بيروت، د.ت.
• معجم الأدباء (إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب)، ياقوت الحموي، دار الفكر، بيروت، 1400هـ/ 1980م.
• معجم المصطلحات الطبية، محمد عبداللطيف إبراهيم، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، الطبعة الأولى 1411هـ/ 1990م
• المعجم الوسيط، إبراهيم مصطفى وآخرون، مجمع اللغة العربية، القاهرة، الطبعة الثانية، 1392هـ/ 1972م.
• وفيات الأعيان، ابن خلكان، تحقيق إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، د.ت.
مراجع شبكيّة:
• http://www.khayma.com/tagthia/diabetesfaq.htm
• http://www.your-doctor.net/diabetes/diabetes.htm