مصادر التراث الصوتي العربي ـــ د.أحمد عزوز

مقدمة:‏

اهتم العرب بالقرآن الكريم حفظاً وتلاوة وشرحاً وتفسيراً منذ نزوله على الرسول الأمين محمد (ص)، وأصبح المنهل الذي لا ينضب لكل دارس للغة العربية.‏

وازدادت العناية به لمّا دخلت الأقوام المختلفة الأجناس إلى الإسلام التي كان من آثارها فشوّ اللحن وتسرّبه إلى الألسنة وبخاصة إلى التنزيل الحكيم.‏

وكان من نتائج هذه العناية ظهور علم التجويد الذي حافظ على النطق السليم لأصوات القرآن الكريم، إذ تحدث المجودون عن مخارج الحروف ووصفوها وصفاً دقيقاً، وبيّنوا علاقتها بما يجاورها مع توضيح أثر هذا التجاور، مما يدل على ذوقهم المرهف وشفافيته، فجاءت جوانب كثيرة من دراستهم علمية ودقيقة.(1)‏

ونمت الملاحظات الصوتية إلى أن أصبحت معالجة في علوم اللغة المختلفة، تسهم في تفسير كثير من مشكلاتها، أدت إلى إعجاب المستشرقين* بها، فأشادوا بجهود علماء العربية في هذا الميدان، كما استفاد الغربيون منها وأصلوا عليها فروعاً عديدة مكنهم منها ظهور الآلات الدقيقة والتحليل الصوتي في المختبرات، والتطور التقني الذي شهده القرن وبخاصة ابتداء من الستينيات.(2)‏

وقد ارتكزت هذه الدراسة على قطبين أساسيين هما: علم الأصوات النطقي والسمعي وعلم وظائف الأصوات، اللذان عولجا تحت مظلة واحدة، إذ كلاهما يدرس الصوت اللغوي، والعلاقة بينهما شديدة والفصل بينهما صعب الحصول.‏

وتحسن الإشارة إلى أن البحث الصوتي العربي لم يضمه مصدر واحد، ولم يتناوله عالم واحد، ولكنه تناثر بين طيات مصنفات علوم العربية المختلفة، الصوتية منها والنحوية الصرفية، والبلاغية، والتجويدية وإعجاز القرآن والمعاجم، "وتعدد العلماء الذين شاركوا في إقامة صرحه وتوطيد بنيانه"،(3) وكل ذلك يدل على "عناية القدامى وتعلقهم بهذا الميدان لأهميته وأثره الفعال في تفسير كثير من الظواهر اللغوية"(4)‏

ومن الأعلام الذين ضربوا بسهم وافر في عدّة نواح من الدراسة اللغوية، وكانت لهم اليد الطولى في تأسيس التراث الصوتي، والذين لا تزال تفتخر بهم الأمة العربية: الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت175هـ)، وسيبويه (ت180هـ)، وقطرب (206هـ)، وابن جني (ت392هـ) وابن سينا (ت428هـ) وابن سنان الخفاجي (ت466)، والزمخشري (ت538هـ)، والسكاكي (ت626هـ)، إلى غيرهم من الأفذاذ، والعلماء الأجلاء الذين واصلحوا المسيرة العلمية عبر القرون، شعوراً بمسؤولياتهم تجاه أمتهم وأجيالها لتنكب على تعلم لغتها وتدارسها والاعتزاز بها.‏

ومن المصنفات التي تعد مصادر صوتية:‏

المعاجم العربية:‏

تعتبر المعاجم العربية من مصادر التراث الصوتي، لأنها زخرت بفيض هائل من الفكر الصوتي عند العرب.‏

وقد تناولت القضايا الصوتية إمّا في المقدمة أو في ثنايا المادة اللغوية المجموعة.‏

ويرجع الفضل في الدراسة الصوتية إلى الخليل بن أحمد الذي وضع الأسس الأولى لعلم الأصوات العربية، ويتجلى ذلك من مقدمة "العين" حيث يقول محققا المعجم: "في هذه المقدمة بواكير معلومات صوتية لم يدركها العلم فيما خلا العربية من اللغات إلا بعد قرون عدّة من عصر الخليل"(5)‏

وبذلك احتل هذا المعجم مكانة سامية في اللغة العربية باعتباره أول معجم عربي، إن لم يكن أول معجم عالمي، ينظر بطريقة علمية دقيقة اعترف بها في ميدان الدراسات اللغوية المعاصرة، اهتدى إليها الخليل بفكره الثاقب وموهبته النادرة وعلمه الواسع.‏

وجاء تأليف معجمه مناسباً لمدارج الجهاز الصوتي انطلاقاً من الحلق إلى الشفتين، وذلك تبعاً لطريق مخرج الكلام الذي ينطلق بطبعه من الداخل إلى الخارج، فكان الخليل يتذوق الحروف بفتح فمه ثم ينطق بالألف ويظهر الحرف نحو: "أبْ- أت- أخْ- أعْ"(6) إلى نهاية كل الحروف، فتم اختياره بداية الترتيب بالعين التي جعلها أول الكتاب ثم ما قارب منها، الأرفع فالأرفع حتى أتى على آخرها، فتوصل إلى الترتيب التالي: ع،ح،هـ، خ، غ، ق، ك، ج،ى ش، ض، ص، س، ز، ط، د،ا ت، ظ، ث، ذ، ر، ل، ن، ف، ب، م، و، أىء الهمزة"(7)‏

وقد رسم الخليل الطريقة التي "يمكن بها معرفة مخرج الصوت، وكان في ذلك موفقاً كل التوفيق إلى حدّ أن علم الأصوات الحديث يعترف بكثير من آرائه ومقاييسه الصحيحة"(8)‏

وممّا قاله الخليل إن "أقصى الحروف كلها العين ثم الحاء، ولولا بحة في الحاء لأشبهت العين لقرب مخرجها من العين، ثم الهاء، ولولا هتّةٌ في الهاء.. لأشبهت الحاءَ لقرب مخرج الهاء من الحاء، فهذه ثلاثة أحرف في حيز واحد بعضها أرفع من بعض"(9)‏

ويرى الفراهيدي أن "الألف في اسْحَنك واقشعرّ واسْحَنْفَرَ واسْبَكَرَّ ليست من أصل البناء. وإنما أدخلت هذه الألفات في الأفعال وأمثالها من الكلام لتكون الألف عماداً وسُلَّماً للسان إلى حرف البناء، لأن اللسان لا ينطق بالساكن من الحروف فيحتاج إلى ألف الوصل، إلا أن دَحْرَج وهَمْلَج وقرطس لم يحتج فيهن إلى الألف لتكون السُلَّمَ، فافهم إن شاء الله"(10)‏

ويتحدث عن سمات البناء اللغوي، مبيناً أن كلام العرب مبني على أربعة أصناف، الثنائي، والثلاثي والرباعي والخماسي، ومقرراً أن الكلمة الرباعية والخماسية إن لم تكن تحتوي على حرف من أحرف الذلاقة أو الأحرف الشفوية فهي ليست من الكلام العربي. حيث يقول: "فإن وردت عليك كلمة رباعية أو خماسية معراة من حروف الذلاق أو الشفوية، ولا يكون في تلك الكلمة من هذه الحروف حرف واحد أو اثنان أو فوق ذلك، فاعلم أن تلك الكلمة محدثة مبتدعة، ليست من كلام العرب لأنك لست واجداً من يسمع من كلام العرب كلمة واحدة رباعية أو خماسية إلا وفيها من حروف الذلق والشفوية واحد أو اثنان أو أكثر"(11)‏

إلى غير ذلك من الأفكار والتعليلات والابتكارات التي ظلت نبراساً، وهدياً لعلماء اللغة والنحو والصرف والعلوم الإنسانية بصفة عامة(12)‏

ولقد تناقلت المعاجم الأفكار الصوتية التي قررها الخليل، وخاصة تلك اتبعت منهجه في التأليف، أي وفق النظام الصوتي، أو التقليبات الهجائية مثل الجمهرة لابن دريد. الذي تعرض إلى قضايا صوتية كنسج الكلمة وبنائها، والأصوات التي تأتلف والتي لا تأتلف حيث بين أن القاف والكاف لا تأتلفان في كلمة إلا بوجود حواجز، وأشار أيضا إلى أن تباعد الحروف في المخرج يؤدي إلى خفة البناء خلاف التقارب الصوتي الذي يؤدي إلى ثقل الكلمة على اللسان.‏

وتحدث أيضاً عن صفات الأصوات كالرخاوة والإطباق والشدة، وتعرّض إلى نسبة تردّد الأصوات في اللغة العربية، إذ رأى أن أكثر الأصوات استعمالاً في اللغة العربية هي الواو والياء والهاء وأقلها الظاء ثم الذال ثم الثاء ثم الشين ثم القاف ثم الخاء ثم النون ثم اللام ثم الراء ثم الباء ثم الميم(13)‏

ويبدو أن إبراهيم أنيس قد انطلق من مثل هذه الفكرة لدراسة روي الشعر، والبحث عن نسبة تردد الأصوات، معلّلا ذلك بكثرة الجهد الذي يتطلبه صوت ما، أو قلته(14)‏

المصنفات النحوية الصرفية:‏

يقوم كثير من أصول النحو العربي على أسس صوتية كتفسير كثير من الآثار الإعرابية التي تطرأ على الكلمات.‏

فلقد حوت المصنفات النحوية الصرفية بين ثناياها كثيراً من ملامح التراث الصوتي العربي، وضمت دراسة مسهبة للمنحى الفسيولوجي المتعلق بكيفية تكوين الأصوات وإصدارها، وما ينجم عن ذلك من تنوع في صفاتها.‏

فقد خصص النحاة بعض الأبواب في كتبهم للدراسة الصوتية وخاصة حين تعرضهم لباب الإدغام أو الحديث عن قواعد الإعلال والإبدال.‏

وكتاب سيبويه شاهد عدل على ذلك، وكذا المفصل للزمخشري، والجمل للزجاجي وغيرها من المصادر التي لا تخلو من الإشارة إلى الملاحظات الصوتية.‏

فسيبويه- مثلاً- أشار إلى كثير من الخصائص الصوتية، واتسم تصنيفه بالدقة والشمول، تناقلته التآليف العربية بعده، وهي معلومات مأخوذة من دون شك عن أستاذه الخليل وإن كان لا يتحدث عن ذلك إطلاقاً.‏

يتعرض في موضوع الإدغام إلى الأصوات فيقول: " هذا باب عدد الحروف العربية، ومخارجها ومهموسها ومجهورها وأحوال مجهورها ومهموسها واختلافها.‏

فأصل حروف العربية تسعة وعشرون حرفاً: الهمزة، والألف، والهاء، والعين، والحاء، والغين، والخاء، والكاف، والقاف، والضاد، والجيم، والشين، والياء، واللام، والراء، والنون، والطاء، والدال، والتاء، والصاد، والزاي، والسين، والظاء، والذال، والثاء، والفاء، والباء، والميم، والواو"(15)‏

ويضع سيبويه ستة عشر مخرجاً لحروف العربية، وما يلفت الانتباه هو أنهن يضع الهمزة والألف في مخرج أقصى الحلق وفي وسطه العين والحاء،(16) وهو يخالف في ذلك الخليل الذي جعل العين والحاء أقصى الحلق، وجعل الهمزة مع الواو والألف والياء.‏

ويتناول صفات الأصوات من جهر وهمس وشدة ورخاوة ومنحرفة، ومكررة ولينة وهاوية ومطبقة ومنفتحة، (17) ويختم ذلك بقوله: "وإنما وصفت لك حروف المعجم بهذه الصفات لتعرف ما يحسن فيه الإدغام وما يجوز فيه، وما لا يحسن فيه ذلك ولا يجوز فيه، وما تبدله استثقالاً لما تدغم، وما تخفيه وهو بِزِنَةِ المتحرك"(18)‏

فلم يخل مصنف في النحو لم يتعرض إلى القضايا الصوتية وهذا للعلاقة التي تربط العلمين.‏

ولقد قدم بعض النحاة القدامى الشرح اللغوي للحركات متصلاً بالجانب الفسيولوجي والكيفية التي يتم بها نطقها، ومن أولئك الزجاجي حيث يقول في "باب القول في معنى الرفع والنصب والجر من طريق اللغة":‏

"..فنسبوا الرفع كله إلى حركة الرفع لأن المتكلم بالكلمة المضمومة يرفع حنكه الأسفل إلى الأعلى ويجمع بين شفتيه وجعل ما كان منه بغير حركة موسوماً أيضاً بسمة الحركة لأنها هي الأصل.‏

والمتكلم بالكلمة المنصوبة يفتح فاه، فيبين حنكه الأسفل من الأعلى، فيبين للناظر إليه كأنه قد نصبه لإبانة أحدهما عن صاحبه.‏

وأما الجر.. ومن سماه منهم من الكوفيين خفضاً، فإنهم فسروه نحو تفسير الرفع والنصب لانخفاض الحنك الأسفل عند النطق به، وميله إلى إحدى الجهتين.‏

وأما الجزم فأصله القطع.. فكأن معنى الجزم قطع الحركة عن الكلمة.. وكان المازني يقول: الجزم قطع الإعراب"(19)‏

وأشارت تلك المصنفات ولاسيما في الميدان الصرفي إلى كثير من الملامح الفونولوجية التي تتعلق بتجاور اللبنات المكونة للصيغة، وما يطرأ على بنية الكلمة العربية المعربة من تغيرات: إما في التصرفات المختلفة (من إفراد وتثنية وجمع، وتذكير وتأنيث، وتصغير، ومبالغة، ونسب، وماضٍ، ومضارع، وأمر..الخ) وإما عند وقوعها في درج الكلام في سياقات صوتية معينة (كالإدغام والوصل)(20)‏

ومن المصادر الصرفية التي عالجت مباحث صوتية متعددة كالإعلال والإبدال والقلب والإدغام، وغيرها، الشافية لابن الحاجب (ت646هـ).‏

وبذلك عدت المؤلفات النحوية الصرفية من المصادر الصوتية العربية.‏

المصنفات الأدبية:‏

ناقشت المصنفات الأدبية كثيراً من القضايا الصوتية، ولاسيما الجانب النطقي أو الفسيولوجي منها، ومن هذه المصنفات "البيان والتبيين" للجاحظ.‏

فلقد تعرّض إلى تعريف الصوت حيث قال: "هو آلة اللفظ والجوهر الذي يقوم به التقطيع، ولن تكون حركات اللسان لفظاً ولا كلاماً موزوناً ولا منثوراً إلا بظهور الصوت"(21)‏

ويتناول موضوعاً ذا صلة وثيقة بالأمراض الكلامية أو العيوب النطقية التي أصبحت علماً مستقلاً في العصر الحديث لما له من مختصين ومعاهد ومستشفيات تعالج فيها هذه الأمراض.‏

فهو يردّ بعضها إلى السرعة كاللفف أي أن يدخل المتكلم الكلام بعضه في بعض، وبعضها الآخر إلى عيوب عضوية كسقوط الأسنان، (22) فيحدث صفير في الكلام، وبالتالي لا تقبله الأذن.‏

"ومن خلال العيوب الصوتية كاللثغة وغيرها يتوصل إلى دراسة التقطيع الوظيفي، فالألثغ مثلاً عندما يقطع كلمة "مضر" يقول "مضي" بإخراج الراء من مخرج الياء، لنقصان في آلة النطق، وعجزه في أداء الصوت، مع أنه يقصد "مضر"، لأن السامع الذي يسمع مضي يفطن للعاهة، ويصحح الخطأ الصوتي، ويفهم كلامه بالاعتماد على التقطيع المألوف"(23)‏

وذكر أن الأصوات التي تدخلها اللثغة هي القاف والسين واللام والراء فتقلب القاف إلى طاء، والسين إلى ثاء، واللام إلى ياء أو كاف، والراء إلى غين أو ياء.‏

وتحدث الجاحظ عن اللكنة التي تظهر في كلام الأعجمي الذي ينطق باللغة العربية كنطق السندي الجيم زايا، والنبطي الزاي سيناً والعين همزة.‏

وأشار أيضاً إلى البناء الصوتي للكلمة العربية، وإلى ما يأتلف في نسجها وما لا يأتلف، أي ما عرف بالتنافر والتلاؤم، حيث قال: "فأما في افتراق الحروف، فإن الجيم لا تقارن الظاء، ولا القاف، ولا الطاء.. بتقديم، ولا بتأخير، والزاي لا تقارن الظاء ولا السين والضاد ولا الذال.."(24)‏

مصنفات البلاغة وإعجاز القرآن:‏

لما كانت العلاقة جد وثيقة بين البلاغة والأصوات في الدراسات اللغوية القديمة والحديثة، فلا غرو أن تضم المصنفات البلاغية وإعجاز القرآن بين ثناياها حديثاً عن الأصوات، ومناقشات ترتبط بصميم الميدانين الفوناتيكي والفونولوجي، وخاصة حين تعرضها للفصاحة وما يرتبط بتنافر وائتلاف الحروف.‏

ومما يمكن الاستشهاد به، على سبيل التوضيح لا الحصر جميع ما ورد في المصنفات العديدة، ما جاء في "سرّ الفصاحة" لابن سنان الخفاجي الذي يرى أنه كلّما تباعدت مخارج حروف اللفظة حسن وقعها على السمع، وكلما تقاربت قبح، فذكر ذلك في قوله: "إن الحروف وهي أصوات تجري من السمع مجرى الألوان من البصر. ولا شك في أن الألوان المتباينة إذا جمعت كانت في المنظر أحسن من الألوان المتقاربة، ولهذا كان البياض مع السواد أحسن منه مع الصفرة، لقرب ما بينه وبين الأصفر، وبعد ما بينه وبين الأسود، وإذا كان هذا موجوداً على هذه الصفة لا يحسن النزاع فيه، كانت العلة في حسن اللفظة المؤلفة من الحروف المتباعدة في العلة في حسن النقوش إذا مزجت من الألوان المتباعدة"(25)‏

وفي هذا المجال يوازن الرمّاني بين قوله تعالى:"ولكم في القصاص حياة" وقول العرب "القتل أنفى للقتل" فقال: "وأما الحسن بتأليف الحروف المتلائمة فهو مدرك بالحس، وموجود في اللفظ بأن الخروج من الفاء إلى اللام (في القصاص) أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام (القتل أنفى) وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء (القصاص حياة) أعدل من الخروج من الألف إلى اللام (أنفى للقتل).‏

وقد تناول أيضاً التأليف اللفظي، وقسّمه إلى متنافر ومتلائم، وذكر أن السبب في التلاؤم مردّه إلى تعديل الحروف في التأليف، فكلما كان أعدل كان أشد تلاؤماً، وأما التنافر فسببه مثلما ذكر الخليل يعود إلى البعد أو القرب الشديد بين مخارج الأصوات، فإذا بعدت الأصوات كانت بمنزلة الطفر، وإذا قربت القرب الشديد كانت بمنزلة المشي المقيد، لأنه بمنزلة رفع اللسان وردّه إلى مكانه، وكلاهما صعب على اللسان، والسهولة من ذلك في الاعتدال، ولذلك وقع في الكلام الإدغام والإبدال.(26)‏

وقد ضم كتاب إعجاز القرآن للباقلاني كثيراً من المباحث الصوتية، بقصد تحليل آيات القرآن، وبيان أوجه إعجازه، فذكر ما يتعلق بفواتح السور، وسرّ اختيار حروف معينة لها، فمما قاله:" إن الحروف التي بني عليها كلام العرب تسعة وعشرون حرفاً، وعدد السور التي افتتح فيها بذكر الحروف ثمان وعشرون سورة، وجملة ما ذكر من هذه الحروف في أوائل السور من حروف المعجم نصف الجملة، وهو أربعة عشر حرفاً، ليدل بالمذكور على غيره، وليعرفوا أن هذا الكلام منتظم من الحروف التي ينظمون بها كلامهم.‏

والذي تنقسم إليه هذه الحروف على ما قسمه أهل العربية وبنوا عليها وجوهها- أقسام، نحن ذاكروها: فمن ذلك أنهم قسموها إلى حروف مهموسة، وأخرى مجهورة. فالمهموسة منها عشرة وهي الحاء والهاء والخاء والكاف والشين والثاء والفاء، والتاء والصاد والسين.‏

وما سوى ذلك من الحروف فهي مجهورة. وقد عرفنا أن نصف الحروف المهموسة مذكورة في جملة الحروف المذكورة في أوائل السور. وكذلك نصف الحروف المجهورة على السواء. لا زيادة ولا نقصان"(27)‏

ويقول الباقلاني عن البدء بحروف (ألم): "لأن الألف المبدوء بها هي أقصاها مطلعاً، واللام متوسطة، والميم متطرفة، لأنها تأخذ في الشفة، فنبّه بذكرها على غيرها من الحروف، وبين أنه إنما أتاهم بكل منظوم مما يتعارفون من الحروف التي تتردد بين هذين الطرفين ويشبه أن يكون التصنيف وقع في هذه الحروف دون الألف، لأن الألف قد تلغى، وقد تقع الهمزة وهي موقعاً واحداً"(28)‏

إلى غير ذلك من النماذج ذات الصلة بالميدان الصوتي والتي يجدها الدارس في هذا المصدر القيّم.‏

وتجدر الإشارة أيضاً إلى "مفتاح العلوم" للسكاكي الذي يعد مصدراً بلاغياً ولكنه لم يغفل الجانب الصوتي، إذ بدأ به كتابه، فتعرض إلى مخارج الحروف وصفاتها، ومما يثير الإعجاب أنه رسم جهاز النطق ووضع ضمنه مخرج كل حرف، على الرغم من أنه لم تكن لديه الأجهزة العلمية التي يستعين بها لرسمه.‏

وهكذا حوت تلك المصادر البلاغية وإعجاز القرآن مجالاً خصباً للبحوث الصوتية، يمكن للدارس الإفادة منها لفهم كثير من أسرار اللغة العربية.‏

علم القراءات والأداء القرآني:‏

تعد مصنفات التجويد من أهم مصادر التراث الصوتي، بل منابعه الأولى التي أدت دوراً مهماً في الحفاظ على النطق السليم لأصوات اللغة العربية.‏

فقد كان علماء القراءات من أحرص القوم على تناول المباحث الصوتية في مؤلفاتهم التي ضمت كثيراً من الخصائص والمصطلحات الصوتية مثل الإشمام والإشباع والاختلاس والمد، والتفخيم والترقيق ونحوها، كما وضعوا رموزاً كتابية تمثلها(29)‏

وجمع هذا التناول للمادة الصوتية بين النظري والتطبيق "فعرض لمخارج الحروف وصفاتها وتقسيماتها وفق ذلك، والملامح الأدائية لها في السياقات المختلفة والتجاورات المتنوعة"(30)‏

وما يعرف عن مراحلها الأولى هو أن أوّل من استخدم هذا المصطلح قريباً من معناه هو ابن مسعود الصحابي الذي كان ينصح المسلمين بقوله: "جودوا القرآن وزينوه بأحسن الأصوات" ويروى أنه كان يتفنن في تجويده وترتيله، وأن الرسول (ص) كان يجهش بالبكاء حين يسمع القرآن الكريم بترتيل ابن مسعود.(31)‏

ولعلّ تقنين قواعد القراءة القرآنية جاءت استجابة لدعوة ابن مسعود، فأصبح كل كتاب في القراءات يشتمل على مباحث في مخارج الحروف وطريقة نطقها وكذلك صفاتها المختلفة كما فعل ابن الجزري في مؤلفه "النشر في القراءات العشر"(32)‏

ومن الكتب المهمة التي وصلتنا في هذا المجال: الحجة لابن خالويه والحجة لأبي علي الفارسي والمحتسب لابن جني.‏

المصادر الصوتية:‏

على الرغم من تناثر الدراسة الصوتية في مصادر مختلفة من التراث العربي، وكثرة العلماء والباحثين في هذا الميدان، إلا أنه لم يظهر مصدر مستقل يجمع شتات القضايا الصوتية وضم متفرقاتها إلا في فترة متأخرة من مسيرة البحث اللغوي العربي، وذلك على يد ابن جني في كتابه "سرّ صناعة الإعراب"، ولدى ابن سينا في رسالته الشهيرة" أسباب حدوث الحروف".‏

وقد يرجع سبب هذا التأخر إلى "طبيعة المنهج اللغوي قديماً في معالجة جوانب الدرس اللغوي بين دفتي المصدر الواحد، إذ لم يكن هناك فصل دقيق بين فروع الدراسات اللغوية"(33)‏

ويعد ابن جني أول من نظر إلى المبحث الصوتي على أنه علم قائم بذاته، وأنه أوّل من استعمل مصطلحاً لغوياً للدلالة على هذا العلم ما زلنا نستعمله إلى الآن وهو علم الصوت، وكان على حق حين قال:" وما علمت أن أحداً من أصحابنا خاض في هذا الفن هذا الخوض ولا أشبعه هذا الإشباع"(34)‏

بمعنى أن كتابه لم يكن جمعاً لآراء السابقين وأفكارهم، وإنما تميّز بالإضافات الجادة، تعبر عن نظرته العلمية الصائبة ودقتها الفائقة، "وتبين أنها دراسة لغوية مهمة يجب على عالم اللغة أن يضعها في الاعتبار"(35)‏

ومما يثير الإعجاب في هذه الدراسة اهتمام ابن جني بالجانب العملي التطبيقي كما يلاحظ ذلك في المختبرات الحديثة المعتمدة على الآلات والأجهزة المتطورة.‏

فقد شبه الحلق بالناي (المزمار)، وشبه مدارج الحروف ومخارجها بفتحاته التي توضع عليها الأصابع، فإذا وضع الزامر أنامله على خروق الناي المنسوقة، وراوح بين أنامله اختلفت الأصوات، وسمع لكل خرق صوت لا يشبه صوت صاحبه، فكذلك إذا قطع الصوت في الحلق والفم، باعتماد على جهات مختلفة، كان سبب سماعنا هذه الأصوات المختلفة(36)‏

ويربط ابن جني بين علم الأصوات وعلم الموسيقى، فيقول: "إنّ علم الأصوات والحروف له تعلّق، ومشاركة للموسيقى، لما في صنعته الأصوات والنغم"(37)‏

وعلى العموم يمكن تلخيص محتويات الكتاب في العناصر التالية:‏

1. إعطاؤه المفهوم اللغوي للصوت والحرف، والفرق بينهما.‏

2. ذكره لعدد الحروف الهجائية العربية وترتيبها وذوقها. والحديث عن مخارجها وبيان صفات الحروف وتقسيمها أقساماً مختلفة.‏

3. التغير الذي يطرأ على بنية الكلمة فيؤدي إلى الإعلال أو الإبدال أو الإدغام أو النقل أو الحذف.‏

4. ائتلاف الحروف بعضها مع بعض لتكون الكلمات، وأثرها في فصاحة اللفظ التي ترجع إلى تباعد مخارج الأصوات.‏

أما ابن سينا فقد ركز في رسالته "أسباب حدوث الحروف" على الجانب الفيزيائي والتشريحي أكثر مما ركز على الجانب اللغوي، بسبب تخصصه الذي اشتهر به والثقافة التي نهل منها، فقد كان فيلسوفاً حكيماً وطبيباً خبيراً.‏

فهو يعرف الصوت بقوله: "أظن أن سبب الصوت القريب تموج الهواء دفعة وبقوة وبسرعة من أي سبب كان"(38)‏

ويحيل بهذا التعريف إلى البحث في ظاهرة فيزيائية هي الموجات الهوائية، والسبب القريب هو تموج الهواء والسبب البعيد هو علة تموج الهواء المتمثلة إما في القرْع وإما في القلع.‏

ويقول عن الحرف: "هو هيئة للصوت عارضة لها، يتميز بها عن صوت آخر مثله في الحدة والثقل تميزاً في المسموع"(39)‏

وقد اشتلمت الرسالة على ستة فصول تضمنت ما يلي:‏

1. حديثه عن سبب حدوث الصوت والحرف.‏

2. خصص هذا الفصل لمخارج الأصوات ومحابسها، ويقدم فيه صفات الأصوات منها الثقيل والحاد، خفوت الصوت وجهره، الصوت الأملس، والصلب المتخلخل.‏

3. يعرض فيه مكونات الحنجرة واللسان.‏

4. يبين ابن سينا في هذا الفصل كيفية صدور كل صوت من أصوات العربية، ويصف العملية العضوية في إنتاجه، ويرتب الأصوات بحسب مخارجها على شاكلة الخليل بن أحمد.‏

5. تحدث فيه عن أصوات سمعها في لغات أخرى غير العربية مثل السين الزائية والزاي السينية والزاي الظائية والفاء الشبيهة بالباء.‏

6. أما الفصل الأخير، فقد جعله لكيفية إنتاج أصوات بحركات غير نطقية كالشين التي تسمع عن نشيش الرطوبات والطاء التي تحدث عن تصفيق اليدين بحيث لا تنطبق الراحتان.‏

والرسالة درة ثمينة استطاع أن يولج بها ابن سينا علم الطبيعة إلى علم اللغة، فكشف عن أسرار غامضة مازالت من صميم الدراسة المعاصرة كظاهرة التموج الفيزيائية وكثافة الهواء في كل موجة وشكل الموجة وما يترتب عنه من صوت.‏

وهكذا يكون قد انفرد بحقائق له فيها فضل السبق والاكتشاف بعد الخليل وسيبويه وابن جني على عكس أولئك الذين أعادوا صياغة ماقاله أمثال هؤلاء العلماء. وفي ذلك يقرر إبراهيم أنيس: "ولما وقفنا على هذه الرسالة منذ بضع سنوات استرعى انتباهنا أنها تعالج طرفاً من الدراسة الصوتية اللغوية علاجاً فريداً يختلف اختلافاً بيّناً عن علاج سيبويه وأمثاله من علماء العربية"(40)‏

وأخيراً يتضح مما سبق أن الدراسة الصوتية العربية تناثرت في مصنفات عديدة ومتنوعة، إذ يعثر عليها الدارس في مصادر التجويد والبلاغة وإعجاز القرآن والنحو والصرف والمعاجم العربية.‏

ولا يكاد يجد الباحث مصدراً مستقلاً في هذا المجال إلا ما جاء على يد ابن جني في "سر صناعة الاعراب" وابن سينا في "أسباب حدوث الحروف".‏

الهوامش:‏

1- ينظر د. عبد الغفار هلال حامد، أصوات اللغة العربية. مطبعة الجبلاوي القاهرة مصر ط2- 1988 ص:14.‏

* يقرر فيرث: "إن علم الأصوات شب ونما في أحضان لغتين مقدستين هما العربية والسنسكريتية"، ويعلن برجستراسر سبق العرب للغربيين في الدراسة الصوتية قائلاً: "لم يسبق الغربيين في هذا العلم إلا قومان من أقوام الشرق وهما أهل الهند- يعني البراهمة- والعرب".‏

2- ينظرد. عبد المنعم عبد الله محمد، المقطع الصوتي في ضوء تراثنا اللغوي، مطبعة الجبلاوي، القاهرة، مصر ط1 1988 ص: 17.‏

3-4- المرجع السابق ص:17.‏

5- الخليل بن أحمد الفراهيدي، كتاب العين، تحقيق د. مهدي المخزومي، ود. إبراهيم السامرائي. مؤسسة دار الهجرة ط2- إيران 1409 هـ. ج1- ص:10.‏

6- الخليل بن أحمد، كتاب العين، ج1، ص:47.‏

7- المصدر نفسه ج1، ص:48.‏

8- د. عبد الغفار هلال حامد، أصوات اللغة العربية ص:9.‏

9- الخليل بن أحمد، العين ج1، ص: 57.‏

10- المصدر نفسه ج1، ص:49.‏

11- المصدر نفسه ج1، ص:52.‏

12- ينظر د. إبراهيم أنيس، الأصوات اللغوية، مكتبة الأنجلو المصدرية، ط: 5، 1975، ص: 104- 105.‏

13- ينظر د. أحمد مختار عمر، البحث اللغوي عند العرب، عالم الكتب، القاهرة- مصر، ط4، 1982، ص: 93.‏

14- ينظر، إبراهيم أنيس، موسيقى الشعر، ط4- القاهرة 1972- ص: 248.‏

15- أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر سيبويه، الكتاب، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط2، 1982، ج4، ص:431.‏

16- المصدر نفسه ج4- ص:433.‏

17- المصدر نفسه ج4، ص 435- 436.‏

18- المصدر نفسه ج4، ص: 436.‏

19- أبو القاسم الزجاجي، الإيضاح في علل النحو، تحقيق مازن المبارك، مكتبة دار العروبة، القاهرة، 1959، ص:93- 94.‏

20- ينظر. عبد المنعم عبد الله محمد، المقطع الصوتي في ضوء تراثنا اللغوي، ص: 19.‏

21- الجاحظ، أبو عثمان عمرو بن بحر، البيان والتبيين، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، مؤسسة الخانجي، القاهرة، مصر، ط: 3، ج1، ص: 79.‏

22- المصدر نفسه ج1، ص: 69.‏

23- محمد الصغير بنّاني، النظريات اللسانية والبلاغية والأدبية عند الجاحظ من خلال "البيان والتبيين"، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر، 1983، ص: 112.‏

24- الجاحظ، البيان والتبيين ج1، ص: 79.‏

25- ابن سنان الخفاجي، سر الفصاحة، شرح عبد المتعال الصعيدي، محمد علي صبيح وأولاده، الأزهر، القاهرة، 1969، ص: 54.‏

26- عن الرماني، النكتُ في إعجاز القرآن، عن د. عبد الغفار هلال حامد، أصوات اللغة العربية، ص: 13.‏

27- الباقلاني، أبو بكر محمد بن الطيب، إعجاز القرآن، تحقيق السيد أحمد صقر، دار المعارف، القاهرة، 1963، ص44.‏

28- المصدر نفسه، ص: 46.‏

29- ينظر، د. محمود السعران، علم اللغة، دار الفكر العربي، القاهرة، مصر، ص: 101.‏

30- د. عبد المنعم، عبد الله محمد، المقطع الصوتي، ص: 21.‏

31- ينظر د. أحمد مختار عمر، البحث اللغوي عند العرب، ص: 93.‏

32- ينظر ابن الجزري، الحافظ أبي الخير محمد بن محمد الدمشقي، النشر في القراءات العشر، دار الكتاب العربي، جزءان.‏

33- د. عبد المنعم عبد الله محمد، المقطع الصوتي، ص: 18.‏

34- أبو الفتح عثمان بن جني، سر صناعة الإعراب، تحقيق الدكتور حسن هنداوي، القاهرة، مصر ج1، ص: 63.‏

35- د. عبد الغفار هلال حامد، أصوات اللغة العربية، ص: 10.‏

36- ينظر ابن جني، سرّ صناعة الإعراب ج1، ص:9.‏

37- المصدر نفسه ج1، ص:9.‏

38- ابن سينا، علي الحسيني- أسباب حدوث الحروف، راجعه وقدم له طه عبد الرؤوف سعد 1398هـ/ 1978م، مكتبة الكليات الأزهرية، ص: 8.‏

39- المصدر نفسه، ص: 10.‏

40- د.إبراهيم أنيس، الأصوات اللغوية، ص: 137.‏
----------------
*أحمد عزوز أستاذ مكلف بالدروس بمعهد اللغة العربية وآدابها جامعة السانية وهران‏
-------------------
نشر هذا البحث في :
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العددان 71 - 72 - السنة 18 - تموز "يوليو" 1998 - ربيع الأول 1418

Nike Air Jordan 1 Retro

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: