اللغات معابر للتواصل ووسائط للتعايش - هويدا صلاح الدين العتباني

يستعمل الأخوة المغاربة في لهجتهم كلمة « العافية » ويقصدون بها « النار ». فلا يخطئ أحد فيدعو لمغربي بأن «يعطيه الله العافية» لأنها تعني العكس تماماً.. وفي نفس هذا السياق حكى لنا الفنان الكبير عبد الكريم الكابلي ونحن في منزل السفير المغربي بالخرطوم «محمد بالعيش» أن البروفيسور عبد الله الطيب عندما كان مقيماً في المغرب لبعض الوقت، ذهب إلى إحدى البقالات لشراء «صلصة» فلم يفهم صاحب البقالة منه شيئاً. فذهب يستفسر عن كلمة صلصة في لهجة أهل المغرب فقيل له إنها «مَطِيشة الحُك».. فذهب في اليوم التالي الى نفس المتجر وطلب بالحرف الواحد «مَطِيشة الحُك» فقال له البقال «أراك قد تعلمت العربية».. ولم يدر الرجل أنه يقف أمام أحد أكبر فطاحلة اللغة العربية في العالم العربي كله.
أوردت هذا المثال لأؤكد أهمية تعليم اللغات واللهجات المحلية، سيما تعلم لغة ولهجة البلد الذي نقيم فيه، فاللغة وسيلة الاتصال الأولى بين الشعوب، بل أن الله سبحانه وتعالى أرسل الأنبياء بلسان قومهم حتى لا تكون للناس حجة في عدم فهم الرسالة.. «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» سورة إبراهيم.

وإن تعددت اللغات السودانية - ولا أقول اللهجات - فإن ذلك أدعى لتطويرها، وفي ذات الوقت تكريس أقصى الجهد لتعليم اللغات الحية العالمية مثل العربية والإنجليزية، إذ تمثل تلك اللغات دعامة الوصل في العلاقات الخارجية لارتباطها بالرؤية الكونية.
مهما يكن فحين أدرج مركز دراسات السلام والتنمية في برنامجه الشهري للندوات موضوع «دور اللغات واللهجات المحلية في تعميق الوحدة والسلام في السودان» لم يدر بخلد أحد وقتئذ علاقة الموضوع بشعار جامعة جوبا، الذي هو دعوة لإعلاء قيمتين من قيم المجتمع، الأولى الانتماء relevance)) والثانية التميز (excellence.(
نجد أن البروفيسور فتحي محمد خليفة مدير جامعة جوبا كان له فضل الربط بين الشعار وموضوع الندوة، وذلك عبر آخر تعقيب قدم في الندوة، فكان وقع ذلك عظيماً على الحضور الذي كان يتابع الندوة باهتمام شديد، ولا أملك إلا أن أقول إن الندوة تناولت قضية محورية من قضايا السودان المعاصرة.
اللغة والعقل
«وفي البدء كانت الكلمة» هي عبارة وردت في الكتاب المقدس.. بإجادة في التفسير أوضح البروفيسور عون الشريف قاسم أن «الكلمة» تعني اللغة، وتعني أيضاً العقل وتعني كذلك المنطق. ونجد في تفسير القرآن أن «كلمة الله» يقصد بها «المسيح» أما علم الكلام في اللغة العربية فيرتبط بالعقل، وفي الفلسفة اليونانية (الكلمة) هي (LOGOS) لها علاقة وطيدة باللغة (LANGUAGE) لها علاقة بالمنطق (LOGIC) ومن أجل الكلام الذي هو نطق باللسان وتفكير بالعقل، أمر الله سبحانه وتعالى الملائكة بأن تسجد للإنسان حين علم آدم الأسماء كلها.
وفي رأيي أن ارتباط اللغة بالعقل هو أمر يتيسر إثباته، إذ يبدأ الإنسان باكتساب اللغة من خلال اتصاله بالبيئة الثقافية التي حوله. وأقرب صورة لذلك تلقي الطفل اللغة تلقياً عفوياً تلقائياً، فتصبح اللغة في نهاية الأمر وعاء للثقافة، وتصبح العلاقة بينها وبين التفكير أمراً لازماً وحتمياً. ذلك على عكس ما ذهبت إليه المدرسة «التفكيكية» Deconstructionalism)) التي تذهب إلى نسبية اللغة وافتقارها إلى الصلة بين الدال والمدلول أو افتقارها إلى وجود علاقة بين العقل والمعني.
اللغة والوحدة الوطنية:
يبدو لي من خلال الطرح الذي قدم في الندوة أن كلمة «الوحدة» التي وردت في العنوان قد خلقت نوعاً من الحساسية، جعلت البعض يفسرها تفسيراً مقارناً أو مقابلاً، فإذا لم تكن الوحدة، فحتماً سيكون الانفصال والعكس صحيح. هنا تظهر حساسية بعض الألفاظ التي تثار بإثارة قضية الجنوب.
والمؤسف حقاً أن تلك الحساسية، يمكن أن تفرغ قضية اللغة من محتواها، وتخرجها من صلب الموضوع، خاصة لمن لم يستطع أن يقرأ ما وراء السطور. فإضافة كلمة «الوطنية» إلى كلمة «الوحدة» تضفي بُعداً ومعنى آخر، فافتقاد الوطنية يؤدي إلى عرقلة السلام، وتعميقها يدفع بعجلة السلام، وكم من البشر اليوم من أفقدته وطنيته بأن يضحي بأرخص ما عنده، وأصبح من جهة أخرى تعليق عملية المفاوضات لأطول زمن ممكن يحتل أقصى غايات الكسب المادي والمصلحي.. فهل في ذلك حد أدنى من الوطنية؟.
البروفيسور يوسف الخليفة أبو بكر أثار سؤالاً حول كيف يمكن أن تسهم اللغة في تعميق الوحدة الوطنية؟ وقد استطاع بكل الحنكة والعلم الذي عُرف به أن يقدم إجابة شافية. بدأ بالتميز بين الوحدة الشعورية والوحدة السياسية. فالوحدة الشعورية لها دلالات اجتماعية، فهي تعني الصداقة والمحبة والتفاهم. ربما كذلك ارتبطت بعملية «الانتهاء»التي أشرت لها آنفاً. أما إذا كان المقصود الوحدة السياسية فإن هذا قد يؤدي إلى لغط وخلاف يبعدنا عن عمق القضية. وما دخلت السياسة في أمر إلا أفسدته.
تطوير اللغات المحلية:
نوه البروفيسور يوسف الخليفة في معرض حديثه إلى أنه من الخطأ إطلاق كلمة لهجة على اللغات المحلية، فالسودان مثلاً به أكثر من مائة لغة، أما اللهجة فهي نمط من أنماط اللغة. وعليه فالأصح أن نقول مثلاً لغة الدينكا، ولغة البجة، ولغة النوبة، ولغة الفور.. إلخ.
اتفق جميع المتحدثين وكذلك المعقبين على الأهمية البالغة على تطوير اللغات المحلية، وقد ذكر بروفيسور الخليفة ضرورة الاستفادة من تطوير اللغات في حياة الناس، لا سيما وأن اللغة يمكن أن تستغل في تنمية المجتمع اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً.. لما تلعبه اللغات من أدوار في عملية التنمية والتوعية، وعلى سبيل المثال يمكن الاستفادة من اللغات المحلية في الحملات ضد مرض الإيدز لتحل في ذلك محل اللغة العربية والإنجليزية.
وأما عدم تطوير اللغات المحلية فسيؤدي في نهاية الأمر إلى موتها، فاللغة مثلها مثل الكائن الحي تموت وتنقرض إذا لم تجد العناية والرعاية الكافيتين.
اتفق الأستاذ جوزيف أوكيل مع بقية المتحدثين على أهمية تطوير اللغات المحلية، فذكر أن عملية التطوير مهمة تقع على عاتق الدولة، وإذا لم ترع الدولة اللغات المحلية فأصحابها سيشعرون بعدم العدل أو يشعرون بأنهم يفتقدون إلى الهوية.
ثم ذكر أستاذ أوكيل أنه بعد مؤتمر الرجاف عام 1928، كانت هناك سبع لغات تدرس في المدارس. غير أنه في فترة لاحقة بعد الاستقلال أوقف التعامل بتلك اللغات لتحل محلها العربية والإنجليزية.
وقد اثر هذا التحول على الطفل في الجنوب، فهو يأتي إلى المدرسة ليتعلم العربية أو الإنجليزية التي لا يعرفهما ولا يتحدثهما تاركاً لغته المحلية. فيصبح بعد حين من الزمن لا يجيد التعبير بأية لغة، لا لغته المحلية التي تركها في المنزل ولا اللغة العربية والإنجليزية واللتان هما أصلاً ليستا بلغته.
وأضاف أستاذ أوكيل أيضاً أن المنهج في الجنوب لا يراعى فيه بيئة الطفل المحلية. وعلى سبيل المثال حين يقف المعلم ويشير إلى «الجمل» فإن الطفل يتساءل أين هو الجمل؟ وعلى ذلك فإن التركيز على اللغات المحلية يستوجب وضع منهج يأوي كل البيئات المحلية والعقائد المختلفة.
وتأميناً على حديث الأستاذ أوكيل ذكر بروفيسور الخليفة أن تقرير اليونسكو اقترح أن يكون التدريس في السنة الأولى والثانية من مرحلة الأساس باللغة المحلية للمنطقة. ثم أوضح د. الخليفة العقبة التي يمكن أن تقف في مواجهة التنفيذ، إذ يصعب تطبيق ذلك المشروع من الناحية العملية ومن الناحية الاقتصادية. فإذا علمنا أن السودان يجمع أكثر من مائة لغة فإن ذلك يعني وضع منهج بأكثر من مائة لغة، فضلاً عن اعتبارات البيئة والعقيدة في المنطقة، وهو أمر يصعب تطبيقه من الناحية الاقتصادية.
خاتمة:
إن الحصول علي الوظيفة والوجاهة السياسية، إضافة إلى القومية السودانية يتطلب تطوير اللغات المحلية، والحفاظ عليها من الانقراض. من جهة أخري فإن اللغات الحية العالمية مثل العربية والإنجليزية والفرنسية تمثل كل منها نافذة تطل على الكون الخارجي.
وما بين هذا وذاك تظهر إشكالية المتكلمين باللهجات المحلية، كيف يعبرون عن أنفسهم، وكيف يحصلون على الاحتراف أو الاعتراف الذي من شأنه توفير الوظيفة. أو كيف ينمون ثقافتهم، وكيف يواكبون ويواجهون ثقافة العولمة وثورة الاتصالات في العالم.
ما خرجت به هذه الندوة الاستراتيجية، انه من الخطورة بمكان أن ينظر البعض إلى اللغات بأنها مخبأ للأهداف السياسية، ومخبأ لنشر بعض الأفكار، أو الدعوة لاعتناق عقائد وثقافات معينة. فتعليم اللغة العربية في الجنوب لا يعني فرض الثقافة العربية والإسلامية على أبناء المنطقة. بقدر ما يعني أنها أحد أهم اللغات الحية في العالم، فضلاً عن أنها تعبر عن لسان حال أكثر من 50% من أبناء السودان.
لابد إذن من التأكيد المرة تلو المرة أن تعليم اللغة العربية لا يعني بأي حال من الأحوال، فرض مواقف سياسية أو ثقافية، أو عقائدية بعينها. وإلا هل كل من تعلم اللغة الإنجليزية وأجادها أصبح بنفس المنطق معتنقاً لثقافة الغرب وديانته؟؟.. لا اعتقد ذلك، بل العكس هو الصحيح إذ أن العقيدة راسخة في النفوس، أما اللغة فهي مجرد وسيلة للتحاور، وكلما أجادها الإنسان استطاع أن يحاور ويجادل بالتي هي أحسن، وعلى أسوأ الفروض فإن اللغة يمكن أن تكون سلاحاً يعرف به الإنسان خفايا عدوه.. والله المستعان.
-----
عن موقع صحيفة الرأي العام السودانية

nike

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: