مستقبل اللغة العربية في ظل العولمة - د. وليد العناتيّ

قد تهيأت الفرصة للغة العربية ، إبّان الفتح الإسلامي، لتتبوأ مكانة مرموقة بين لغات العالم، وإنما كان ذلك محمولاً على ارتباطها بالقرآن الكريم والدين الإسلامي. كما أنها ارتبطت بقوة المسلمين، بكل ما تحمله القوة من عناصر عسكرية واجتماعية ودينية وعلمية وثقافية. ولا شك أنها مرت بمراحل تراوحت بين الازدهار والتقهقر، ومرت بتجارب من الغزو الثقافي واللغوي، وتجاوز الأمر ذلك إلى الاضطهاد اللغوي أيام الترك والاستيطان الأوروبي، وما تزال تنافح الصهاينة في فلسطين. ومع كل ذلك خرجت العربية منتصرة ظافرة في كثير من المواقع وخسرت في مواقع أخرى؛ فقد خسرت في تركيا وماليزيا حيث استبدلت الحروف اللاتينية بالعربية.

ولا يخفى أن العربية، الآن في عصر العولمة، تواجه تحديات كبيرة جداً، تتمثل في تيار الإنجليزية الجارف، وتتمثل مظاهر العولمة اللغوية في العالم العربي في(1):
1. التداول بالإنجليزية في الحياة اليومية.
2. كتابة لافتات المحالّ التجارية بالإنجليزية.
3. التراسل ،عبر الانترنت والهواتف النقالة، بالإنجليزية.
4. اشتراط إتقان الإنجليزية للتوظيف.
5. كتابة الإعلانات التجارية بالإنجليزية.
6. كتابة قوائم الطعام في المطاعم بالإنجليزية.

هذا على المستوى الشعبي أما على المستوى الرسمي فقد كفلت كثير من التشريعات الحكومية في البلاد العربية موقعاً متفوقاً للغة الإنجليزية من حيث عدها اللغة الأجنبية الأولى في النظم التعليمية، حتى في البلدان العربية التي احتلتها فرنسا. وتتمثل هيمنة الإنجليزية في العالم العربي، كغيره من دول العالم، في ما يلي:
1. تعليمها في مراحل الطفولة المبكرة.
2. استخدامها لغة رئيسة في التعليم الجامعي، ولا سيّما في العلوم الطبيعية والطبية والحاسوب والعلوم الإدارية والاقتصاد.
3. استخدامها لغة رئيسة في المدارس الخاصة؛ إذ تُدَرَّس بها جميع المواد حتى التربية الوطنية!
4. اعتمادها لغة رسمية في المعاملات التجارية والقانونية التي تنفذها الدولة والشركات والمؤسسات العامة والخاصة.

ومع حالة الاستنفار التي يتخذها المثقفون والأكاديميون إلا أن ما يبذل في خدمة العربية ما يزال يقصِّر عن الحد المؤمَّل، وليست الحكومات العربية كافلة للعربية ما كفلت للإنجليزية، ولعل العراق كان آخر قلاع العربية بعد أن صار محتلًا فلحق بفلسطين، فقد خسرت العربية حصناً من حصونها كان يصون العربية ويكفل بتشريعاته حمايتها.

وبالرغم من السوداوية والتشاؤم اللذين يسودان نفوس اللغويين والمفكرين العرب؛ فإنهم يتفاوتون في رؤيتهم مستقبل العربية؛ فبعضهم يركن إلى الآية الكريمة"إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" دون عمل، كأنما يقول،على نهج البنيويين، دع العربية وشأنها، فإنها محفوظة!

ونرى هنتنغتون يخصص في كتابه"صدام الحضارات" هامشا مقبولاً لتناول اللغة من حيث إنهاعنصر مهم من عناصر الحضارة ومكوناتها، ولما كان الرجل يتحدث عن الصراع الحضاري على التعميم فإنه كان يعني الصراع اللغوي على نحو أخص، ولما كان هدف كتابه أصلاً لفت النظر إلى "خطر" الحضارة الإسلامية القادم، فقد احتلت اللغة العربية هامشاً كبيراً من هذا التصور؛ إذ`هي مكون هام من مكونات الدين الإسلامي وعامل رئيس من عوامل التوحُّد بين المسلمين. ولما كانت فكرته قائمة على أن توزيع اللغات وتزايد انتشارها أو تناقصه مرتبط بتوزيع القوى، كان طبيعياً أن يتوقع تزايد قوة العرب والمسلمين(2).

ويأتي رأي الاديب الإسباني "كاميليو جوزي سيلا"، وهو الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1989، ليثير كثيراً من الجدل في الأوساط الغربية ولا سيما دعاة العولمة؛ ومفاد هذا الرأي أن لغات العالم تتجه نحو التناقص، وأنه لن يبقى إلا أربع لغات قادرة على الحضور العالمي، هذه اللغات هي: الإنجليزية والإسبانية والعربية والصينية. وقد بنى "كاميليو" رأيه على استشراف مستقبلي ينطلق من الدراسات اللسانية التي تعاين موت اللغات وتقهقرها واندثارها(3).
ويتخذ عبد السلام المسدي من رأي "كاميليو" منطلقا ًلتناول القضية ؛ إذ يؤمِّل ان تكون العربية واحدة من اللغات العالمية التي سيكتب لها البقاء. ويرى أن اللغة العربية قد تشكل ، في طموحاتها المستقبلية، أخطاراً حقيقية على دُعاة العولمة الثقافية وسياساتهم التهميشية، وذلك مردود إلى جملة أسباب،هي(4):
1. احتمال تزايد الوزن الحضاري للغة العربية في المستقبل المنظور فضلاً عن البعيد.....فاللسان العربي هو اللغة القومية لحوالي 270 مليوناً، وهو يمثل إلى جانب ذلك مرجعية اعتبارية لأكثر من850 مليون مسلم غير عربي كلهم يتوقون إلى اكتساب اللغة العربية؛ فإن لم يتقنوها لأنها ليست لغتهم القومية فإنهم في أضعف الإيمان يناصرونها ويحتمون بأنموذجها.
2. ولكن العربية تخيف أيضاً بشيء آخر هو ألصق بالحقيقة العلمية القاطعة، وأعلق بمعطيات المعرفة اللسانية الحديثة، فلأول مرة في تاريخ البشرية، على ما نعلمه من التاريخ الموثوق به، يكتب للسان طبيعي أن يعمر حوالي سبعة عشر قرناً محتفظاً بمنظومته الصوتية والصرفية والنحوية فيطوعها جميعاً ليواكب التطور الحتمي في الدلالات دون أن يتزعزع النظام الثلاثي من داخله.
3. أن اللسان العربي حامل تراث، وناقل معرفة، وشاهد حيٌّ على الجذور التي استلهم منها الغرب نهضته الحديثة في كل العلوم النظرية والطبية والفلسفية.

ولما كانت العولمة تسعى إلى أمركة كل شيء، ولما كان خطاب هنتنغتون يشير ضمناً إلى تعاظم خطر العربية، فإنه كان طبيعياً أن يتواطأ الخطاب الثقافي والسياسي الأمريكي مع أداته الإعلامية ليخلق صورة مفتعلة من الصراع بين الحضارة الغربية والإسلام. وتبرز أمثلة هذا التواطؤ في دلالة "الإرهاب" . يقول المسدي:
الإرهاب في خطاب هؤلاء الإعلاميين المتحيزين كما في خطاب( نتنياهو) و خطاب سادته وكبرائه يقدم بعد تشغيل آليات اللغة والسياق والمقام حتى يتم الاقتران الذهني والتوالج النفسي فيتحقق الارتباط، اللاواعي ثم الواعي، بين صورة العربي وصورة الإرهاب. وهذه العملية اللغوية الذهنية النفسية الثقافية هي التي يتم تشغيلها لإحداث اقتران مبطَّن آخر يجمع بين صورة العربي وصورة المسلم ذهاباً ويجمع بين صورة المسلم والعربي إياباً، ثم يمعن الخطاب المخاتل في مزج الأخلاط داخل سلة واحدة هي سلة الإرهاب.وحيث إن كل عربي فمرجعه القومي هو اللغة العربية وإن كل مسلم فمرجعه الاعتباري هو أيضاً اللغة العربية بما هي لغة النص المؤسس فإن اللغة العربية_في استراتيجية الخطاب الكوني المتسلط_ تصبح هي الشرارة الكهربائية المولدة للطاقة الإرهابية(5).

رؤية خاصة:
يدفع الحديث عن مستقبل اللغة العربية إلى التجاذب بين طرفين؛ أحدهما تشاؤمي، والآخر تفاؤلي. أما التشاؤمي السوداوي فينبثق من البحوث والدراسات التي تتناول وجوه تهديد الإنجليزية للغة العربية على نحو خاص، وتلك التي تتناول كثرة المصطلحات التي يتداولها الناس في حياتهم اليومية، إضافة إلى ما يرونه من تشريعات تمكِّن للإنجليزية على حساب العربية. أما التفاؤلي فينطلق من وقائع لسانية موثَّقة؛ كالإقبال المتزايد على تعلم اللغة العربية والأدب العربي، وبلوغ عدد من الأدباء العرب مراتب عالمية.
وما يدفعني إلى التفاؤل أيضًا مسلَّمتان لا مراء فيهما:
الاولى: ارتباط العربية بالقرآن الكريم والدين الإسلامي وممارساته الشعائرية التي ينبغي أن تؤدَّى بالعربية. أما الثانية فهي أن العربية ليست مهددة بالانقراض أو الموت بالنظر إلى معيار العدد الذي يُعْتَمَدُ عليه أساساً في تقدير موت اللغة أو اندثارها.
ومهما يكن من أمر فإن مستقبل العربية مرتبط بمستقبل العرب والمسلمين، وهو مستقبل ضبابي غير واضح المعالم. وأحسب أن ثمة عوامل يمكن أن تهيئ للعربية مكانة ممتازة بين اللغات العالمية، وهذه العوامل متداخلة يمتزج فيها السياسي بالاجتماعي، والاقتصادي باللغوي بالتقني ، وكل ذلك يلابس القومي والديني والثقافي.

والعوامل المقصودة هي:
• اعتماد اللغة العربية في بناء مجتمع المعرفة. فقد أظهر تقرير التنمية الإنسانية العربية(2003) أن اللغة العربية مهيأة لتلعب دوراً فاعلاً في بناء مجتمع معرفة عربي يستقبل المعرفة وينتجها بالعربية؛ وذلك أن تزايد أهمية البعد اللغوي في تقانة المعلومات والاتصالات ، وخاصة مع انتشار الإنترنت، يمكن أن يفضي إلى أن تصبح اللغة العربية من أهم مقومات التكتل المعلوماتي ومقابلة التحدي الذي تواجهه البلدان العربية في المنطقة(6). وأما كيفية ترقية العربية لتكون لغة المعرفة، استيعاباً ونشراً وتوثيقاً وحفظاً وتوليداً وتوظيفاً، فقد ضمَّنتها أطروحتي " العربية لغة للمعرفة_ نحو بناء مجتمع معرفة باللغة العربية، ولا ضير أن أورد هنا أهم عناصر تلك الأطروحة(7):

- القسم الأول: إبطال الشبهات المثارة حول اللغة العربية. وهذه الشبهات هي: فضل العامية على الفصحى، وعدم علمية اللغة العربية، وصعوبة الكتابة العربية وتعقيدها، وتخلف العربية عن مطاوعة الحاسوب.

- القسم الثاني: تهيئة العربية لبناء مجتمع المعرفة. وإنما يكون ذلك بـ:
1- تعريب الحاسوب ومنزلته في دعم اللغة العربية.
2- ترقية الدراسات اللسانية العربية.
3- اللسانيات الحاسوبية العربية.
4- تعليم اللغة العربية لأغراض خاصة.
5- تطوير تعليم اللغة العربية وآدابها ومهاراتها.

- القسم الثالث: منزلة العربية في بناء مجتمع المعرفة العربي. ويتضمن:
1- اللغة العربية والنفاذ إلى مصادر المعرفة.
2- اللغة العربية ونقل المعرفة واستيعابها.
3- اللغة العربية ونشر المعرفة.
4- اللغة العربية وتوثيق المعرفة وحفظها.
5- اللغة العربية وتوظيف المعرفة.
6- اللغة العربية وتوليد المعرفة.
ومستصفى هذه الأطروحة أنه لا يمكن لنا بناء مجتمع معرفة عربي إلا باللغة العربية، وأن التعليم باللغات الأجنبية يمثل عائقاً مهماً وكبيراً في سبيل نشر المعرفة وتعميمها في الوطن العربي؛ إذ إنه يقوي نزعة الطبقية العلمية والمعرفية التي تنتهي إلى أن لا يُحَصِّل المعرفة إلا من يتقنون اللغات الأجنبية!
• اللسانيات الحاسوبية العربية. يمكن القول إن ثمة ربطاً مطَّرداً بين تقدم اللسانيات الحاسوبية العربية ومنجزاتها وتقدم العربية وتهيئتها لمستقبل أفضل؛ وذلك أن تعريب الحاسوب وملحقاته ومعداته سيكفل توفير برامج عربية صالحة للمجتمع العربي، ما يسهم في تحطيم احتكار الإنجليزية للحاسوب، وهو ما يؤدي أخيراً إلى أن يكون كل عربي، يعرف الإنجليزية أو لا يعرفها، قادراً على استعمال الحاسوب، وبذا تُوطَّن المعرفة الحاسوبية في بيئة عربية خالصة، وهذه هي أولى خطوات بناء مجتمع المعرفة المنشود.
ولا يغيب عن حصيف أن أي نجاح في اللسانيات الحاسوبية العربية سينعكس على كثير من مجالات العربية، وذلك مثل تعليمها لأبنائها وللناطقين بغيرها، وتيسير التواصل مع المسلمين من غير العرب. ويظهر أن ثمة عوامل تجعل من تعريب الحاسوب قضية مصيرية في الصراع الثقافي واللغوي المحتدم في العالم، من هذه العوامل :
1. استخدام كثير من الشعوب الحرف العربي، وهذا يجعل من إدخال الحروف العربية الحاسوبَ فرصة عظيمة للمحافظة على استخدام هذا الحرف، ودفْع هؤلاء الناس إلى مزيد من المساهمة في تطويع الحاسوب للعربية. ولن تعدم هذه الشعوب (كالباكستان وإيران) عقولاً فذّة تنجز ما نسعى إليه، وهكذا يحقق علماء هذه الدول هدفاً خاصاً بلغتهم وهدفاً عاماً يخدم الحرف العربي.
2. إلْفُ كثير من الشعوب التي تستخدم الحرف العربي بالعربية يدفعهم إلى الإقبال على تعلمها ونشرها.

• النشر الإلكتروني باللغة العربية :

معلوم أن الإنجليزية هي اللغة الأكثر انتشاراً واستخداماً على الشبكة الدولية، ولعل هذا حفز كثيراً من الأمم الساعية إلى النهضة إلى محاولة استثمار الشبكة لنشر لغاتها وثقافاتها؛ فهي الوسيلة الأسرع والأكثر تداولاً وانتشاراً. ولعل الأمة العربية قد بدأت تتيقن من هذا الأمر، وأنه لا سبيل لجسر الهوة بيننا والآخر إلا باستعمال وسيلته التي يهيمن بها على العالم؛ لذلك عنيت البلاد العربية بالتوسع في النشر الإلكتروني وتطبيقاته المتعددة، ولكن هذا النشر ما يزال يقصِّر عن المؤمل، وتغلب عليه الفردية والعشوائية، وإن كانت بعض المؤسسات العلمية تكثف جهودها في هذا المجال، وكذلك الصحف ودور النشر ومؤسسات التقنية ، وبعض مراكز الدراسات والأبحاث المختلفة.
• الإفادة مما تزخر به الشبكة العالمية من مواقع لتعليم اللغة الإنجليزية وتعلمها للناطقين بها وللأجانب، وتطوير مواقع مشابهة لخدمة اللغة العربية وتعليمها.
تعاني اللغة العربية مشكلات كبيرة في مجال التعليم والتنظير والحوسبة. إذ ما تزال أساليب التدريس المتبعة أسالب تقليدية تعتمد على أسس تربوية أكثر من اعتمادها على الأسس اللسانية؛ لذلك ترى هذه الأساليب تُقَصِّر عن أن تبلغ بالمتعلم الكفاية اللغوية المناسبة، بل إنها لا تبلغ به الحد الأدنى من إتقان مهارات اللغة العربية. ومنبع هذه المشكلات ضعف التنظير لمنظومة اللغة العربية واستثمار النظرية اللسانية في وصفها ووضع المناهج الملائمة(8). ولعلنا محتاجون إلى استثمار الوسائط المتعددة ، ووسائل النشر الإلكتروني لتدعيم تعليم المهارات اللغوية وتنمية مهارات التعلم الذاتي ؛ تقليلاً من حدة مركزية الكتاب والمعلم في الدرس الصفي.
أما في مجال تعليم العربية لغير الناطقين بها فإن الأوضاع سيئة للغاية؛ إذ قلما تجد لسانياً يدرسها للأجانب، بل قد تجد من ليس متخصصاً في العربية يقوم على تدريسها في بعض المراكز العلمية العريقة! وما يزال استثمار شبكة المعلومات والوسائط المتعددة في تعليم مهارات العربية للأجانب قليلاً ونادراً.

• نشر العربية في الخارج. وإنما يكون ذلك بافتتاح المدارس العربية التي تعتني بتدريس العربية والثقافة الإسلامية، لتعليمها لأبناء الجاليات العربية والمسلمة، وشدهم نحو التراث الذي تحمله العربية. ولعل تقديم المنح للطلبة الراغبين في تعلم العربية ونشرها، ولا سيما من المسلمين يكون نافعاً لنا، ولا سيما في زمن يكثر فيه اللغط حول صراع الحضارات أو حوارها.
• التخطيط اللغوي السليم. وهويكاد يكون معدوماً في البلاد العربية؛ ويتمثل ذلك في غياب سياسات لغوية عربية تسهم في حل كثير من القضايا اللغوية العالقة في المجتمع العربي، وتحدد موقفنا من كثير من الموضوعات الحاسمة المرتبطة بتنمية مجتمعاتنا وترقيتها. ولعل أهم الموضوعات التي نحتاج التخطيط اللغوي لتدارسها:
- الازدواجية اللغوية والتحول نحو الفصحى.
- تعريب التعليم، ولا سيما في الكليات العلمية والطبية.
- الترجمة. الحد من فوضى الترجمة ووضع سياسات ترفع من شأنها في نقل المعرفة، ونقل المجتمع من الجهل إلى المعرفة، وتوحيد جهود الترجمة وتنسيقها، وتأهيل المترجمين.
- تعليم اللغات الأجنبية. إذ إن تعليم اللغات الأجنبية في العالم العربي يسير على غير هدى ودون تحديد واضح للأهداف الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي نرومها من انتقاء لغة معينة، ودون استثمار هذه اللغة لخدمة مجتمعاتنا وقضايانا الرئيسة.
- تعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها، وهذا باب يكاد يكون عشوائياً، ولا يقوم على أسس علمية تحدد كثيراً من القضايا المعلقة ك: هل نعلم العامية أم الفصحى؟ وأي فصحى نعلم؟ وما أهدافنا من تعليمها للمسلمين؟ وما أهدافنا من تعليمها لأبناء الجاليات العربية في المهجر؟ وغيرها.
ولا شك أن ثمة محاولات فردية أو مؤسسية للتخطيط اللغوي، ولكنها تفتقر للتنسيق والترويج والدعم الرسمي. ولعل أهم وجوه التخطيط اللغوي العربي تتمثل في جهود المجامع اللغوية في تعريب التعليم ووضع المصطلح ووضع المعجمات الاصطلاحية. أما المحاولات الفردية فلعل أهمها أطروحة نهاد الموسى في " قضية التحول إلى الفصحى في العالم العربي الحديث" ، وهي تدابير إجرائية في التعليم ولغة الطفل والإعلام لتصير العربية الفصحى لغة تخاطب يومي.

• استثمار العامل الاقتصادي:
لا يغيب عن فطن أن العوامل الاقتصادية في هذا العصر العولمي تتحكم في نواحي الحياة المعاصرة كلها: السياسية والاجتماعية والاقتصادية واللغوية(9). ولا خلاف أن العولمة قد خلقت سوقاً من نوع جديد، سوقاً لغوية تتفاوت فيها اللغات قوة وضعفاً، انتشاراً وانحساراً، كما تتفاوت في قيمتها الاقتصادية من حيث الإنتاج والعوائد الاقتصادية، وارتفاع أسهمها أو انخفاضها؛ إذ لم يعد عدد الناطقين باللغة وحده كافياً لقوة اللغة أو ضعفها، إنما تدعمه عوامل اقتصادية بحتة.
ولا اختلاف على أن اللغة الإنجليزية تحتل المرتبة الأولى من الناحية الاقتصادية، ويتمثل ذلك في:
- أنها اللغة المصدر الأولى في الترجمة إلى اللغات الأخرى التي يرغب أهلها في نقل المعارف والعلوم المحفوظة بالإنجليزية.
- أن من يتقن الإنجليزية، على المستوى الفردي، مؤهل لشغل وظائف دولية وعالمية، أو يسمح له ذلك بممارسة الأعمال التجارية الدولية مع البنوك والشركات والمؤسسات الدولية التي تعتمد على الإنجليزية لغة رئيسة للتواصل.
- ويترتب على النقطة المتقدمة أن هؤلاء الأفراد قادرون على تحصيل رواتب مرتفعة وقد تكون مرتفعة جداً، من ثم يستطيعون العيش في مستوى اقتصادي مرتفع.
- أن اللغة الإنجليزية تمثل مصدر دخل مهماً للولايات المتحدة وبريطانيا؛ إذ يكثر إقبال الناس على تعلمها؛ لأنها لغة العلم والمعرفة. ويتمثل ذلك في المبيعات الهائلة للكتب المكتوبة بالإنجليزية، إضافة إلى عوائد تعلمها لغة أجنبية أو ثانية المتمثلة في بيع الكتب والوسائل والمواد التعليمية، إضافة إلى ما تنفقه الدول في تعليمها حين توفد أبناءها لتعلمها. وقل مثل ذلك عن المواد الإعلامية والثقافية والسينمائية......إلخ.

وكلما أتقن الفرد لغات أكثر كانت فرصته في تحقيق دخل مرتفع أكبر وأعظم.
أما اللغة العربية فإن أهلها لم يستثمروا العوامل الاقتصادية المتاحة لإنزال العربية منزلة عظمى تليق بها كما فعل المتقدمون؛ فقد تهيأت لنا فرصة ممتازة لنشر العربية ودعمها باستثمار العوامل الاقتصادية التي نشأت عن اكتشاف النفط في العالم العربي، وما ترتب على ذلك من تهافت الشركات والدول الأجنبية على الاستثمار في قطاع النفط وما يرتبط به من الخدمات والصناعات الضرورية. فإذا نظرت إلى دول الخليج العربي وجدت أنها تحولت إلى مجتمعات متعددة اللغات، فيها العربية والإنجليزية والهندية والفرنسية والسريلانكية وغيرها من لغات الوافدين للعمل في هذه الدول، ولعل أعجب ما تراه العين أن يتحدث إليك الهندي في دبي بغضب شديد لأنك لا تفهم لغته الهندية!
كما لم تستثمر البلدان العربية علاقاتها التجارية مع الدول الإسلامية المتقدمة لنشر العربية وترقيتها إلى مصاف اللغات العالمية، كماليزيا والباكستان وإندونيسيا وإيران. ومها يكن من أمر فإن الفرصة ما تزال قائمة لاستثمار مثل هذه الظروف، وهذه تدابير مقترحة تسهم في تدعيم منزلة العربية وترقيتها عالمياً من الوجهة الاقتصادية:
• اشتراط إتقان اللغة العربية للعمالة الوافدة إلى البلدان العربية.
• افتتاح مراكز ثقافية في السفارات العربية تقدم دورات تعليمية باللغة العربية للخبراء والمتخصصين الراغبين في العمل في الوطن العربي مدفوعة الأجر.
• اشتراط ترجمة كل ما يكتب على البضائع المستوردة إلى اللغة العربية، وعدُّ هذا المطلب شرطاً للتعامل التجاري مع الشركات والدول المصدرة. ولا أحسب أن دولة أو شركة ترفض هذا الطلب وتفرِّط باستثمارات ضخمة مقابل مطلب صغير لا يكلف مبالغ ضئيلة.
ولعلنا نقتدي هنا باليابان التي تقدم دورات مجانية باللغة اليابانية لكثير من الدول العربية، تعزيزاً للروابط الاقتصادية، ورغبة في دخول الأسواق العربية والمنافسة فيها.

ولعلنا نذكر صنيع اليابان عندما فرضت على أكبر الشركات والمصارف الأمريكية ان تتعامل باللغة اليابانية، فكان لها ما أرادت. ولسنا أحسبنا عاجزين عن فعل ذلك، بل متعاجزين!
--------------------
الهوامش:
1. وليد العناتي، العولمة اللغوية، مجلة البصائر، جامعة البترا، م6 العدد2/2004 .
2. صمويل هنتنغتون، صدام الحضارات ص98-106 .
3. عبد السلام المسدي، العولمة والعولمة المضادة ص390.
4. نفسه،389_390.
5. نفسه، 392.
6. تقرير التنمية الإنسانية العربية 2003، ص121.
7. وليد العناتي، العربية لغة للمعرفة، مجلة البصائر، عمادة البحث العلمي بجامعة البترا الأردنية الخاصة، مجلد 9/عدد2/2005 .
8. نبيل على ونادية حجازي، الفجوة الرقمية، ص: 371-376. وانظر، لتفاصيل وافية : نهاد الموسى، الأساليب في تعليم اللغة العربية.
9. معلومات وافية عن علاقة اللغة بالاقتصاد في كتاب فلوريان كولماس الممتاز "اللغة والاقتصاد.

------------------
د. وليد العناتيّ - جامعة البترا
Anati_waleed@hotmail.com

Air Jordan 1 GS

التصنيف الرئيسي: 
التصنيف الفرعي: 
شارك: